رواية عذرا لكبريائي للكاتبة أنستازيا الفصل الخامس والخمسون
نظرت من حولي قليلاً قبل أن أعاود النظر إلى الشاشة بتوتر، لا زال في وضع الإتصال، إنه ينتظر. وأنا لازلت ابحث عن الكلمات التي تبحر أمام عيناي. لا أدري ما الذي على انتقاؤه حقاً.
اسرعي يا شارلوت ما الذي تنتظرينه؟!
ازدردت ريقي للمرة المئة ثم هدأت نفسي.
سحقاً هذا يشعرني بالمسؤولية.
علي أن أسترخي.
لا داعي لكل هذا القلق، من الضروري أن أتصرف بأريحية تامة حتى لا أبدو متكلفة أكثر من اللازم.
يجب أن أكون عفوية.
أنتقي كلمات بسيطة مناسبة.
أتصرف كما أنا وحسب.
حينها بدأت أناملي تخط على أحرف الشاشة.
لقد ولجت عبر النافذة منذ الأمس، استلقيت بجانبك طوال الليل.
أرسلتها أعض على شفتي بتوتر ثم أكملت لأكتب كنت أحدق إليك طوال الوقت، لا أدري كم دام الأمر حتى تبادلنا النظرات، أظنك كنت تعتقد أنني مجرد طيف كذلك.
حسنا أنا حقاً. متوترة وخجلة! ومع أنني كذلك ولكن على أن أكون صريحة. على أن أخبره بما يجول في خاطري.
تذكري يا شارلوت.
إنه زوجك.
كريس يكون زوجي ولا ضير في قولها. لقد قبلتك، لم أستطع منع نفسي. كنت ولا زلت مشتاقة إليكَ كثيراً. أكثر مما تظن.
أرسلتها وأغمضت عيناي بقوة أنصت إلى خفقات قلبي المتسارعة، سُحقاً. لقد قلتها حقاً.
لا أدري إن كان هذا سيفاجئه.
لقد كانت المرة الأولى التي أبادر فيها بالفعل وإن لم يكن يقظاَ.
حركت كلتا قدماي أضرب بهما الأرض بإحراج ثم تمالكت نفسي.
لم يكتب أي حرف.
ولكنه لا زال في وضع الإتصال.
نظرت للباب بتلقائية ثم عاودت أنظر للهاتف لأسرع في الكتابة أنا لن أتحدث عن أي أمر يزعجك أو يغضبك، صدقني سأحترم رغبتك هذه.
نظرت إلى الفراغ لوهلة قبل أن أبتسم بخجل وأكملت أتذكر بداية كل هذه القصص المتداخلة بطريقة غريبة؟ عندما قلت لي بكل ثقة أنك ستوقعني في حبك! لقد كانت شخصيتك فاسدة حقاً، كنت مجرد نرجسي وثقتك المفرطة بنفسك أمر مرعب، ومع ذلك وقعت في حبك وقد كان الجزء الأغرب، كان على أن أكرهك وأكن لك الحقد ولكنني وقعت في حبك.!
أخذت نفساً مرتجفاً قبل أن أكمل وقد بدأت أناملي تؤلمني قليلاً من الكتابة السريعة أنا أعلم أنك ذكرتني أمام رين في طفولتكما، أعلم أنك تحدثت عني كما لو كنت طوق نجاة يعني الحياة بالنسبة لغريق، اسمح لي أن أتحدث بثقة أنا أيضاً فلقد حان دوري.
حسناً هذا مهلك، الكتابة فكرة سيئة، ربما سأقوم بتسجيل صوتي هذا أفضل.
ضغطت على أيقونة التسجيل وقد بدأت بالفعل لأقول مخفية بكل جهدي شعوري بالتوتر أو الخجل: أتعلم. أعترف أنني ممتنة لك، ومع أن الوقوع في الحب مؤلم يجلب المشاكل بالفعل ويُذهب راحة البال بعض الشيء ولكن. إنه ممتع، شعور عميق وكلما توغلت فيه شعرت بوجود عالم آخر منطوي في داخلي، كريس لن تفهم ما أحاول قوله كما لن أفقه الطريقة الصحيحة لتوضيح مشاعري وما أرغب في قوله حقاً، ولكن. بحق. الوقوع في الحب أمر جميل، ومع أنني في البداية ظننت أن لا أنا أو أنت نصلح للحب أصلاً. فأنت ذو كبرياء تخطى كبريائي بمراحل بعيدة بل بسنوات ضوئية، وأنا حمقاء تشعر برغبة في البكاء عندما تتعلق بشخص ما قد يقسو عليها وتزداد عناداً. ومع أنك لم تقسو على حقاً ولكنك كنت فاسد تلجأ إلى حيل مستفزة. وقد استفزتني بالفعل.
أرسلت التسجيل وقد أدهشتني حرارة وجنتاي! بلا شك فأنا لم أعتد قول كلمات مماثلة له.
هذا لن يكون سهلاً أبداً. لو كان يجلس مقابلي الآن أو في أي وقت آخر. لن يكون سهلاً علي!
