رواية بعيدا عن الأرض للكاتبة ديمة الفصل التاسع عشر
المكان: كوكب كيبلر.
نظرت إرورا إلى ملامح وجه توماس المتكدرة وقد التزم الصمت منذ التقته هذا الصباح في التدريب، لم تكن من عادة توماس أن يكون في هذا الجفاء، والتعابير القاتمة التي رُسمت على وجهه أثارت حيرة إرورا بشكل ملحوظ. حاولت سؤاله مرارًا عن سبب استيائه هذا دون سبب معروف، ورغم إلحاحها الشديد كان يمتنع عن الإجابة. نظرت إلى أسراب الطيور التي تجمعت في مكان قريب منهم فانتفضت من مجلسها على جذع الشجرة بحماس وسحبت قوسها وسهمها المعلقين على جانب خصرها ونظرت إلى توماس وقالت: «ما رأيك بمنافسة جديدة؟ سأغلبك هذه المرة أيضًا رغم تدربك طوال المدة السابقة على الرمي». قالت بنبرة حاولت أن تكون حماسية قدر المستطاع؛ فقد كانت تحاول جعله يخرج من حالة الصنم تلك التي جعلت أنفاسها تضيق خوفًا مما أصابه.
استمر يحدق بالأرض برهة دون أن يصدر منه أي رد فعل، لكنه قاوم رغبته بالصمت فزفر بضيق محاولًا التخلص مما أصابه من تكدر في قلبه، ثم قال بنبرة يائسة منكسرة وقد رفع أنظاره عن الأرض لتلتقي عيناه المرهقتان بعينيها: «وهل تتوقعين مني أن أقبل كون آخر ذكرى بيننا هي خسارتي أمامك في الرماية؟».
ظهرت ابتسامة تلقائية على وجهه فور انتهائه من جملته تلك، ربما كان من الجنون أن يبتسم مع مثل ذلك الحدث المؤلم، لكن الأمور تختلط أحيانًا فيصبح الضحك أو الابتسام هو أسهل شيء يقوم به الإنسان في مواقف لا يستطيع أن يحد من ألمها أو أن يجد لها حلًا.
نظرت إرورا نحو توماس باستغراب، وارتخت يدها التي تحمل القوس لا إراديًا حتى شعرت بوخزة صغيرة في قلبها، سرعان ما تلاشت وهي تحاول تحليل ما يحدث عبر إقناع عقلها بأن ما قاله توماس توًّا مجرد مزحة، هي لم تستطع استيعاب ما قاله لها فعلًا، فقالت عاقدةً حاجبيها باستنكار:«ماذا تقصد؟».
لم تكن تعابير إرورا تسر توماس أبدًا؛ فلقد حاول التهرب من الإفصاح عما أخفاه قدر المستطاع محاولًا عدم التكلم به ليضمن أقل الخسائر، ولكن يبدو أنه لن يستطيع التخفيف من بشاعة الواقع الذي باغته هو أيضًا.
«إرورا، لقد اُختِرت للرحيل إلى كوكب جليزا وسيغادر الوفد بعد عدة أيام، أنا آسف. »اتسعت عينا إرورا وهي عاجزة عن تصديق ما سمعته توًّا؛ فهذا لا يمكن أن يكون حقيقة بل كابوسًا مرعبًا. شعرت ببرودة تباغت جسدها وقد امتلأت عيناها بدموع حاولت أن لا تفر من عينيها رغم كل ما أصابها قالت مبتسمة:«ولكنك رفضت طبعًا؛ فهذا القرار يعود إليك في النهاية. ».
وقبل أن تسترسل إرورا بسرد ما يتم تداوله من حقوق ملفقة قاطعها توماس قائلًا:«لقد وقّعت بالموافقة، وأنت أكثر الناس علمًا بما قد يحصل بأي شخص يرفض الأوامر. »نظرت إرورا نحوه بنظرات مستنكرة غاضبة ثم قالت بحدة:«لا، لا أعرف؛ لأنه لم يسبق لأحد بأن خالف الأوامر لأنكم جبناء. ».
