رواية غوى بعصيانه قلبي الجزء الثاني للكاتبة نهال مصطفى الفصل الرابع والثلاثون
الإنسانُ بغيرِ أنيسٍ تأكله الغربةُ، يهزمُه طولُ الطريقِ
تغلبُه أهونُ المخاوفِ حتى تقبضَ يدٌ أخرى على يديه، فيطمئن، ويواجهُ، ويرى العالمَ من جديد…
دومًا ما يتكرر أمامي جُملة ومن الحُب ما قتل
لِمَ لم يُقال ومن الحب ما يُحيي ، ما ينعش القلب الهالك؟
مثلما أُنقذَ قلبي بحبك فلم أعرف معنى الانتصارَ على جيش الحياة إلا عندما أحبَبتني.
حبك حياة…
كلا ؛ بل أحيا بحبك،
خلق القلب عصيًا.
-سر! سر أيه يا سيدة.
-بخصوص ست مها.
ثم رفعت عينيها المذعورة وأكملت: -ست مها اتقتلت، مش موتة ربنا.
لم ير إلا عتمة سوداء تُشبه فَراغ روحه وظله المفقود. عقد حاجبيه مشدوهًا: -يعني أيه؟ ازاي. مها ماتت لأنها كانت تعبانة.
ردت على الفور بأسف: -محصلش.
-وأيه اللي حصل يا سيدة؟
-هحكي لك. بس الأول لازم تعرف إني والله سكتت من خوفي عليك وعلى أهلى، كنت هتجنن أكمل واسكت ولا أمشي واستنى مصيري.
بلهفة لسماع الحقيقة قال: -ادخلي في الموضوع يا سيدة…
شرعت سيدة في سرد ما رأته قبل ست سنوات بارتباك يتقاذف من بين كلماتها. والنبش في مقبرة ذكرتها الأليمة مع سيدات المحلاوي ذواتا المكانة المرموقة بالمجتمع.
بالزاوية الأخرى لملتقى عاصي وسيدة، يقف مُراد مع عالية يتبادلن الحديث الهامس بينهم وهي تسأله: -عشان كده نزلت؟
رد بنبرة يملأها الاضطرار: -خالتي يا عالية.
بلعت غصة قسوتها الثقيلة على قلبها: -طيب هي فين؟ أنا عايزة أشوفها. يمكن تتكلم ولا تقول حاجة يا مراد.
رد بأسف وهو يتلقى بإبهام العبرة المنبثقة من طرف عينيها: -مش هتستفيدي حاجة يا عالية. دي مكنتش عارفاني ولا فاكرة هي مين.
ثم زفر ليتخلص من نار الحزن: -الحادثة أثرت على عقلها.
فاقترب من زوجته خطوة إضافية وهو يمسح على شعرها مواسيًا: -وعد أول ما تتحسن هاخدك ونروح لها.
استندت برأسها على صدره حيث ملجأها ومأمنها الوحيدة بالحياة التي جردتها من كل معالم العائلة. همست بخفوت: -أحنا مش هنرجع بيتنا وكفاية كده عند طنط سوزان!
عودة لعاصي وسيدة.
دلو مثلج انسكب فوق رأسه وهو يتلقى بحقيقة جريمة آخرى لعبلة التي كان يثق بها يومًا ما ثقة عمياء. كل الجروح تطيب وتندمل ولها آخر وموعد مع الزمان لتنتهي إلّا جرح واحد مهما هربت منه يلحقك أينما ذهبت، فلا مفر من الهرب وتضطر حتمًا لمواجهته، مواجهة قلب لسيف قاتل، تعرف أنها حرب ليست عادلة ولكن تلك هي ساحة الحياة الحقيقية يا عزيزي. ويستمر القتال بينهما فلم يكُف نصل السيف عن تمزقه ولم يُنبت لقلبك درعًا واقيًا ليحميه من تلك التسديدات المؤلمة، ويبقى الحال مثل ما هو إلى أجلٍ غير معلومٍ.
طافت عيني سيدة حائرة في بحر شرود وهدوء عاصي حتى تمتمت بخوفٍ: -عاصي بيه! أنت سامعني؟
رد بثبات مريب: -وأنتِ سكتي ليه كل ده يا سيدة؟
-قولتلك خُفت عليك، عارفة لو كنت اتكلمت وقتها غضبك كان هيعميك، والبنات هيتربوا من غير أب ولا أم. أنا فكرت فيك وفيهم…
هز رأسه متفهمًا وهو يُطالع مُراد بأعين ثاقبة، ويراقب حنانه ولطفه مع عالية. بلع غصة وجعه وقال: -لو كنت عرفت وقتها كان البيت ده هيبقى رماد، كنت همحي نسل المحلاوي من على وش الأرض. بس جيتي متأخر أوي يا سيدة، جيتي في الوقت اللي أخدت فيه القرار إني أحافظ على اللي ليا من مها وبس.
تمددت ملامحه المكدسة بشحنات الغضب وكأنه يقاومها أن اهدأ: -عالية قالت جملة واحدة كافية أنها تصبرني بقيت عُمري، كل واحد هياخد العقاب اللي يستحقه بس الصبر.
ألقى نظرة أخيرة على مراد الذي لم يكف عن مواساة زوجته وتنهد قائلًا: -العداوة دلوقتِ هيكون تمنها قلوب كتير ملهاش ذنب.
تقدمت سيدة إليه بعويناتها المحمرة وهي تربت على كتفه: -سامحني يابني، أنا ست قليلة الحيلة وبتجرى على لقمة عيشها. بس العمر مش مضمون وأنا تعبت من دفن السر ده.