طرفت بتدارك عندما سمعت صوتي في الغرفة خلفي فعلمت أنه فتح المقطع الصوتي ليسمعه، ابتسمت وأسرعت أكمل براحة: كريس، أنت لن تملك أدنى فكرة عن المرحلة التي مررت فيها بعد أن خرجت من منزلك بعد ظهور كلارا المفاجئ، عندما ظننت أن كل شيء قد انتهى وعدت إلى منزلي، أكره الإعتراف بهذا ولكنني بكيت إلى أن شعرت بحرقة في عيناي، امتنعت عن تناول الطعام رغماً عني وعندما أجبرت نفسي تقيأت واخذني سام إلى المشفى. شعرت لوهلة أنني أؤدي دور المنتحرة.
دمعت عيناي قليلاً فأرسلت المقطع، سحقا هذا يذكرني بالحالة المريرة التي كنت أعاني فيها.
كانت فترة صعبة حقاً.
كنت افتقدته وأغوص في مشاعر الخوف وحسب!
ضغطت بإبهامي المرتجف على أيقونة التسجيل: كنت أبكي وأقول لسام إن كان هذا ما يعنيه الوقوع في الحب فأنا لا أريده، ولكنني كنت أسمع صرخات راجية في داخلي تنفي ذلك بكل قوة، تخبرني أن الحب ليس مؤلماً حقاً، ولكنه كذلك عندما يجهل الطرفان ضرورة ان يكملا بعضهما البعض، ضرورة أن يتمسكا ببعضهما ويدافعان عن مشاعرهما بكل ما أوتيا من قوة، حينها أدركت أنني أسوأ من مراهقة واقعة في الحب. بدوت كالبائسة والتعيسة التي تتنفس بلا هدف محدد، لعنتك وحقدت على قوتك آنذاك، تمنيت القوة والتجلد لئلا أغرق في ضعفي ولكنني بدلا من ذلك كنت غارقة في الحب أكثر. وقد ظننته ضعفاً.
ضممت قدماي إلى وأكملت بشرود: في الأمس أخبرت نفسي أنني سأواصل الإعتراف بمشاعري لك، أخبرت نفسي أن إدراك المشاعر والإعتراف بها ليس أمراً مخجلاً، كما ليس أمراً من حق الكبرياء أن يتدخل بشأنه، عندما ينجح الكبرياء في التدخل فأنا أراهن بأن هذه المشاعر ليس حباً عميقاً حقاً. فالحب بلا شك. غير قابل للتقييد.
نظرت إلى الشاشة، واستمعت إلى صوتي في الغرفة، تنهدت بعمق ثم أعقبت بصوت ظهرت فيه اللعثمة رغماً عني: كريس، لقد جربت شعور الحب لأول مرة معك. خضت الشعور بالغيرة وقد كان مزعجاً وموجعا كثيراً، وها أنا ذا أجرب حاليا الشعور بالخيانة، بالفراق. بالشوق. ولكنني لا زلت أتحمل، لأنني وبطريقة ما أدرك أن مشاعر الحب هذه متبادلة، بل أعلم أنكَ لربما وقعت في حبي قبل أن أفعل أنا وبزمن بعيد. أنا شاكرة لكون كلا والدينا كانوا في وقت ما أصدقاء، وإن كانت علاقتهم مشوهة ولكنني لا زلت ممتنة، لولاهم لما كنت قادرة على لقائك، لما وقعت في حبك. لما مررت بالكثير واكتشفت أن شارلوت كريستوبال إفليك امرأة قوية وصبورة. حسنا هذا مخجل، أن يقترن اسمي بإسمك أخيراً. ف. فليكن.
أرسلتها بسرعة وقد أغمضت عيناي بقوة بإحراج ولكنني نفضت شعور الإرتباك هذا وقلت: أنا حقاً أسفة لقولها بهذه الجرأة ولكن. ، من الظلم أن توقعني في حبك. وعندما أعلق في شباكك لتتركني خلفك وكأن شيئاً لم يكن، هذه قسوة. لقد هربت من كل شيء وتركتني خلفك، خلقت مسافة هائلة بيننا! بنيت ردماً تحرمني من خلاله من رؤيتك. سماعك. التواصل معك ولو بكلمة. إن كنت قد وقعت في حبي قبل زمن لأنني نجحت في مواساتك، فأنا وقعت في حبك بينما تتصرف معي بلؤم واستفزاز، أنظر إلى هذا الطباق الغريب والغير قابل للتفسير. الا يحتاج أن نتأمله قليلاً؟
أرسلته وقد دمعت عيناي مجدداً وتغيرت نبرتي لأكمل بضيق: من فضلك عُد. عد إلى ولا تتركني خلفك، فعلت هذا مرة وشعرت بأنني أحترق، لا تجعلني أجرب هذا الشعور مجدداً، من الصعب وصف صعوبته، من الصعب وصف ما أمر فيه، أوقعتني في حبك رغماً عني. لذا تصرف، أوقفني عن التوغل في هذا الحب، اجعلني أكرهك، أنقذني أولاً ثم افعل ما يحلو لك!
سالت الدموع الساخنة على وجنتاي فأسندت رأسي على الباب وأضفت بأمل: ولكن احزر ماذا الآن. ها هو ذا الجانب المتناقض مني يقول أن هذه المهمة مستحيلة حتى عليك أنت. لأنني أدرك أن التوقف عن حبك لم يعد أمراً وارداً، لم يعد ممكناً. أظنني بحاجتك أكثر من أي شيء، أحبك كما أنت. لا يهمني أن تتغير للأفضل أو تحاول أن تحسن معاملتك، لا يهم. أحببتك كما أنت ولا أهتم بما تريد أن تكون عليه. لما لا نخوض معاً كل شيء؟ المشاكل، الهموم. المتاعب، السعادة وأي أمر سواء كان محزن أو مفرح، لما لا نمضي معاً ونتوقف عن النظر للخلف؟ ألم يعد هذا ممكناً حقاً؟
أرسلتها ونظرت للسقف بشرود وشفتاي ترتجفان، وكذلك أناملي التي كتبت له رسالة سريعة: أنت مذنب، أوقعتني في حبك وتركتني خلفك. جد حلاً لجريمتك يا كريس.