كان توماس يعرف بأن إرورا ستوجه الاتهامات له؛ فهذا ما تفعله دومًا عندما يرضخ لأوامر لا يرغب بها، فرد عليها باستياء:«وماذا عن ليوناردو؟ الشخص الوحيد الذي لم يمتثل للأوامر وقبله والدته التي لم يستطع أحد تحريرها من سجن تسعة عشر عامًا حتى دون أن يعرفوا هل هي حية أم لا. فما رأيك أن أكون أنا التالي؟».
ارتخت تعابير وجه إرورا الغاضبة التي تحولت إلى تعابير حزن وألم، وقد فرت دمعة من عينيها وهي تقول:«لكنني الوحيدة التي تجرأت على مساعدة ليوناردو دون غيري، ولم أكن أبدًا لأرتدع عن مساعدتك أنت، ثم إن أي شخص يحتاج إلى ذلك، لست جبانة يا توماس. »وقف توماس من مكانه ثم اقترب نحو إرورا وقال بنبرة خافتة:«جوزيف لن يسامحك على خطأ آخر، ولن ينسى لك الخطأ الأول. ».
نظرت إرورا نحوه بنظرات غاضبة ثم قالت بغضب وأنفاسها المتوترة تتسارع:«يجب على الامتثال للأوامر أليس كذلك؟ حتى أشهد اليوم الذي سنتحرر فيه من العبودية، لكن هل تعرف عن ماذا غفلت بمقولتك تلك؟». اقتربت منه أكثر ثم همست مكملة رافعةً حاجبيها باستياء «غفلت عن تحديد من سيحررك من العبودية، ونسيت أنك لن تشهدها أصلًا. ».
بينما تشعر كأن قلبها يحترق وقد تحول إلى رماد، احتدت نظراتها الغاضبة نحوه ونبضات قلبها تسارعت، صرخت به قائلة:«لأنك جبان! كلكم جبناء، ستموتون مستعبدين وما زلتم مجرد أصنام. ».
رغم قسوة نبرتها، كانت كلماتها وحدها أكثر قسوة بالنسبة إليه؛ فقد طعنت جرحه وأشعرته بمدى عجزه وضعفه أمامها، هي التي لا تخشى شيئًا، لكنه لم يكن مستعدًّا للتضحية أبدًا، كان دومًا ينتظر بطلًا يضحي من أجله لكي ينعم بما يتمناه ويعيش حياته. رغم قسوة كلماتها ومعرفته بواقعيتها لم يكن على استعداد ليضحي أو يعترض أو يتحرك كما تقول؛ فهو حقًا جبان لا يجرؤ على المجازفة.
رمت إرورا القوس والسهم من يدها ثم صرخت وهي تنظر إليه باستحقار والدموع تفيض من عينيها دون أن تستطيع كبحها:«لا أريد أن أراك، فلتذهب إلى الجحيم ولن أهتم أبدًا، ارحل كالجبان ولا ترني وجهك بعد الآن. وحتى ذلك القوس والسهم اللذين جمعانا لم أعد أريده. سأنسى أنك كنت عائلة لي وشقيقًا ساندني فلا يشرفني أن أرافق الجبناء. ».
أنهت جملتها تلك التي جعلت من قلب توماس يستعر بنار الألم والحسرة. كانت تلك الكلمات آخر ما أراد سماعه في حياته، حتى أنه لم يتخيل أنه قد يسمعها في يوم ما، كان ذلك مؤلمًا جدًّا، هو الآن ليس أكثر من جبان بالنسبة لها. لم يستطع تحمل كون تلك اللحظات هي آخر ذكراه مع إرورا.
ركضت مبتعدة دون أن تنظر إليه كأنها لم تعرفه أبدًا من قبل.
جثا توماس على ركبتيه أمام القوس والسهم وفرت الدموع من عينه أخيرًا معلنةً انتهاء ذكرى الوداع المؤلمة بينه وبين صديقة طفولته. هو لن يراها ثانية وحتى إن رآها فلن تتعرف عليه أبدًا.
كانت أنفاس إرورا في تسارع ملحوظ، رفعت يدها لتضرب الباب أمامها بقوة وهمجية لكن وقوفها أمام الباب لم يستمر طويلًا؛ فقد اندفع حراس القلعة نحوها وبدؤوا يجرونها من ذراعيها، ومع هذا استمرت بالمقاومة والهروب من قبضاتهم وهي تصرخ بأعلى صوتها:«أحتاج إلى الحديث معك سيد جوزيف».