تقبل جمر الأمر بنفس راضية وهو يدسه بقلبه وقال: -وهيكمل سر ما بينا يا سيدة، مش مستعد لخطأ جديد بناتي هما اللي يدفعوا تمنه.
اقتربت منه سيدة راجية: -طيب أنا ليا طلب ومتكسفنيش فيه يا بني.
توقف عاصي عن مغادرته ووأشار بمقلتيه كي تكمل طلبها على الرحب، فأكملت بترجي: -خدني معاك، عايزة أكمل اللي باقي من عمري معاكم. هعيش أخدمكم برموش عيني والله، متكسفنيش.
فكر للحظات وهو يفكر في خطّته المستقبلية للاستقرار بالغردقة وأنه بحاجة إلى شخصٍ أمين يأمنه على بناته وزوجته. رد بتقبل: -موافق. بس الأول خدي إذن تميم، وجهزي حاجتك وخلي السواق يوصلك لشقتي.
هللت سيدة بفرحة: -الله يكرمك يا عاصي يابني. حالًا هروح اجهز وادي خبر لتميم بيه.
بالطابق الأعلى.
ثمة أشياء على المرء أن يتخطاها إجبارًا دون أن يخبر بها أحد. تقف نوران في شرفة الغُرفة وهي تعاني ألم النقصان، الفراغ والخلو الذي ملىء صدرها للتو. تقف عاجزة بأيدٍ مغلولة مكبلة، حائرة، تنزف من مقلتيها دمًا يحفر وديانًا بوجنتيها. ألقت نظرة طويلة على صورته بهاتفها وهي تكبرها لترسو فوق ملامحه بكف مرتعش. وقررت أن تعترف لصورته قائلة بنبرة يرتجف فيها قَلبها ک طفلٍ إغتَسل بماءٍ بارد في فَصل الشِّتاء: -أنا كمان مش عايزاك تمشي. خليك جمبي، أنا حاسة بحاجات كتير كلها عكس بعض ومش فاهمة، ومش عايزة أجرى ورا عواطفي وأقول لك عايزك معايا. طيب هو مفيش حل تاني غير السفر! طيب قول لي أنا هكلم مين أول ما اقع في أي مشكلة! أنت متعرفش أنا اتعودت على وجودك طيب! ههون على قلبك يسيبني ويسافر! طيب حتى لو لساني مقالش الكلمة اللي مستنيها، معقولة عيوني عرفت تداري عنك مشاعري!
أسوأ شعور يمكن أن يواجه المرء على الإطلاق هو عدم معرفتك إذا ما كان عليك الانتظار أو الإستسلام. وذلك الوميض الذي لمعت به أعين كريم وهو يرفع رأسه لأعلى ليقلي نظراته الأخيرة على الغرفة التي أعتاد عليها أن يطل منها قمره كل ليلة. تراجعت نوران للخلف كي تتواري عنه وتختبأ من جرف نظراته التي تلومها حتى باتت رؤيتها له سرابًا، صعد سيارته مرغمًا على الانسحاب من أول معركة قادها قلبه، لم يتقبل الهزيمة ولكن لا يوجد ما يمكنه المحاربة لأجله…
(كُلنا هارِبون يا صديقي مِن الحُب ومِن الأماكن التي تحمل رائحته ومِن الأشخاص الذين هزمونا من قبل وربما من أنفسنا المحملة بمذاق الخيبات. كُل مِنا لديه سببٌ للهروب مُختلف عنّ الآخر ولكِن نحنُ مجتمعون في الهربّ مِن شيءٍ ما. )
بغُرفة تميم.
قررت أن تغتال جمة المشاعر المتضاربة التي أحدثها الحُب قبل قليل. تجاهلت خرائط الحب المطبوعة على لوحة جِرمها والتي أدت بها للوصول لأعذب نهر بالحب ألا وهو الارتواء. لم تصدق ما حدث وكيف للحظات معدودة حالت بها لكل تلك الأحداث. فجأة تحولت من مجرد معجبة تختلس النظرات منه سهوة ل مملوكة لهذا الرجل الذي مال له قلبها.
تذكرت اعترافها الصريح لحبه وهي تحت مخدره المسكر فخجلت من نفسها كثيرًا ولجأت لصنبور المياه لتغسل وجهها عدة مرات ربما يزول عنها الالتباس. جففت وجهها وبالمنشفة وعادت إلى مخدعها الذي طاحت بمنتصفه فلم تتذكر أي شيء إلا جملة المشاعر التي ملئتها.
شرعت في تبديل كسوة السرير، حيث أتت بمفرش أخر غير الذي خُتم بوسام زهرة الحب بارتباك يبدو بخطواتها العشوائية. ألتوى مقبض الباب يعلن قدومه خاصةً اقتحامه للغرفة بدون أذنٍ مسبق كعادته. رتبت الوسائد متحاشية النظر إليه تمامًا، اتسعت ابتسامته عندما التقم تصرفها الطفولي وقال ممازحًا:
-أيه ده؟ أنتِ لحقتي تلبسي!
وثبت مهزوزة وهي باستحياء لا تجرؤ أن تطالعه. أن تتقابل أعينهم من جديد. كادت أن تنصرف من وجهه ولكنه عاق طريقه ببنيته الصلبة وهو يقف أمامها: -على فين! مش بكلمك؟
ملامحها تعج بالحياء وهي تنظر في كُل الاتجاهات إلا الجهة المؤدية لعينيه. فأمسك بذقنها وثبت وجهها نحوه قائلًا بهيبة: -شمس!