وضعت الهاتف جانباً واذني تلتقط صوتي المُسجل في الغرفة، دفنت رأسي بين ركبتاي وشيء من الضياع والتشتت يجتاحني، لا زلت أريد قول المزيد. لا زلت أريد الصراخ بكلمات أكثر وأعمق. ولكن.
عندما يأتي وقت التطبيق والقول تتبخر الكلمات فجأة!
بحق. شتان بين ما نشعر به وبين ما تتفوه به ألسنتنا، ليتني كنت قادرة على أن أريه ما بداخلي، على أن يرى ما في قلبي، ليفهم ما أحاول قوله، ليستوعب كلماتي جيداً.
ماذا أفعل الآن؟! ماذا أقول!
أسمع تردد لصدى الجدة هيذر في رأسي.
كلماتها تتجول في عقلي!
اتسعت عيناي بإستيعاب وأسرعت أمسك بالهاتف محاولة السيطرة على ارتجاف يداي، قمت بالضغط على أيقونة التسجيل مبتسمة من بين دموعي: أتذكر ما قلته لي؟ كلماتي التي تفوهت بها في طفولتي. بشأن تثاقل الهموم على المرء الطيب تماماً كالفراشات التي تتعرض للصيد وكأن الحياة لا تجيد سوى إظهار قوتها على الضعفاء. إليكَ الجزء الثاني إذاً.
أرسلتها بحماس وقد اعتدلت في جلستي باحثة بسرعة عن الكلمات المناسبة.
لا بأس يا شارلوت.
لا يهم إن كنتِ لا تذكرين شيئاً.
المهم هو أنكِ شارلوت التي تفوهت بتلك الكلمات له.
عضيت على شفتي بتفكير للحظات، ازدردت ريقي بصعوبة.
علي أن أكون أكثر حكمة.
وعفوية أيضاً.
لا يجب أن أكلف نفسي أكثر مما ينبغي، لأفكر بعاطفة. الفراشة التي يتم اصطيادها لجمالها مصيرها سيكون تعيساً على الأغلب. كنت طفلة آنذاك، قال بأنني كنت أحدق إليه بتأمل طوال الوقت، بل وتفوهت بهذه الكلمات لأقتني مثال الفراشة، هل كنت معجبة بمظهره إلى هذا الحد وأخبرته بذلك لأواسيه.؟
هل كان يبكي وقد أشعرني برغبة عارمة في مساعدته بأسرع ما يمكن وبكل ما أملك؟ اختلف الوضع الآن. فكريس لن يبكي كالطفل الصغير. كريس لن يبدي لي ضعفه أو انكساره مع أن هذا ما يحدث حقاً.
إنه الآن شخص بالغ، رجل هارب وقد ترك خلفه الكثير، لم يعد مثال الفراشة أمراً وارداً للمواساة، لن يترك في نفسه التأثير الذي تُرك على شخص صغير في السن آنذاك.
ولكن يا شارلوت.
أنت تفكرين كثيراً!
الم نتفق على أن تكوني أكثر عفوية؟
ذلك الطفل لا يزال بداخل كريس حتى هذه اللحظة.
الم تقل هيذر أن مخاوفه لا تزال تطارده! اليس هذا الطفل عالقاً بداخله حتى اليوم!
كتمت أنفاسي لمهية ثم زفرت ببطء، أغمضت عيناي بهدوء ووضعت الهاتف أسفل ثغري لأسجل موقفة ارتجاف يدي: أتعلم. الجزء الثاني يتطلب أن نعود للوراء قليلاً، تلك الفراشة الجميلة. لديها موطنها كذلك، من أين تأتي الفراشات عادةَ؟ من البساتين؟ من الحدائق.؟ في الحقيقة لم تكن سوى حديقة صغيرة، ضئيلة المساحة، متواضعة إلى حد ما، ومع ذلك نشأت بها أجمل الأزهار، ألطف الألوان، الرياح تعشق مراقصة البتلات وتحريكها بخفة، ولكنها في النهاية قد اقتُحِمتْ، خطت أقدام الناس فيها يا كريس. بدأوا بتلويثها، بممارسة قسوة عاداتهم على الأزهار، على العشب، حتى الرياح لم تعد قادرة على تحريك البتلات لأنه وباختصار لم يعد هناك ما يمكنها تحريكه، ثم خمن ماذا! نعم. تم هجرها، سيتم هجرها كما يحدث مع كل ما يلوثه البشر. حيث يجيد البشر تلويث كل ما هو جميل، لمس كل ما ينجذبون نحوه. حتى يمتصوا كل قطرة من جماله ويجف من أي لون من ألوان الحياة فيصبح غير قابل للإستخدام، للتأمل، ليصبح كياناً مهجوراً. متروكاً خلفهم، مجرد كيان كان يوماً ما جميلاً، كان يسرق الأنظار. تلك الفراشة لم تحتمل ما آل عليه الوضع. هربت من تلك الأطلال البشعة وهي تدرك يقيناً أن بشاعة تلك الأرض الصغيرة أجمل وأنقى وأطهر مكان قد عاشت به، وقد لا تجد ما هو أنقى منها. ، فرارها وهربها من موطنها. جلب لها الضريبة رغماً عنها وقد لوحقت وتم اصطيادها. ولكن الأمر لم ينتهي. قد تكون مكبلة ولكنها لم تمت، قد تكون معزولة ولكنها لا زالت قادرة على البوح والتحليق هنا وهناك، لا زالت تملك الحق في العيش، في الهرب من الظلمة والعزلة، لا زالت تعلم أنها قادرة على أن تكمل وتمضي دون التوقف، إنها تدرك جيداً. ببصيرتها، بقلبها، بعقلها. أن تلك الحديقة الصغيرة قابلة لأن تحيى مجدداً، موطنها لا زال موجوداً. الأرض النقية التي كانت مسكنها ذات يوم لا زالت بانتظارها، الرياح تهب كل يوم منكسرة الفؤاد تعد الأيام لتعود لمراقصة البتلات اللطيفة.