كانت قد اقتحمت القلعة دون إذن من حراسها وصولًا إلى جناح جوزيف، وقبل أن يدفعها الحراس بعيدًا عن الممر المؤدي إلى الجناح فتح جوزيف الباب بملابس نومه الزرقاء ثم صرخ بالحراس قائلًا:«دعوها!».
تحررت من قبضاتهم بعد ثوانٍ قليلة، واستمر جوزيف يحدق بها باستياء لكنها لم تبق واقفةً في مكانها طويلًا فقد اقتربت منه بجرأة وقالت:- أود الحديث إليك في أمر مهم سيدي.
– أمر مهم الآن، وفي هذا الوقت من الليل؟ ثم منذ متى أصبحت بهذه الهمجية؟
– لن آخذ من وقتك الكثير.
نظر نحو عينيها الحمراوين دقائق ولاحظ شحوب وجهها واحمراره كأنها كانت تبكي، فقال باستسلام:«اسبقيني إلى جناحي الخاص، سألحق بك. ».
دخل جوزيف جناحه بعد عدة دقائق من وصول إرورا، وما إن أغلق بابه حتى جلس على عرشه الخاص ثم قال بعد أن تنهد بشيء من الانزعاج:«ماذا تريدين؟».
«أريد الرحيل». قالت من فورها دون تردد بنبرة متماسكة جدًا وقد علقت نظراتها الجريئة على وجه جوزيف، ذلك الوجه الذي ظهرت عليه قليل من علامات الشيخوخة مرورًا بالتجاعيد ووصولًا إلى لحيته التي اكتسحها الشيب، شاربه ما زال يحافظ على لونه البني ولكن لم يخل الأمر من بعض الشعيرات البيضاء.
كان نظراتها تثير حنقه في الآونة الأخيرة؛ فقد استمرت بالتمرد عليه كثيرًا مؤخرًا، هو في الحقيقة لم يفهم مقصدها تمامًا، لكن نبرتها ونظراتها تلك كانت كافية لجعله يفهم أنها قد أعلنت الحرب عليه، ومجيئها الآن يعني أنها تريد الشجار معه وربما تصفية الحساب عن كل ما مضى.
«ماذا تعنين؟». سألها آملًا بأن يكون جوابها مسالمًا.
«أريد الرحيل إلى كوكب كيبلر برفقة الوفد الذي سترسله. ».
طالتها نظراته النارية وقد بدت عيناه الزرقاوان مخيفتين، ولكنه سرعان ما حاول التعامل ببرود أكثر فابتسم وقال بنبرة حاول أن تكون هادئة:«وهل من أحد يطلب مغادرة موطنه عزيزتي؟ لماذا تطلبين مثل هذا الطلب؟».
كانت إرورا على درايةٍ بتحولاته تلك، وكانت تعرف بأنه يكبح غضبه، لكن لماذا يكبحه عنها دون غيرها؟
«لا أود البقاء هنا، بل لم أعد أطيق البقاء. ».
أجابها بنبرة استفزتها كثيرًا وما زالت تلك الابتسامة على وجهه:«ومن قال لك بأنني أفرط بالفتيات الجميلات اللاتي يولدن في كوكبي؟».
اتسعت عيناها وهي تتذكر عبارات توماس، لقد تحقق ما كانت تخشاه وكان على حق بما قاله، جوزيف لا يفكر بها سوى ككنز لا يعوض ومن المستحيل أن يفرط بها. اهتزت قواها وسيطر عليها الصمت دقائق، وقد بدت علامات الارتباك واضحة على وجهها لكنها عادت لتستعيد رباطة جأشها وقالت بنبرة عالية:«لكنني لن أبقى مستعبدةً لديك سواءً رحلت أو بقيت، ولا تستبعد أن أرحل فلم يعد يهمني رأيك أبدًا. ».
انتفض جسده بغضب وهو يستمع إلى كلماتها الوقحة، لكنه استمر بالحفاظ على هدوئه فهو يريد أن يغلق جميع الأبواب في وجهها. نهض من مكانه ثم قال وهو يتقدم بخطواته نحوها:.