تمتمت بخفوت وصوت مبحوح: -نعم!
بنبرة عاشق مستهام أردف: -مبروك يا أحلى عروسة.
-هاه؟
بضحكة رزينة مبطنة بالهدوء أكمل ملاطفًا: -هاه أيه بس دلوقتِ؟ أنتِ معايا الأول؟
اختصرت قائلة: -شكرًا.
-شكرًا! شكرًا على أيه. لا دي ما يتقالش عليها شكرًا خالص.
لمعت عينيها العضو الوحيد المتحرك بجسدها المتصلب أمامه وسألته: -عايزني أقول أيه؟
بخُطى وئيدة منجذبًا إليها وهو يقبل على تذوق شجرته المحللة: -أي حاجة غير شكرًا دي. وبعدين فين لسان شمس اللي أطول منها، السكوت ده مش معقول!
همست شفتيها باسمه بتقطع حرك جوارحه من جديد وهو يراوغ عن قرب قطعة التوت التي جملت حروف اسمه وقال متيمًا: -تعرفي كنت برتب كتير باليوم ده. كنت عايز كل تفصيلة فيه مترتبة، بس اكتشفت أنها حاجات ماينفعش يترتبلها، زي الورد نخطفه خطف ونجري قبل ما حد يشوفنا.
تعالت أنفاسها وهي تُرحب بقربه الذي أنعس عقلها المتقلب في بعده. فأوقفته متحججة بقلقل: -تميم.
تنهد بعودة للواقع: -نعم يا شمس.
-أنتَ عملت أيه مع عاصي وعالية،؟
-وده وقته يا شمس!
ثم غمغم متقبلًا: -هي جات على دي! أنتِ كل المواعيد معاكي بالعكس.
-مش فاهمة حاجة! بتقول أيه؟
دنى منها الخطوة الفاصلة وقال: -عايز اسمع واحدة كمان بحبك!
اتسع بؤبؤ عينيها بدهشة من جرأته: -تميم بس بقا. وبعدين سيبني دلوقتِ أحاول استوعب اللي حصل ووو بص أنا هروح اشوف نوران…
أمسك ساعدها ليوقفها معاتبًا: -خدي هنا، بقا أنا جاي اطمن عليكِ. وأنتِ تقولي نوران؟
بللت حلقها حتى برزت عروقها: -أنا. أنا كويسة.
اندس كفه تحت شعرها وسألها بنبرة أحن: -كويسة كويسة، ولا كويسة ومش كويسة؟
-أنااا. ااه كويسة؟
-يعني نكمل كلامنا بتاع الصبح؟
ثم ضاقت عيني محتجًا وهو يتراجع بها للخلف: -كنا وصلنا ل قولتلك ممكن أمشي وانت رفضت وبعدها حصل أيه؟
فعقد حاجبيه مستفسرًا بمكر ثعلبي: -فاكرة؟
تبسمت باستحياء وهي تهوده بدون تمرد بل معجبة بطريقة تسلله لقلبها ولقربه، ف ردت عليه بتأن: -تؤ. مش واخدة بالي.
-بس أنا فاكر ومعنديش مانع أفكرك…
استهل أن تشرق على صدره والشمس للآخرين فتبلور قلب تميم عندما سطعت شمسها أمامه بملامحها المتمدة التي تستقبله بلهفة ممزوجة بعطر الحياء الذي يجمل أي أنثى. صارت النظرات بينهم تتعانق وتقبل بعضها البعض، وهاجت القلوب لتبدأ فصلًا جديدًا من الحياة بصوت ببلابل العشق. في تلك اللحظة جاءت العاصفة لتشتت سِرب الطير، فتفرق الجمعان فجأة، لعن تميم ذلك الحظ فتقدم مندفعًا إلى الباب مكتظًا بالغضب فإذنٍ بسيدة تقف أمامه مبتسمة:.
-تميم بيه، هو أنا ممكن امشي اشتغل عن عاصي بيه.
ما زال تحت سطوة عواطفه وعواصفه الغاضبة محاولًا العودة من بلدة الحُب وقال مندفعًا: -روحي يا سيدة. بصي تصريحك مفتوح مكان ما عايزة تروحي روحي.
هللت فارحة وهي تركض على الدرج: -بجد يا تميم بيه. حاضر حاضر. ربنا يكرمك ويخليك ويسعدك دنيا وآخرة.
خبط الباب خلفها بامتعاض وما ألتف خلفه فوجدها اختفت من الغرفة مختبأة بالحمام، ضرب كف على الآخر وقال وهو يأخذ سترته السوداء: -مبدهاش بقا نشوف شغلنا…
ثم جهر مزمجرًا: -وانتِ خلي الحمام ينفعك.
ضحكت بصوت مكتوم وهي تراقب ملامحها المشرقة بالمرآة بعد ما عانقتها نجوم السماء. فتم هلالها وأصبح بدرًا ساطعًا بتميم روحها التي أكتملت بوجوده…
بالسيارة
بعد شرود وتفكيرٍ طويل قطعت عالية الصمت السائد بينهم وقالت بتوجس:
-على فكرة أنا سمعت كلامك مع طنط سوزان. وبحاول افهمه بس مش عارفة، مراد أنت مخبي عني أيه. وتحليل أيه اللي منتظرين نتيجته.
ثم ابتلعت حيرتها وأتبعت: -مراد أنت مخبي عليا أيه؟
بهدوء تام صف سيارته جنبا مستغرقًا أطول وقت ممكن في التفكير: -وأنتِ سكتتي ليه!