ضغطت على زر الإرسال بشرود.
متسائلة في نفسي.
إن كان عمق كلماتي التي بذلت جهداً في رسمها قد وصلته كما أرجو. فليفهم أن هذه الكلمات خرجت من فاه فتاة لم تتجاوز العاشرة أو التاسعة، طفلة تظنه فراشة لطيفة خرجت من حديقة شوهتها الظروف، من بيئته التي كان من المفترض أن تبقى نقية كما هي. و لوثت بقرارات الكبار، بتشابكات الحب التي كان الكبار يعيشونها، ماكس وباتريشيا ووالداي. وحتى خالته.
عليه أن يفهم أن الدور الذي يؤديه الآن سيكتشف لاحقاً أنه دور لم يكن يليق به منذ البداية، فليطلق العنان لنفسه. ليرحم نفسه ولو قليلاً من هذا الكبت ومن كتمانه لكل شيء لنفسه!
أريده أن يستوعب أن لا سوء أو عيب في إظهار ضعفه، لا خطأ في الرغبة في التخفيف عن حزنه أو ألمه، هذا لن ينقص من كبريائه او رجولته أو حتى قوته. القوة لا تعني التوقف عن البكاء! لا تعني كبح رغبة الترفيه عن النفس والتخلص من الشوائب التي تشوه الروح.
أحكمت قبضة يدي بقوة ورفعت الهاتف نحو ثغري لأكمل بنبرة هادئة جادة، ولطيفة: أتذكر ما قلته في الأمس؟ بدوت مستمتعاً كثيراً وأنت تنعت نفسك بالشيطان، أراهن على أنك كذبت على نفسك وصدقت الكذبة إلى درجة التوغل في هذا الوهم، قلتها بدم بارد. ، بدوت تحاول جاهداً أن تبدو مجرد شخص شرير قاسي وحسب، اعتقدت أن ما تفعله سيحميك. ولكن، أتعلم. عندما تتحدث عن الخير أو الشر فأنا أيضا من حقي أن أرفض مبدأك الغريب هذا واستوقفك للحظة. فما أراه أنا مختلف تماماً. ما أراه أن حتى جانب الشر يظن نفسه جانب خيّر. لن تجد شريراً سيئاً يعترف بأنه في الجانب المظلم في هذه الحياة! لا يوجد شخص سيء سيعترف بأنه كذلك، الجميع لديه مبرر! فحتى أولئك السيئون يفعلون ما نراه سيء لأنهم يظنون أنفسهم في الطريق الصحيح. لو كان كل شخص يدرك في أي جانب هو فصدقني لن يكون التقسيم مهماً. لن يكون تصنيفنا إلى جانب معين ذو أي أهمية. القاتل سيجلب لك مئة عذر وسيتعلل لك بما دفعه للقتل، السارق سيتعذر بالفقر، المُحتال سيتحجج بطريقة نشأته أو بحاجته! الظالم سيتعذر برغبة الدفاع عن نفسه واستمداد القوة لحماية نفسه من الآخرين! لا أحد سيعترف أنه سيء! حتى أولئك اللذين أجمع العالم على أنهم الأكثر شراً. أتعرف ما سيقولونه؟ سيقولون العالم ضدنا. وسيتعذرون بالوحدة. سيتعذرون بالعزلة وضرورة أن يصبحوا أقوياء ليتصدوا للعالم الذي لا يرحم. هذه هي نظرتهم! لذا عندما تدعي أنك مجرد شخص سيء فأنت في الحقيقة تحاول الدخول إلى تصنيف لا يلائمك! تحاول انتزاع نفسك الحقيقية من مكانها المناسب وتذهب بها إلى مكان موحش بكل قسوة! هل هذا ما تريده حقاً؟ هل ستفخر بإنجاز كهذا؟ وما هو عذرك لاحقاً؟ أنا سيء لأنني عانيت كثيراً؟ سيء لأنني خسرت الكثير!؟ سيء لأنني السبب في فقدان ابني لبصره وفقدان أبي لحياته؟ من تكون لتقرر إلى أي جانب تقف يا كريس؟ ماذا عن نظرتي أنا؟ ماذا عن عائلتك؟ وماذا عن صديقة طفولتك! ماذا لو قلت بأنك مجرد تائه فقط يبحث بشتى الطرق عن مكان. لن أقول بأنه يلائمه. ولكن يعتقد أنه سيحميه من الخسارة أكثر. إن كنت قد خسرت أمراً أو أمرين. فما تفعله في نفسك الآن سيجعلك تخسر كل شيء. لقد وعدتك انني لن أتحدث عما قد يزعجك، أنا حقاً آسفة ولكن. من الصعب تجاهل الأمر أكثر، أنا أكاد أخسرك. ولا يمكنني الوقوف مكتوفة الأيدي ببساطة!