«الجميع هنا رهن إشارتي يا عزيزتي، إشارتي أنا وليس غيري. أنا كابوس سيلاحقك أينما ذهبتِ، لن تستطيعي الهرب مني». كانت كلما اقترب منها خطوة تتراجع إلى الخلف حتى اصطدمت بالحائط خلفها، رغم ارتباكها الشديد وارتجاف جسدها صرخت في وجهه وأنفاسها تتسارع وقد أبقت عينيها مثبتتين على عينيه:.
«في أحلامك، فلست أنا من يعيش رهن إشارة بشر. » صمتت ثواني ثم أردفت بصوت خافتٍ صاكةً على أسنانها ناظرةً إليه باستخفاف: «أنا لست كالجميع».
اتسعت عيناه ثم امتدت أصابعه إلى خصلات شعرها القصير لا إراديًا. قال لها وأصابعه تتشبث بشعرها أكثر:«سأعتبر نفسي لم أسمع شيئًا، فمثل هذه الكلمات دفعت ثمنها امرأة قبلك، قبل تسعة عشر عامًا. لا تريدين أن تكوني مثلها بالتأكيد، لا يصل بك أحد إلى زنزانة مظلمة مليئة بالفئران، ما زلت طفلة يا صغيرتي. ».
كانت تحاول كبح رغبتها الشديدة بالبكاء، ودقات قلبها تنبض بتسارع شديد وقد شعرت بالاختناق بطريقة لا تصدق. ربما كان الحال سيستمر هكذا لولا أن سمع جوزيف دقات على الباب فصرخ قائلًا:- من؟
– أنا إليزا، ماذا تفعل عندك جوزيف في هذا الوقت؟
كان بوده قتل كليهما الآن من شدة حنقه، لكنه أجابها محاولًا السيطرةً على أعصابه:«قادم حالًا. ».
وقبل أن يفلت شعر إرورا من قبضته همس لها مبتسمًا:«سأحرص على أن تكوني زوجتي القادمة». وما إن أنهى جملته حتى أفلتها وغادر الجناح ليتركها وحدها، لكنها لم تصمد طويلًا فقد أجهشت بالبكاء بصوت عال حتى تردد صدى صوتها في أرجاء الغرفة، وقد جلست على الأرض تحتضن ركبتيها وكل جسدها يرتجف، شعرت أنها لم تعد تجد من يحميها وقد سيطر عليها شعور بالاختناق الشديد.
أخذ توماس زاوية قريبة بعيدًا عن ضجيج الزحمة في المكان المحيط. كان شاردًا وبدا كأنه منفصل عن العالم حوله وقد عجزت أذناه عن التقاط الكثير من الأصوات لتشتيت ذهنه. كان على بعد ساعات قليلة من مغادرة المركب المتجه إلى كوكب جليزا، الجميع حوله منشغل بالحديث إلى الزملاء أو توديع بعضهم عوائلهم أو حتى لهو بعضهم مع أصدقائهم الذين سيغادرون معهم في الرحلة نفسها. كان حالة شاذة بينهم فلم يكن سوى شخص بائس أخذ زاوية بعيدًا عن ضجيج العالم، لم تكن كلمات إرورا لتغادر عقله منذ ذلك اليوم، عدم مجيئها لتوديعه على الأقل يثير الحزن في نفسه كثيرًا، سيغادر دون أن يراها لآخر مرة، سيغادر بعيدًا حيث لا يمكنه أن يراها كل يوم بابتسامتها المشرقة، سيغادر ولن يجد من ينافسه أبدًا أو يغضب منه ويبرحه ضربًا. الأهم من هذا كله أنه سيغادر وقد علقت كلماتها الأخيرة في ذهنه وختمت علاقته بها إلى الأبد دون عودتها من جديد. لقد انتهى كل شيء، شعر أنه هو أيضًا انتهى ولم يعد بمقدوره تحمل أعباء الحياة بعد الآن. فرت دمعة من عينيه دون أن يشعر فقد كان متألمًا جدًا وروحه تكاد تغادر جسده إلى الأبد. شعر فجأة بيد أحدهم قد استقرت على كتفه الأيمن فاستدار برأسه على مضض ولكن لم يكن ليصدق عينيه أبدًا، عساه يتخيل أو يعيش أحد أحلام يقظته. كانت هي بكل تأكيد. نظر إليها بعدم تصديق ثم قال بارتباك:.