-معرفش، حسيت إني لازم أفهم منك الأول، كنت تايهة ومتلخبطة.
ثم مسكت يده متوسلة: -أنتَ وطنط سوزان مخبيين عليا أيه! أنا حاسة بحاجة غريبة وبحاول أكذب نفسي بس الشعور ده مش مفارقني…
سألتها مستفهمًا: -حاسة بإيه يا عالية؟
-وقفتها جمبي، إصرارها نكون معاها في الوقت ده، اهتمامها بيا وبكل تفاصيلي لبس وأكل ونظراتها طول الوقت. عيونها فيها كلام كتير ملخبطني. طيب هي علاقتها كانت بعبلة إيه يخليها تعمل معايا أنا كده!
فك حزام الأمان الذي يكتفه ودار إليها قائلًا: -مش من فراغ يا عالية، أنتِ معاكي حق طبعا.
-حق في أيه يا مراد.
-بصي أنا مكنتش ناوي أقول لك حاجة غير لما نتأكد، محبتش أعلقك بأمل وهمي. كنت مستني نتأكد ووقتها هقول لك كل حاجة.
امتلأت عينيها بالدموع: -في أيه يا مراد؟
-أهدى وهحكي ليك كل حاجة يا عالية.
مساءً
-خلاص يا يونس. خلصنا كُل حاجة ونازلين أهو.
قالت حياة جُملتها وهي تتحدث في الهاتف مع أخيها بعد ما انتهت من ضب حقائبها واستعدادهم للعودة للغردقة. دخل عاصي الغرفة فسألها بهدوء:
-نسيتي حاجة.؟
-لا ده يونس كان معايا على التليفون. أنا تمام. وأنتَ.
رد بتلقائية: -مستنيكي.
اقتربت منه بخطوات وئيدة: -عاصي أنتَ متأكد أنك كويس، مش عاصي اللي أعرفه. فيك حاجة متغيرة من وقت ما رجعت.
تجاهل الكم الهائل من اسئلتها واكتفى قائلًا: -سيدة والبنات تحت في العريبة، يلا عشان منتأخرش عليهم.
أوقفته بشكٍ: -طيب أنتَ متأكد أنك عايز تعمل كده! إحنا فيها ممكن…
فقاطعها قائلًا: -لا أنا تمام. يلا ننزل.
خرج الثنائي معًا وهما يطفئان الأنوار مع خطواتهم متشابكين الأيدي حتى قُفل الباب على الشقة التي جمعت شملهم من جديد متجهين إلى عالم آخر وحدوتة جديد، يا ترى ما الذي تحمله بين طياتها.
بقصر دويدار
تجلس نوران تائهه كنجوم فقدت ليلها أمام التلفاز. جاءت إليها شمس من باب القصر متعجبة من قرار تميم المفاجئ. قعدت بجوار أختها متعجبة: -نوران هو مفيش مذاكرة، شايفة أن ده وقت تليفزيون؟ مالك، أيه مزعلك.
ردت بفتور: -مالي. مخنوقة شوية.
-طبيعي كل ما تقرب الامتحانات هتحسي بالضيق بس مش معنى كده تستسلمي لده وتمشي ورا هواكي؟
-شوية وهبقى كويسة ياشمس، متشغليش بالك.
شمس بعدم تصديق: -طيب أنا عايزة أقول لك حاجة.
-قولي، بس الله يكرمك بلاش نجيبلي سيرة المذاكرة.
اقترب منها شمس قليلًا وسألتها: -فاكرة عمتك تحية. عمتك اللي أحنا عشنا بنتحاسب على غلطها عمرنا كله.
ردت نوران بتأفف: -الله يرحمها مكان ما راحت يا شمس تلاقيها ماتت وشبعت موت. ليه بس السيرة دي؟
-هي فعلت اتوفت. بس عمتك تحية تبقى هي أم عاصي.
انفرج فاه نوران بصدمة عقبتها ثرثرة زائدة: -أيه؟ ازاي؟ استني يعني عاصي يبقى ابن تحية اللي هي أخت بابا اللي هربت، يعني عاصي اللي مش ببلعه ده يبقى ابن عمتي. شمس انا دماغي لفت بيا!
ردت شمس باختصارٍ: -أيوة. عاصي يبقى ابن عمتنا، وده السبب ال جابنا عشانه هنا.
أكملت نوران بتعجب: -يعني مش موضوع إيجار وفردة الصدر ال دخل علينا بيها دي؟ يخرب عقله د…
قاطعتها شمس بحدة: -عيب، اتكلمي عنه كويس.
-شمس أنتِ مستوعبة أحنا مرينا بأيه وهو عمل أيه، وليه أصلًا؟
بررت شمس تصرفاته موضحة: -كانت عايز يحمينا من عبلة، لانها لو عرفت مش بعيد تأذينا.
اندفعت معارضة: -وهو كده حمانا؟ بصي أنا مستحيل أصدق أن في صلة قرابة تربطني باللي اسمه عاصي ده. يابنتي أنا مش بطيقه، بشوفه كإني شوفت عفريت. دا أنا كنت بعصر على نفسي شجرة لمون لما باجي أكلمه!
-اللي حصل بقا، أنا قولت أعرفك بس عشان متقوليش بخبي عليكِ حاجة…
آتى تميم مع نهاية جملتها وانضم إليهم قائلًا: -أيه قولتي لها يا شمس!
ردت نوران بدون تفكير: -قالت لي، آخر حاجة كنت اتخيلها عاصي ده.