ارتخت ملامحي كثيراً.
أبعدت الهاتف عني لمهية أفكر بحزن بهذا الوضع الغريب، ولكنني لم أعد أرغب في إهدار ثانية واحدة، يمكنني سماع التسجيل في الداخل. لا زال ينصت.
ومع ذلك فشعور التوتر الطفيف يعتريني، لم يتبدد. أشعر بالمسؤولية، بالقلق. وبشيء بسيط من الأمل الباهت.
طرفت بعيني ببطء وأنا أنظر إلى الشاشة بتفكير قبل ان أسجل بنبرة هامسة راجية: إياك وأن تنعت نفسك بأي صفة كتلك مجدداً، توقف عن القسوة على نفسك، امنح ذاتك بعض الراحة من فضلك، أنت لست ملوث كما تظن، الملوث لا يرى النقاء في غيره! الملوث لن يصدق أنه يوجد قلوب نقية ونظيفة على هذه الأرض! انت فقط بحاجة إلى إزالة وتطهير السواد المحيط بك لترى ذلك! ما مررت به لم يكن قليلاً، أعترف أنك عانيت ولا زلت تعاني. ولكن. لا تتصرف بأنانية بحق نفسك، امهلها فرصة واحدة على الأقل للتنفس بعمق!، لا تكن كمن أصيب بحادث مروع ونجى منه دون ضرر. ثم غاب طريحاً للفراش يكبت نزيفاً داخلي مميت في جسده ليلوث روحه ويمزقها ببطء وهو يبتسم للآخرين أو يتصرف كالرجل الشامخ القوي.
أضفت أبتسم بلا شعور بلطف وحبور: أنا لم أتعرض لمشكلات تشابه ولو قليلاً المشكلات التي تعرضت لها، ولم أحمل على عاتقي هموم كهمومك، ولم أعاني من مطاردة الماضي التعيس لي، لذا أنا معجبة بصبرك حقاً. عليك فقط أن تتذكر أن الحياة لن تتوقف عن وضعنا تحت اختبارات متفاوتة، لا بد من مواجهة الصعاب لنشعر بلذة الراحة لاحقاً، لا بد من الخوض في المشكلات لنكتسب قدرة حلها والتعامل معها! كريس. الحياة مثل ما يعرضه تخطيط القلب. يصعد ويهبط. تماما كالعقبات التي نمر فيها، لا يوجد حياة خالية من الهموم أو المشاكل. هذا بحد ذاته مستحيل! الخط المستقيم في تخطيط القلب لا يعني سوى الموت، الخط المستقيم لن يعطينا أي لذة، الإستقامة في هذه الحالة تسرق أي نكهة قد نشعر بها! عدم مواجهتنا للصعاب او المعضلات سيقتلنا بالروتين الجامد! من فضلك. افتح الباب. دعني أحدق إليك. أنا حقاً مشتاقة إليك ولم أعد أحتمل! دعنا نتحدث، نفجر الرغبة في البكاء والصراخ أو ما يحلو لك، عبر عما تشعر به بالطريقة التي تريدها. ولكن لا تفعل هذا. توقف عن ظلم نفسك ومن هم بانتظارك بتوق وقلق. افتح الباب، لنتشاجر يا كريس. فرغ جُلَ طاقتك بي كما يحلو لك.
ازدردت ريقي أنظر للباب بتعاسة وهذه المرة تركت هاتفي بشيء من الإنهاك ورغبة في البكاء. أسندت رأسي على طرف للخلف أحدق إلى اللاشيء.
أنا أحاول جاهدة التخلص من كتلة السواد المحيطة به.
أريد انتزاعه من جوف العتمة.
أنا حقاً لا أريد خسارته. لن أحتمل أن يتركني خلفه، المشاعر التي أكنها له لن ترحمني!
يا الهي. ساعدني، أعده إلي.
أعده إلى ابنه وعائلته.
الجميع بحاجته. وهو بحاجتهم أكثر.
هذا كثير حقاً.!
كريس مقدر لي. لا يمكن ان يكون الأمر غير ذلك. لا يمكن أن لقاء والدينا صدفة، ومقابلتي له في طفولتي صدفة، ووقوعي في حبه صدفة. لا أؤمن بالصدف.
ولن أفعل.
أدخلت الهاتف في جيبي ووقفت ببطء أرجع خصلات شعري المسدل خلف أذني، اسندت ظهري على الباب واحتضنت نفسي أنظر إلى الأرض. ثم إلى أرجاء المكان.
لحظات حتى أغمضت عيناي أتنفس بعمق.
لم أعد اسمع صوتي في الداخل، ما الذي يفعله يا ترى.
ما الذي يفكر به؟
هل أطرق الباب؟
نويت هذا. ولكن.
سمعت خطى خافتة تقترب.