«إرورا!».
نظرت نحوه برهة بعينين امتلأتا بالدموع، تحملان الأسى والحزن، ثم ابتسمت نحوه وقالت وهي تجلس على الأرض أمامه:«لم يكن من اللائق أن ترحل دون أن أودعك، أعني، ». صمتت قليلًا محاولةً استجماع قوتها ودفع الدموع التي شارفت على الهروب من عينيها، لكنها لم تستطع أن تحافظ على نبرة صوتها ثابتة وعقلها يردد الجملة التي ستقولها له، فأردفت بصوت مبحوح متقطع: «لم أستطع تجاهلك وأنت ترحل».
لكنها لم تستطع تمالك نفسها أكثر فأجهشت بالبكاء؛ فلم يكن رحيل توماس وحده ما جعلها في هذه الحالة، بل كانت في حالة صعبة وضغط لم تستطع تحمله كثيرًا فالشعور بظلم العالم بأكمله يولد الكثير من الضغوط. أحيانًا نعاني شعورًا أسوأ من شعور التواجد في السجن بكثير حيث يمنع التنفس حتى!
كانت سعادة توماس لا توصف برؤية إرورا أمامه، لكن ما لبثت تلك السعادة أن تبخرت فور رؤيته إياها في تلك الحالة السيئة، فقال لها بحيرة:«إرورا، هل أنت بخير؟».
أومأت له محاولةً التحكم بانفعالاتها التي باتت لا إرادية، فلم تكن تريد أن تقلق توماس بشأنها، هي تعرف بأنه قادر على معرفة انفعالاتها ويعرف طبيعتها جيدًا.
وقبل أن يطرح عليها المزيد من الأسئلة ليعرف ما الذي أصابها وما الذي يجعل وجهها باهتًا ومتعبًا إلى هذه الدرجة جاء الإنذار معلنًا عن ضرورة ركوب المغادرين المركبة الفضائية، لكنه تجاهل ذلك الإنذار وعاد ليسألها من جديد عاقدًا حاجبيه بانزعاج:«أعرف بأن شيئًا أصابك وتحاولين إخفاءه. ».
بقيت صامتة دون أن تنظر إليه حتى عندما جاء حارسان يستعجلان الركاب بالتوجه إلى المركبة. همس لها بحنق شديد:«إنه جوزيف، لقد تشاحنتي مع جوزيف وأظهر لك حقيقته. ».
عادت عيناها تمتلآن بالدموع حالما تذكرت ما حصل، لقد كانت أسوأ ليالي حياتها تلك التي قضتها تنتحب دون أن تستطيع تصديق ما حصل، كانت ترغب بالرحيل بعيدًا حيث لا يصل إليها أحد أبدًا، لكن كان ذلك مستحيلًا.
اقترب الحارسان منهما ثم قال أحدهما عاقدًا حاجبيه بانزعاج:«ألم تسمع يا هذا النداء؟ هيا تحرك فورًا. ».
لكن توماس تجاهل قوله وجلس أمام إرورا ثم أمسكها من ذراعيها بكلتا يديه وقال وقلبه يضيق به وأنفاسه تتسارع:«انتبهي إرورا ولا تتهوري أرجوك، لا تتهوري أبدًا. ».
لم يستمر حديثه طويلًا فقد سحبه الحارسان و بدآ بدفعه بعيدًا، لكنه التفت مقاومًا دفعهم إياه وصرخ:«سنلتقي مجددًا يا إرورا في يوم نحلم به أنا وأنت. ».
لم يلبث صوته كثيرا حتى بدأ بالتلاشي بابتعاده عنها.
دفنت إرورا وجهها بين كفيها وهي تنتحب، ذلك المستقبل الذي كانت في قرارة نفسها تعلم أنها لن تشهده أبدًا، وأن مقابلتها توماس مستقبلًا ليست سوى أملٍ كاذب أو معجزة لن تتحقق.