صححت شمس وجهة النظر وبررت: -لا لسه، تميم بيسألنا عشان مشى كل الشغالين اللي هنا. وهنسكن في شقة تانية؟
-نعم! أيه القرارات المفاجأة دي؟ ليه كده.
وضح تميم مغزى قراره: -القصر كبير علينا والشقة أأمن لينا. متقلقيش أوضتك جاهزة ومش عليكي غير تاخدي كتبك ونروح هناك.
فأتبعت شمس: -هنمشي أمتى؟
-وقت ما تجهزوا. على مهلكم. بكرة بعده، آخر الأسبوع، زي ما تحبوا.
بأجواء مشحونة تجلس سوزان على مقعدٍ منفرد أمام الأريكة التي تجلس عليها عالية مستندة على كتف مراد. صمت مريب يملأه الخوف والأمل. والكثير من الذهول. عندما روى مراد القصة كاملة لعالية خضعت تحت صاعق الصدمة لساعاتٍ. تجنبت أي حديث مع سوزان، اكتفى مراد بتوضيح الأمر مكتفيًا بعلمها بالحقيقة.
بنظرات تائهه جداً للحد الذي إن أشعل شخص حولها عود الثقاب فلم تسطع أن تفرق بين من يُضيء لها الطريق، ومن يسّعى لاحتراقها. رفعت أنظارها لمراد بأعين مدججة بالقلق:
-لسه؟
ألقى نظرة طويلة ناحية سوزان ثم قال: -قالوا هيبعتوا التقرير الساعة 9.
ابتعدت أعينها عنه لتلقي بأعين سوزان التي تفيض دمعًا وقلقًا حيث وضعت كفها فوق قلبها ونظرت لأعلى وكأنها تناجي ربها بألا يخيب أملها.
أمسك مراد بيد زوجته الباردة بقوة ثم قال: -أنا جمبك…
في تلك الاثناء جاء صوت الرسالة على هاتف سوزان و الذي كان أشبه برصاصة ضاعفت الخوف بداخلهم. سكن كل منهما بمكان بدون حراك. يناظر كل منهما الأخر حتى قال مراد بصوت خافت:
-طيب مش هتفتحي الرسالة.
بأيدي مرتعشة مدت سوزان ذراعها لتأخذ هاتفها. أخذت عالية تقضم في أناملها بما يعكس حالة التوتر والهلع التي أصابتها. ضمها مراد إلى حضنه عندما أحس بذعرها. هنا فتحت سوزان صورة نتيجة التحليل، بقلب مرتعش وأعين دامية كبرت حجم الصورة وبدأت في قراءة النتيجة لفحص الحمض النووي الصبغي.
ساءت الحالة المزاجية لسوزان وهي ترتعش وتبكي بصورة مفزعة. وثب مراد بلهفة إليها أما عن عالية تسمرت في مكانها بخيبة أمل كبيرة. أخذ مراد الهاتف منها واطلع على نتيجة التحليل، حيث حلت النازلة فوقه هو الآخر. تطلع إلى عالية طويلًا وهي لم تفهم شيء. تخشى أن تستفسر فيصيبها خنجر الحقيقة المرة من جديد.
نهضت بصعوبة وكأن جبال الألب استقرت على كتفيها وتحركت نحوه بشفاه مرتعشة وسألته بأعينها فلم تجده إلا صامتًا يحضتنها فقط بقوة. نظرت له ناطقة:
-في ايه.
شدها من ذراعها وجلس معها أمام ركبتي سوزان المنهارة وقال بفرحة كبيرة وهو يأخذ أنفاسه بصعوبة:
-النتيجة إيجابية ياعالية. بتأكد إنك بنتها.
-ماما؟
هنا انفجرت سوزان باكية وهي تضمها حيث هبطت لمستواها وأخذتها بين يديها بعطش شديد لقُربها. أخذت تلهث بعدم تصديق وتقبل كل إنش بها، وتهذي:
-أنا كنت متأكدة. والله كنت عارفة من يوم ما شوفت الشامة على إيدك. معقولة طول العمر ده قُدامي وأنا معرفش.
ثم أخذت توزع قبلات جنونية وعشوائية على جسدها. دخلت في حالة هستيرية وهي تلتقي بابنتها التي فقدتها قبل ثلاثة وعشرين عامّا. تشعر وأنها ولدت من جديد بين يدي أمها، بدأت تستوعب شيئا فشيئاً حتى ارتمت بين ذراعيها بصمت يحكي العديد من التفاصيل التي تعجز الكلمات عن وصفها. ابتهلت سوزان بلهفة:
-الحمد لله. بنتي عايشة يا مراد. الحمد لله، مش أنا قولت لك أحساسي ما يخيبش أبدًا؟
حدثًا مبهرًا بحياتها محى كل الانطفاء الساكن بروحها. أخذت تلتقط أنفاسها بصعوبة ثم أردفت بنبرة مزيج من الضحك والبكاء: -يعني أنا مش وحيدة. وحضرتك أمي؟
-أيوة أيوة يا حبيبتي. أنتِ مش هتبعدي عندي دقيقة واحدة. بصي أنتوا هتعيشوا معايا هنا. أنا لازم أعوضك عن كل الأيام اللي مكنتش فيها معاكي.
ربت مراد على كتفي الاثنين وقال بسعادة: -بالمناسبة الحلوة دي، أنا عازمكم بره.
عارضته سوزان التي تتحدث بلهفة: -لا. أنا هقوم أعملها كل الاكل اللي بتحبه، هقوم اطبخ لكم بنفسي، قوليلي عايزة أيه وأنا اجيبهولك حالًا.