فُتح الباب خلفي، أردت أن التفت بسرعة البرق ولكنني تسمرت في مكاني وكلتا يديه تطوقانني بقوة!
ه. هاه!
أنا.
بالكاد أطرف.
قدماي بالكاد تحملانني.!
عانقني بقوة جعلتني أغمض عيناي أمنع نفسي من التأوه، شعرت به ينحني حتى دفن وجهه في عنقي، يديه زادت من قوة التمسك بي!
اتسعت عيناي بدهشة، بذهول، وبسعادة!
أريد ازدراد ريقي ولكن. هذا صعب بعض الشيء، جوفي مشغول بالتنفس السريع حالياً!
مع أن عناقه قوي جداً ويكاد يحطم عظامي ولكن. لا بأس. لا بأس!
أردت الالتفات نحوه أبتسم بلطف وانا أحاول ان استدير ولكنه رفض! ارتخت ملامحي كثيراً أشعر بارتجاف يديه، أخفضت عيناي نحو أنامله المرتجفة، حتى أنفاسه على عنقي لم تكن منتظمة، م. ما الذي يحدث معه! غرقت في عجبي وأنا أسمع صوت ناصل أفلته من كلتا شفتيه، صوت جعل قلبي يسقط في معدتي. صوت خُنين خافت بالكاد يسمع! حاولت أن التفت مجدداً بتلقائية رغماً عني بعدم تصديق، تمنيت أن أنظر إليه وأخفف عنه ولكنه منعني بقوة وهمس بصوت ألجمني الضعف والإنكسار والرجفة فيه: لا تنظري.
هذا سيء. أشعر بألم في صدري الذي يهبط ويصعد بتسارع، قلبي لا ينكف يخفق بجنون، خفقاته تكاد تكون مميتة!
عيناي تدمعان ولا أدري متى بدأتا ولكن الدموع تنهمر بغزارة! وجنتاي تغرقان كأرض تعاني من انهمار المطر متواصلاً لليالي عدة، ضعفه يؤلمني. يحرك مشاعري بعنف!
عضيت على شفتي وأغمضت عيناي أرفع يداي أسندهما على ذراعيه.
علي أن أتمالك نفسي.
لا يجب أن أتصرف هكذا.
من المفترض أن أكون قوية لأجله.
يجب أن.
لقد تعبت.
رفعت رأسي أنظر للفراغ محاولة التوقف عن ذرف الدموع، ومحاولة تخليص نفسي من دهشتي لسماع ارتجاف صوته الذي اعتدت ابرازه للقوة فيه، للثقة والغرور!، مررت يدي بلطف على ذراعه اليمنى، دفن وجهه في عنقي أكثر وهمس بصوت أجش وأبح: تعبت، هذا يفوق طاقتي.
أومأت بحنان وأنا لا أزال أمرر يدي على ذراعه، وبالرغم من إنكساري لضعفه إلا أنني قلت بلطف: ولهذا تحديداً أنا هنا، لأنني زوجتك التي ستستقبل كل كلمة منك وتنصت إليك بإهتمام، أنا أنصت بكل جوارحي. قل ما تشاء، دعني أمسك بيدك وأسمع ما يجول بخاطرك. اعتبرني بئر أسرارك. اعتبرني دفتر يومياتك أو الطرف الآخر لحديث النفس. اعتبرني ما شئت.
يا الهي. ارتجاف يديه وجسده يزداد!
إنه.
يكبح نفسه بقوة! يحاول السيطرة على نفسه، يحاول أن يتمالك رباطة جأشه بكل جهد!
لا يجب أن يحمل نفسه فوق قدرته.
فليستسلم لي وحسب!
كريس. سأستدير، أنا أيضاً أرغب في معانقتك.
توقفي.
أقسم لك أنني لن أنظر إليك إن كنت تخشى ذلك، سأغمض عيناي، لن أفتحهما، أعدك. أنا بحاجة إلى صدرك أيضاً، أرجوك، س.
ارتخى جسدي فجأة لإبتعاده دون سابق إنذار! لكنني تفاجأت من ردة فعله وقد انهار جسده ليجلس على الأرض!
اتسعت عيناي بقلق أنظر إلى ارتجافه الواضح، أبعد نفسه قليلاً ليخفي وجهه يسند جبينه على الحائط وأسند نفسه بكلتا يديه المرتجفتان، جثيت بجانبه أميل للخلف قليلاً محتفظة بوعدي له، لن أقف أمامه وأضايقه. لن أنظر إلى ضعفه إن كان يكره ذلك! شعره المتناثر يغطى وجهه قليلاً. رفع يده اليمنى ليسندها بجانب رأسه على الحائط، اقتربت لأمرر يدي على ظهره بلطف شديد، سحقا ليس مجدداً! تلك الدموع تحاول التجمع في عيناي مرة أخرى تأثراً بإرتجاف ظهره تحت يدي! ولكن. على ان أكون أقوى لأجله!
نجحت في تجفيف عيناي ثم أغمضتهما بقوة، ولم أكد أفعل حتى قال بصوت أوضح كمية من القهر والغضب الذي مزج بالضعف: أنا حقاً لم أعد أصلح للعيش مع أي أحد.