تنهد جوزيف بعد أن جاءه خبر انطلاق المركبة المتجهة إلى كوكب جليزا راحلةً مع العسكر المدربين، كان ما يشغل بال جوزيف هو تقلص أعداد الرجال الموجودين في المعسكر التدريبي؛ فلم يبق في الكوكب سوى كبار السن والأطفال، لقد انتكس الحال منذ عشر سنوات عندما توقفت المركبات الفضائية عن الوصول من كوكب الأرض، إضافةً إلى قلة العائلات وكثرة الأمراض التي تفتك بالنساء والأطفال. هو يعرف بأنه لم يكن يومًا شخصًا قادرًا على بناء شعبٍ وإعالته بما يحتاجه، فلم يفكر بالتعاون مع فيكتوريا بشأن تعزيز الجانب العلمي لدى شعبه أو حتى الاستعانة بكم جيد من الأطباء. لم يكن ذكيًا كفكتوريا أو ربما -إن صح القول- لم يرغب بأن يكون ذكيًا، ففكتوريا لا تقل عنه بجانب استغلال شعبها لكنها استطاعت تلبية حقوقهم البسيطة على الأقل.
لقد كان الوضع أفضل بكثير في عهد والده الذي رُحِّل مع مجموعة كبيرة من الناس من كوكب الأرض بعد اندلاع الحرب الأخيرة، وقد كانت كما سُمّيت «التصفية الأخيرة للسكان». كان والده شخصًا حازمًا يطمح إلى السلطة، ولم يسمعه في يوم ما يرغب بالعودة إلى كوكب الأرض أو حتى الانتقام كما هو حال فيكتوريا، لكن السبب حتمًا كان أن ما حصل مع والده كان بعد فترة طويلة مما حدث لسكان كوكب جليزا، إلى جانب أن والده لا ينحدر من أي أسرة ملكية أو أسرة تملك سلطة معينة، كان شخصًا من عامة الشعب تمرد على السلطات ورُحِّل، لكنه حصل على سلطة في مملكة خاصة به بالمقابل وكان هذا يشبع رغباته بطريقة أو بأخرى.
لم يعش والده كثيرًا حتى اُغتيل من قبل امرأة سممته بغية التخلص منه وإبعاده عن الحكم. كان يبلغ من العمر حينئذ ثلاثة عشر عامًا وقد كان متعلقًا بوالده كثيرًا، تذكر أنها كانت ربما آخر مرة شعر بها أنه إنسان طبيعي يحزن ويبكي وينكسر، ولكن ذلك الانكسار لم يكن سوى نقطة نهوض عظيمة حيث إنه لم يبك ولا مرة في حياته بعد تلك الحادثة لا سيما عندما حدث شيء مروع للغاية. بقي عدد من أنصار والده وشجعوا والدته على جعله يتولى الحكم بمعونتهم فرضخت خوفًا من أن تُستبعد ويُستبعد معها.
بعد فترة قصيرة، استطاعوا العثور على المرأة التي قامت بتسميم والده، ومن ثم تحريضه على قتلها بغية الثأر منها وأخذ حق أبيه منها. تذكر ارتجاف تلك المرأة وهو يقترب منها بعد أن سلموه السكين بيده، لكن يده كانت أكثر ارتجافًا وقد تعرقت حينئذ بطريقة لم يعهدها من قبل، عندما اقترب منها بدأت تنوح محاولةً استعطافه وردعه عما سيفعل، ولكن من يصدق بأن طفلًا بعمره يستطيع أن يقتل؟
كادت قواه تخور وينهار باكيًا، يصرخ بأعلى صوته «لا أستطيع فعلها!». لكن تعالت أصوات التشجيع حوله والهتافات التي تحثه على قتلها، فنظر إلى وجهها الباكي المتكدر، ولكن حالما لاحت له ضحكاتها المستفزة التي كانت تحاول بها كسب ثقة والده وخداعه، وحالما تذكر معاملة والده الحسنة لها، وبين هذا وذاك وأصوات ترتفع، وصورة والده التي كانت تلوح في عقله، رفع يده التي حملت السكين وغرزها في صدرها فتلوثت يداه بالدماء. عوضًا عن الانهيار أمام ذلك المشهد الدموي شعر بالراحة الشديدة وشعور بالرضا والنشوة بالثأر. بعد تلك الحادثة، خرج من شرنقة الطفولة تلك، أو يمكن القول من شرنقة الإنسانية عامةً، لم يشعر يومًا بضمير يؤنبه.