ردت عليها بمشاعرها المتضاربة: -مش عايزة حاجة، خديني في حضنك وبس.
-تعالي يا روح قلبي، تعالي في حضن مامتك.
بمدينة العلمين الجديدة
تحركت هدير بسيارتها من مقر شغلها وهي تتحدث مع أمها على الهاتف فسألتها:
-مامي، أنا في الطريق وجاية أهو، محتاجة حاجة أجيبها معايا.
ردت جيهان: -عدي على السوبر ماركت، وهبعتلك مسدج بالطلبات اللي محتاجتها.
ردت هدير متأففة: -ما تطلبي من عندك يامامي. هو لازم أروح يعني؟
-بطلي كسل يا هدير، أنا رجلي وجعاني كنت نزلت جبتهم بنفسي ولا احتجت لك.
ردت على مضض: -حاضر ياماما حاضر، بالمناسبة لسه قافلة مع كريم وهو في المطار مستني الطيارة.
-اه ماهو قال لي. وكان زعلان أوي قولت له كلها كام شهر وهنحصلك. صحيح عايزة أروح أزور خالتك عبلة، كريم قال لي على اللي حصلها.
ردت هدير بشرود: -مامي استنى البس الإير بوت عشان اسمعك كويس.
فتحت صندوق السيارة تبحث عن السماعات اللاسلكية فوجدت ورقة بيضاء مكتوب عليها باللون الأحمر عشان تفكري تلعبي معايا تاني في تلك اللحظة اتسع بؤبؤ عينيها لتنطلق صارخة: -ماما الحقيني العربية مفيهاش فرامل.
فارتفع صوت صرختها وهي تحاول إيقاف السيارة: -بوقفها ما بتقفش…
فزعت جيهان من مجلسها: -يعني ايه؟ هدير هدير خلى بالك. ألو.
ثم انفجرت صارخة على صوت الاصطدام والصدح المزعج هاتفة بذعرٍ: -بنتي!
{{ بعد مرور ثلاثة أشهر }}
ثلاثة وعشرون عامًا عجزوا عن ترتيب فوضى روحي وشتات نفسي مثلما فعلوا آخر ثلاثة أشهر. عودت فيهم للحياة بعد سنوات من التكدر وانطفاء الروح، حياة يملأها الهدوء والكثير من الضحكات.
يمر يومي بسلام تام. صباح برائحة قبلات أمي ونظرات من أحب، لحظات يملأها الأمان والسكينة. مثلما ارتوى قلبي بفيضهم، زوج حنون وأم جميلة ماذا ينقص بعد؟
شدت ستائر غُرفتها فتسللت أشعة الشمس إلى الغرفة وشرعت بمداعبة جفون مراد النائم. ذهبت إليه لتوقظه بلطفهت الذي اعتاد عليه كل صباح. ولكن تلك المرة سبقها ونهض قبل أن تبدأ بإيقاظه. ضحكت قائلة:
-لحقت نفسك قبل ما استخدم أساليبي معاك.
دفن قبلته المسموعة بجدار عنقها وقال: -للاسف عندي اجتماع مهم أوي النهاردة. ولازم اروح الشركة.
ثم رفع حاجبه معبراً: -شايفك أحسن النهاردة!
-كتير. قولت لك هو دور كده بيجي لي كل فترة وبيروح لوحده أنت ومامي كبرتوا الموضوع. المهم.
رفع الغطاء من فوق وقال: -تعالي احكي لي المهم ده وأنا بحلق عشان مفيش وقت.
تابعت خُطاه إلى الحمام وشرعت في سرد ما يتجول بخاطرها: -قولي الأول كلمت هدير؟
رد بأسف: -كلمتها وهتبدأ جلسات العلاج الطبيعي من النهاردة.
تمتمت بحزن: -ربنا يرجعها بالسلامة. على فكرة عاصي وحياة كلموني إمبارح!
-في حاجة؟
شرعت في وضع رغوة الحلاقة على ذقنه وقالت: -ولا حاجة بيطمنوا عليا. و بيشوف إذا كنت مزعلني ولا لا. ااه وكان عايز يكلم مامي، بيقول فكرة مشروع جديد وعايز يشاركها.
-طيب جميل.
شرعت في حلق ذقنه وتمرير حد الماكينة على وجهه وقالت: -أنا بفكر أأجل السنة دي. أنا مش مستعدة لأي امتحانات يا مراد، وحابة اتخرج بتقدير كويس زي ما أنا متعودة.
ضمها إليه من خصرها لترتطم بجسده قائلًا: -أنا معاكي في أي قرار في صالحك.
تملصت من حضنه متدللة: -بطل بقا الحركات دي عندك ميتنج مهم، الله،!
-مفيش أهم من الميتنج معاكِ.
انتهت من حلق ذقنه ثم مدت يدها تتناول المنشفة وتمحو آثار الصابون. وفي تلك اللحظة شحب وجهها مرة آخرى وركضت لتتقيأ بالمرحاض. ركض إليها بلهفة:
-أنا غلطت لما سمعت كلامك امبارح ووافقتك متروحيش لدكتور. يلا قومي دلوقتِ نروح نكشف.
ردت متنهدة بتعبٍ: -لما نشوف نتيجة التحاليل الأول. ممكن برد من التكييف يا مراد.
-عالية بطلي عِناد. قومي يلا هنروح لدكتور.
خرجت معه وهي يسندها مطوقًا خصرها: -روح شغلك يا مراد وبالليل ننزل لدكتور. بجد حاسة عايزة أنام أوي.