نفيت برأسي بقوة ولم أتفوه بحرف، رفضت جملته هذه بصمت تام فأكمل: لن أتوقف عن جلب المشاكل لمن حولي. حاولت أن أحتفظ بكل شيء لنفسي ولكنني كنت أؤذيهم دون قصد، حاولت أن أفرغ طاقتي ولكنني خسرت الكثير. لم يعد لدي أي خيارات أخرى، لا البقاء إلى جانبهم أو الإبتعاد عنهم سيحميهم مني أو يحميني مما أغرق فيه بإستمرار، لقد تعبت. هذا منهك جداً. إلى درجة من الصعب وصفها.
أعقب بصوت منخفض: لم أعد أرغب في أي شيء. أنا حقاً لا أتمنى أي شيء! نفدت طاقتي في التمني طيلة السنوات الماضية وقد كنت في كل مرة أعود خالي الأيدي. أنا لا أجني أي شيء سواء كنت أكن الكراهية والضغينة أو حتى الحب. لا شيء ينجدني. لقد كُتب على أن أدفع ثمن كل شيء، كُتب على أن أرى نفسي أرتدي مئة قناع وقناع، أضعت عشرات الأقنعة واستبدلتها بأخرى. ولكن لا شيء أجنيه. لا شيء على الإطلاق. فشلت في موازنة الأمور. سعادتي ستكون ضريبة يدفعها الأخرون، وحنقي وتعاستي في المقابل تنقذ الأخرون! وكأنني مجرد أداة بلا قيمة، وكأنني مجرد شخص وُلد بلا أدنى أهمية! في كل مرحلة اكتشف أنني بالفعل مجرد دخيل. عقبة. نكرة!
أفلتُ شهقة بسبب بكائي المفاجئ دون قصد وأسرعت أقول نافية ويدي تمسك بقميصه برجاء: غير صحيح. هذا جرم عظيم، ما تقوله في حق نفسك جريمة نكراء! توقف أرجوك عن قول هذا! لم يُكتب عليك أن تعاني كما تظن، لا شيء مما تفكر به صحيح!
لن تفهمي. لن تفهمي أي شيء مهما حاولت الشرح!، لا أحد سيفهم. حتى أنا لم أعد أفهم أي شيء، من أنا بحق خالق الجحيم! لماذا وُلدت تحديداً وقد حارب الجميع لئلا أتواجد! ما الهدف من وجودي؟! لماذا كلما حاولت التغير أعود للوراء. لماذا أنا أتخلف عن الجميع وأقف بعيداً دائماً. ما الخطأ الذي ارتكبته تحديداً منذ البداية ويعاقبني الإله عليه؟! شعوري بالحقد ممنوع، شعوري بالرغبة في التنفس محظورة، وقوعي في الحب مُحرم، رغبتي في الهرب غير واردة! ما الذي أملك الحق بشأنه؟! دخيل مثلي أفسد موازين الأمور ما الذي قد يستطيع فعله؟! شخص مثلي لن يملك أياً من هذه الحقوق طالما كنت ظالما منذ طفولتي. إن كان هذا ما يعاقبني الإله عليه فأنا أستحقه حقاً، حاربت أبي كما لو كان مجرد عدو، وقفت في صف أمي لأحمي نفسي منها ولكن هذا لم يسعفني، لجأت إلى تفريغ طاقتي في الجميع وقد ظننت أنني أستمد القوة ولكنني نلت جزائي بالوحدة، حتى من كان أخي وصديقي يوماً تسببت في إيذائه. الجميع قد أوذي بسببي! حتى وإن أردت حمايتهم فأنا لا أدري ما الطريقة الأنسب لحمايتهم! كيف أكون متناقضاً إلى هذه الدرجة! أطالب بالرحمة مقابل كل ما اقترفته بيداي. أطالب بأن أحيا بسعادة مقابل الحماقات التي ارتكبتها بنفسي.! يا للوقاحة. يداي ملوثتان. ومع أنني حاولت تنظيفهما ولكنني.
بتر كلماته عندما تغيرت نبرته وقد ارتجف صوته أكثر محذراً على إنهيار جزء كبير من روحه، أسند رأسه على الحائط بقوة وكور قبضته وحينها تجمدت في مكاني، بل وتخشب جسدي بأكمله نتيجة لإنفجاره عندما صرخ بإنفعال: لماذا عدتِ. ابتعدت من تلقاء نفسي، على أن أبتعد لئلا أسبب المزيد من التعاسة للجميع، اتركوني وشأني. لدي ابن على حمايته والطريقة الوحيدة هي ابتعادي عنه وحسب. لا يوجد أي حل آخر. لا محاولتي للتقرب إليه أو معاملته بلطف ستجدي نفعاً. أنا شخص غير قابل للعطاء! رجل يُشكل نذير شؤم فقط على كل من حوله.
م. ما الذي يقوله! ما هذه الطعنات التي يتفوه بها. الألم الذي يعتصر قلبي سيقتلني في أي لحظة. هذه النبرة الضعيفة، ارتجاف صوته وجسده، محاولته بكل جهد أن يمنع نفسه من الإنفجار أكثر!
يا الهي ألهمني. ما الذي على فعله؟ أنا لست بالقوة المطلوبة لأنفي كلماته، أخشى أن أتحدث ويخرج صوتي الباكي وأفسد كل شيء، أخشى أن أعانقه فأكون من تبكي في حضنه! إلهي أرجوك.
لن أحتمل رؤيته ضعيفاً هكذا. لن أحتمل أكثر، أنا هنا لمساعدته ولكنني أنتفض في مكاني متفاجئة من صوته المنكسر.