بعد سنوات من حكمه بدأ يصدر الكثير من الأمور التي تبيد أي حقوق من حقوق المرأة كرهًا منه تلك المرأة التي اعتقد بأن كل النساء خبيثات مثلها، قتل العديد من النساء آنذاك حتى استطاع الخروج من تلك الحالة قليلًا وتزوج بأمر من والدته حتى ينجب خوفًا من أن يُغتال كما حصل مع والده، لكنه لم يستطع الإنجاب واتضح بأنه لا ينجب الأطفال حتى.
أصدر الكثير من الأوامر التي تحجز من حرية المرأة عن أي شيء، كما أنه عزز فكرة استعبادها حتى أصبحت عادات لدى الذكور من شعبه. منع المرأة من الخروج خارج المنزل أو التجول في الأسواق الشعبية، كما حرمها حقوقها الاجتماعية على أنها ليست جزءًا من المجتمع، حتى أنه أمر بقتل كل المولودات من الفتيات لكنه رجع عن قراره بعد فترة خوفًا من اختفاء وجود النساء نهائيًا مما يؤدي هلاكهم. عقد صفقةً مع فيكتوريا لاحقًا بعد أن قلّ عدد النسوة مقابل أن يقوم بإرسال رجالٍ مدربين إليها، كما كانت ترسل له بعضًا من شباب شعبها ليتلقوا التدريب أيضًا.
تغير حاله كثيرًا بعد أن قابل إليزا وأحبها، تزوجها ولكنه عندما شعر بأنها من الممكن أن تعبث وتغدر به عاد لعهده السابق واكتشف بأنه أحب جمالها لا أكثر، فمنذ أن أهملت نفسها تلاشى حبه الشديد لها. وجد نفسه يحب النساء الجميلات ويتناسى بغضه لهنّ، حتى أنه غدا ينتقي الفتيات الحسناوات للزواج بهن ومع هذا لم يستطع الاستمرار بأي علاقة معهن؛ فبعضهن تمردن فقتلهن كما فعل سابقًا وبعضهن هربن وقتلن أيضًا.
كانت وحدها إليزا من بقيت معه، رغم حبه جمالها إلا أنه عرف أن شيئًا ما جعله يحبها لذاتها، كانت صبورة، ربما لأنها تملك شيئًا يجعلها تتعلق بالحياة عكس حال أولئك النسوة اللاتي جئن من كوكب جليزا رغمًا عنهن وفقدن الأمل والدافع للعيش. كان يستغرب ثبات إليزا أمامه بعد معرفتها أنه قد قتل إحداهن كل مرة، ربما شيء بداخلها يؤكد لها بأنه عاجز عن قتلها، كيف لا؟ وقد امتنع عن قتلها في تلك الحادثة التي مضى عليها ما يقارب العقدين، رغم أنه كان يملك سببًا قويًا وفشل. منذ زمن طويل بدأ يمتنع عن الزواج كما أن فيكتوريا لم تعد ترسل الكثير من الشابات بعد اعتراض شعبها وطلبه الملح عليها، لكنه أحب إرورا، ربما لأنها أول فتاة تنشأ أمام عينيه كما أنه رأى حبها في قلب إليزا وعينيها، أحب روحها التي كانت تشبه روح إليزا قبل أن تغرقها الأحزان وتفتك بروحها. أحب كبرياءها وعنادها اللذين اكتسبتهما من فيكتوريا، كانت تحمل مزيجًا خاصًا منهما، كما أنه يعرف بأنها حفيدة فيكتوريا دون أن تعرف هي. يرغب بأن يثير غضب فيكتوريا وجنونها عندما تعلم بالحقيقة، يريد أن يراها منكسرة أمام عينيه فطول الوقت كان يكره تحكمها به وسلطتها عليه التي تثير حنقه. أبعد توماس عنها ظنًّا منه أنه عائق في وجهه رغم عدم صحة أفكاره تلك. هو الآن ينتظر الوقت المناسب للزواج بإرورا واللعب قليلًا بأعصاب فيكتوريا.