أجلسها برفق على طرف السرير وما كاد أن يعارضها فأتاهم صوت طرق على الباب بحماس، فتفوهت عالية بقلق: -دي ماما. بتخبط كده ليه؟
هرول مراد ليفتح لها الباب فاندفعت لداخل الغرفة بفرحة تتقاذف من وجهها. وقفت عالية باستغراب: -مامي حصل أيه.؟
ضمتها سوزان بفرحة شديدة: -مبروك يا حبيبتي. مبروك، أنتِ حامل يا عالية. حامل.
تسمر مراد في مكانه يتلقى خبر حملها بمزيج من الفرحة والحيرة والارتباك ونفس المشاعر سكنت بدن عالية التي لم تستوعب جملة خبر مثل هذا. ذهب سوزان وحضنت مراد بسعادة:
-ألف مبروك يا حبيبي.
سألتها عالية بارتباك شديد: -حضرتك عرفتي أزاي!
حاولت سوزان أن تلتقط أنفاسها من جمة السعادة: -الدكتورة بعتت التحاليل اللي عملناها بالليل متأخر. لسه شايفاها مصدقتش عينيا وجيت جري. قلبي وعقلي طاروا بالخبر. الف مبروك يا حبيبتي.
اقترب مراد من زوجته وقبل رأسها بحنو فطوقته بكلا ذراعيها: -هتكوني أحلى مامي في الدنيا.
-وأنتَ كمان، هتكون أعظم وأحن بابي…
شعرت سوزان بوجوب انسحابها ليحتفلو معًا، فقالت بسعادة: -هنزل أحضرلكم فطار. وأدور على دكتور كويس عشان نتابع عنده يا لولي.
ذهبت سوزان حامله على كتفيها عبير سعادتها بابنتها التي ستجعلها جدة بعد عدة أشهر. انفرد مراد بزوجته التي لم تفارق حضنه لتحاوره بعيونها التي تفيض نورًا: -أنا مش مصدقة.
داعب أرنبة أنفها بلطف: -أنا النهاردة أسعد بني آدم على وش الأرض.
هبت مفزوعة: -مراد؟ الميتنج؟
-أنا هكسنل الدنيا كلها عشانك.
-يعني أيه؟
قطف من زهرة وجهها عدة قبلات خفيفة وقال: -قاعد مع ابني.
-مراد متهزرش. وشغلك.
-أنتوا شغلي من هنا ورايح.
عانقته بحبٍ وأعلنت: -أنا بحبك أوي. عارف كده!
ليجيبها تحت سيطرة مشاعره المتراقصة والهائمة: -تؤ، لا مش عارف. بس حاسس.
ضمته بقوة تضاهي فرحتها بحملها لسنابل الحب الناتجة من التقاء الأمان بفارس العشق. كان يدهشها باستثنائه لها الدائم، ومدى اتسّاع صدره لتقبل مزاجيتها، كان ملجأها الوحيد لتقلباتها الحياتية والمزاجية.
بشقة تميم الجديدة
الجميع حول مائدة الإفطار يتناولون طعامهم، وضع تميم قطعة الجُبن بفمه ثم وجه حديثه لنوران متسائلاً:
-عندك دروس النهاردة.
نوران وهي تلقي نظرة أخيرة على هاتفها وهي تستمع لأحد مدرسي الثانوية العامة بجانبها على المائدة:
-بعد العصر في مستر بيدي مراجعة بيقولوا كويس هنزل أحضر الحصة معاهم.
-وتنزلي ليه، ما يجي يديكي الحصة هنا؟
ردت موضحة: -للأسف مش بيدي برايفت.
تدخلت شمس مقترحة: -طيب السواق هيستناكي عشان مضيعيش وقت.
-متقلقيش يا شمس.
فلفت انتباهها وصول رسالة نصية غير متوقعة على هاتفها من رقم أمريكي، فتحت الرسالة باهتمام لتقرأ ما بها:.
((عارف أن امتحاناتك الأسبوع الجاي. ومش عايز أشتت تركيزك، بس عايز أعرفك إني مش عارف انساكي. وغيابي عنك كان محاولة فاشلة مني. وحبيتك أكتر ومش عارف أبطل افكر فيكي. وحشتيني ووحشني الخناق معاكِ. شدي حيلك وأنا واثق أنك أدها وهتحققي حلمك. كلميني في أي وقت، هستناكي))
كريم…
مراراً وتكرارًا تناديها شمس ولكن رسالة منه أحيت كل ما تعمدت طويه بقلبها. اتسعت ابتسامتها وهي ترد على أختها: -هااه بتكلميني ياشمس؟
رمقتها بشكٍ: -سيبك من الموبايل وكملي أكلك.
ثم عادت إلى تميم وسألته: -بردو عاصي رافض يرجع؟
-تعبت معاه يا شمس، ده حتى عرضت عليه يشاركني، بس مفيش فايدة اللي في دماغه في دماغه. ساب لي الشيلة كلها وخلع.
ثم أمسك كفها باعتذار: -أنا مقصر معاكي الفترة دي عارف. وعارف إنك مستحملة كتير. بس طولي بالك بس تخلص نوران امتحانات وهنسافر للمكان اللي تختاروه.
تقبلت اعتذاره بلطف: -كفاية وجودك يا حبيبي. ربنا يقدرك ويهدي عاصي ويرجع يشيل عنك شوية.
لم يتمكن من ردها فجاءهم صوت رنين الجرس قطع حديثهم، فقال تميم بتلقائية: -هشوف مين.