التقطت أذناه نداء أحدهم باسمه قاطعًا سلسلة أفكاره المجنونة وجسر الماضي الذي قطعه في دقائق عدة. التفت إلى مصدر الصوت فوجد إليزا أمامه.
«جوزيف، هل يمكنني أن أعرف عما يدور في رأسك بالضبط؟». قالت له بحدة عاقدةً حاجبيها باستنكار.
– ما الذي تقصدينه بكلامك هذا؟
– لا تحاول أن تتجاهل، فأنا أعرفك جيدًا وأفهم مغزى تصرفاتك، ما الذي جعلك تضع اسم توماس بين الراحلين؟
رفع جوزيف حاجبيه باستنكار بعد أن بدأ يشعر بالحنق من كلامها ثم قال ساخرًا:«منذ متى آخذ رأيك بقراراتي الخاصة والتي تخص مملكتي؟».
كانت إليزا لتشعر بالارتباك لولا أن الأمر كان يتعلق بإرورا وإصرارها على مواجهته منذ زمن.
«لقد دسسته عمدًا لتبعده عن إرورا».
حدق جوزيف بها لحظات متعجبًا من جرأتها التي كاد ينساها بعد كل تلك السنوات التي قضتها صامتةً راضية، لكنها فعلت كل هذا حتى تبقى إرورا في أمان. ابتسم قائلًا ببساطة تامة محاولًا استفزازها:«نعم، فعلت».
شعرت إليزا بانهيار داخلي وضعف قوتها وهي تدرك أنها لا تستطيع فعل شيء أمامه وهو لا يكترث لها ولا لغضبها فلا شيء يوقفه ويردعه. صغيرتها ستنهار لتسرق سعادتها وابتسامتها التي لطالما بعثت البهجة في نفسها المتألمة، كان هذا كفيلًا بجعلها تنهار ويرتجف جسدها الضعيف وهي تقف أمام حجر لا تحركه أي عاطفة. نظرت إليه محاولةً استعطافه ثم قالت بصوت مرتجف وعينين دامعتين:.
«أرجوك افعل بي ما شئت، لكن لا تسلب مني صغيرتي، يكفي أنك منعتني من رؤيتها والتحدث إليها فور بلوغها الثالثة من عمرها، لا تسلب منها بهجتها وروحها المزهرة. ».
لم يكن يرغب بسماع سيمفونيتها تلك بأي طريقة كانت، ولم يكن بمزاج يسمح له بأن يسمع صوت نحيبها وبكائها وعتابها، فاقترب منها وأمسكها بكلتا يديه من كتفيها ثم قال:«اسمعي، لا أريد سماع شيئًا من معزوفاتك المملة، ستعيش كما عشتِ أنتِ وسأتزوجها لكي تعلمي فقط، هناك غاية في نفسي ولن تردعيني عنها حتى لو بكيتِ بقية حياتك».
شقت ابتسامة وجهه بينما اتسعت عينا إليزا وهي تشعر كأنها على وشك السقوط، فأتبع قائلًا:«لا تفقدي مكانتك لدي وتقبَّلي الأمر بصدر رحب. تعرفين أنني لن أتعب نفسي بإقناعك، ولكن لتعرفي كم أنا طيب سأسمح لك بالحديث مع ابنة أخيك القتيل ذاك، حتى أنها ستشاركك القلعة وتتقربي منها وتضميها كما كنت تحلمين منذ سنوات، أليس هذا رائعًا عزيزتي؟».
كانت كلماته تلك ككلمات شخص لطفل صغير يود الفرار من شكواه وبكائه، إنه يسخر منها كما يفعل دائمًا. كانت تشعر بالألم والضيق الشديدين وقد كانت على وشك الانهيار، فبكت من آلامها وكأنه كابوس من كوابيسها التي تكرهها، كأنها في مكان وقد أغلقت جميع أبوابه ليضيق عليها أكثر في كل لحظة لا منقذ ولا مفتاح، كل شيء عبارة عن ظلام.