أخذت نوران هاتفه وهي لم تشعر بقدميها الطائرة من الأرض هاربة لغرفتها وهي تقرأ رسالته مرارًا وتكرارًا حتى حولها الحب والمشاعر التي ايقظها فجأة لفراشة تتنقل هنا وهناك. انتقلت سريعا إلى صورته المحفوظة على هاتفه وأخذت تخاطبه بصوت متحمس كمن عاد للحياة من جديد:
-كنت خايفة تكون نسيتي. وأكون مجرد وقت وعدى في حياتك، أنت كمان وحشتني أوي.
حضنت الصورة بمشاعرها المتحركة لأول مرة بحب المراهقة الذي يعد أعظم حب في مرحلة أي فتاة وقالت لنفسها:
-متزعلش مني يا كريم. كله بوقته.
توجهت شمس إلى تميم الواقف مندهشا أمام الباب عند رؤيته للطارق فهمهمت بتعجب:
-نعمة؟ اتفضلي تعالي واقفة ليه؟
دخلت نعمة مع شمس فقل تميم الباب ولحق بهم، جلسوا جميعهم في غرفة الجلوس الواسعة ذات الأثاث الأنيق والفاخر. سألتها شمس:
-تشربي أيه يا نعمة؟
-ولا حاجة. السواق مستنيني تحت ومش هتأخر.
تبدلت نظرات كل من تميم وشمس بحيرة فسألها تميم مباشرة: -خير يا نعمة،؟
-أسفة جيت كده فجأة. أنا ليا شهر بدور على عنوانكم الجديد لحد ما وصلت.
كررت شمس نفس السؤال حائرة: -حصل أيه لكل ده يا نعمة.
أخرجت نعمة ظرفًا من حقيبتها ووضعته على الطاولة وقالت: -دي أمانة عمي حسين ليكم. موصيني لو جرت له حاجة أدي الظرف ده لعاصي بيه بنفسه بس معرفتش أوصل له. أسفة عارفة اتأخرت بسبب ظروف ولادتي.
شمس بتلقائية: -حمد لله على سلامتك يا حبيبتي.
تميم بتعجب: -في أيه الظرف ده يا نعمة.
ردت بثقة: -في دليل كلامي.
تنهدت للحظة ثم أكملت: -طبعا عارفين أن مراة عم حسين كانت بتشتغل معاه في القصر، بس هو خبى عليكم أنه يعرف ست اسمها تحية. لانه خاف تحصل فتنة بين الأخوات بسببه.
تميم بشغف لكلامها: -وضحي يا نعمة.
-الست اللي اسمها تحية كانت بتشتغل خياطة في قصر البيه الكبير، ال للأسف ضحك عليها وسافر. ووقعت في ورطة وهي حامل ومش عارفة تتصرف. اللي حصل بقا.
قاطعها تميم بلهفة: -بالراحة بس. تحية وشهاب دويدار أبويا؟
أيدت كلامه ثم أكملت: -بالظبط. والولد اللي خلفته تحية هو نفسه البيه أخوك الكبير. اللي عبلة هانم استغلت ضعف الست تحية وكتبت الولد باسمها.
ترجمت شمس معنى حديثها: -استنى يا تميم، أنا فاكرة أن عبلة قالت حاجة زي كده. الخياطة اللي حبها جوزها. ووو
ثم اندفعت قائلة: -يعني كده عاصي ابن شهاب دويدار مش ابن عبدالعظيم زي ما عبلة فهمته، تميم انت مستوعب!
تعلق تميم بحوارها كالغريق: -نعمه أنتِ مدركة بتقولي أيه؟
مدت له الظرف وقالت: -هنا الجواب اللي كتبته الست تحية وادته لمراة عمي حسين عشان توصله لشهاب بيه. بس للأسف عمي حسين خاف من الست عبلة على مراته لو كشفت سرها وسابوا القصر ومشيوا. ممكن توصل الأمانة دي لعاصي بيه بنفسه.
بالشرقية
صفت سيارة سوداء أمام المنزل العريق المنتمي ل آل دويدار حيث هبط منها يسري وهو يقفل زرار بذلته، فتقدم أحد الرجال لاستقباله:
-اتفضل اتفضل يا استاذ يسري. شاكر بيه مستنية في المندره.
تقدم يسري بخطوات حذائه الأسود اللامع إلى داخل المنزل وخاصة إلى المكان الذي ينتظره به شاكر دويدار. صافحه شاكر بصوته جمهوري وهتف قائلًا للخفير: -قولهم يجهزوا الغذا يا ولد.
جلس الاثنان على الأريكة الخشبية فبادر شاكر قائلًا: -فينك من زمان يا راجل؟
-في الخدمة يا شاكر بيه. بس المرة دي جاي وقاصدلك الخير.
-خير يا يسري. انقطعت أخبارك عننا من زمان، ومبقناش عارفين حاجة عن ولاد أخوي شهاب.
ابتسم الثعلب المكار بابتسامة الغدر وقال: -هما مين؟ أنت متعرفش اللي حصل؟
-أيه اللي حصل يا يسري؟
-أن عاصي مش ابن شهاب. وعالية مش بنتك أخوك. وتميم ابن زنا. وأنت الوريث الشرعي لكل الأملاك دي…
-أنت بتخرف بتقول أيه؟
-زي ما سمعت، وأنا جاي هنا أوعيك واساعدك ترجع حقك، قولت أيه؟
-وهو الحق في كلام يتقال بعده! ورث أخويا لازم يرجع للورثة الحقيقيين…