إنه يخفي وجهه وهو يسند جبينه على الحائط وجسده لا يزال يرتجف بقوة.
أغمضت عيناي وعانيت من التنفس الطبيعي جراء غصتي، تقدمت بإنهاك بسبب العاطفة الملتوية التي تعتريني، طوقته بيداي وأنا أسند رأسي على ظهره، عانقته وأنا أنظر إلى الفراغ بيأس وتعاسة بالغة.
همست بلطف وحنان محاولة تهدئة نفسي قدر المستطاع: تسألني لماذا عدت؟ أتركك وشأنك؟ صدقني أردت هذا حقاً، ولكنني لم أستطع. حاولت تجاهل أمرك وفشلت. ألم يكن هذا ما أردته منذ البداية؟ أن أقع في حبك وأعجز عن إشاحة نظري عنك للحظة؟ ألم تقل لي بكل ثقة بأنني شفافة أكثر من اللازم بالنسبة لك؟ لماذا برأيك أنا واضحة إلى هذا القدر أمامك؟
أضفت أدفن وجهي في ظهره وأتشبث به بقوة أكبر: لقد اكتسبت شيئاً من غرورك، جعلتني أشعر بأنني النور الذي يضيء طريقك يا كريس، أهديتني هذا الشعور في أكثر من مرة. جعلتني أشعر بكوني أهم ما يحتاجه المرء في وقت ضياعه في العتمة. شمعة تنير طريقه ويستدل بها. أرغب في التواضع قليلاً ولكنني أعشق أن أكون بنظرك هكذا.
ابتسمت مكملة: تعتقد أن ابتعادك عن الجميع سيحميهم؟ تظن عزلتك لنفسك هي الحل الأنسب؟ احزر ماذا. نحن نتخبط في الظلام بسبب رحيلك، الجميع مشتت وبائس، لا أحد يشعر بالراحة فأي راحة هذه التي تظن نفسك تمنحنا إياها؟
وجودي لا يجلب سوى المشاكل، التصرف بقوة. بكبرياء. بشجاعة. كل هذا منهك! كل هذا يستهلك من طاقتي أكثر مما تعتقدين. هذا مميت. اكتفيت من الكذب على نفسي.
ما المشكلة في اظهار ضعفك؟ ما الخطأ في أن تعبر عما بداخلك لتتنفس قليلاً! لماذا تعتقد أن البكاء او تفريغ حزنك دليل ضعف وحسب! لماذا لا تستمد القوة من مرحلة العجز هذه!
فعلت ذلك مسبقاً. ولكنني كرهت نفسي أكثر، اعتدت رؤية نفسي قوياً. اعتدت أن أكون الأقوى من بين الجميع، لطالما شعرت أن القوة التي كنت امتلكها تحميهم. تصرفاتي الخشنة والقاسية كانت تنجح في إبعاد المنافقين أو المتآمرين عن طريقي وطريق عائلتي ولكن اتضح أن هذا ما كنت أظنه. سحقاً لكل شيء لم أعد احتمل. لم أعد أهتم. هذا يكفي.
أضاف بصوت أعلى أجش وأبح وهو يحني ظهره قليلاً: حاولت تخليص نفسي من تلك الشقراء اللعينة. ولكن ابني من دفع الضريبة بنفسه. حاولت التقرب إلى أبي ولكنه رحل فجأة غير مكترث بأولى محاولاتي. أردت وبشدة أن أعتذر لكونه خاض تلك الحياة المليئة بالتضحيات بسببي. أردت أن أناديه بأبي ومع ذلك حرمته من طلبه البسيط!
ابتعدت عنه أبكي بصمت ورفعت يدي نحو ثغري أكبت شهقاتي، ليتغير صوته. وتتسع عيناي بذهول لإرتجاف كتفيه وهروب غصة البكاء من جوفه المكبوت: طلب ذلك وكأنه يدرك أنه آخر طلب سيطلبه مني. ما الذي كنت سأخسره لو نفذت ما أراده؟ ما الذي كنت سأخسره لو تفوهت بتلك الكلمة وحسب؟! أنا حتى لم أعتذر. لم يمهلني فرصة الإعتذار. كنت أجمع شتات نفسي ببطء شديد. كنت بطيئاً في حين لم ينتظر الموت أو يمنحني فرصة واحدة! أنتِ لن تفهمي ما أمر به. لن تفهمي شعوري بالذنب! ابني طريح الفراش فاقد لبصره بسببي، لو لم أتصرف بشأن أوليفيا لما حدث ما حدث. ماكس غادر دون سابق إنذار ولم أخبره أنني أرغب في فرصة واحدة. واحدة فقط لا أكثر! هذا. ظلم. أنا حقاً.
ابتلع الكلمات وذابت غصته وهو يحني جسده وهذه المرة أسند جبينه على الأرض وانفجر! نعم. كريس يبكي بصمت. يبكي وإن كان لا يصدر صوتاً. يبكي والأرضية تمتص دموعه. وأنا أجلس بلا حيلة أحدق إليه بضعف. بضياع. بألم يخنقني. يكبلني ويقيدني.
هذا كثير. ما الذي تريده هذه الحياة مني تحديداً! ألا يكفي أنني وُلدت من رحم تلك المرأة! ألا يكفي أن طفولتي تشوهت بسببها؟ ألا يكفي أنني كنت حذراً من الناس وأعيش محاولاً حماية نفسي بدلاً من الإستمتاع بكل لحظة؟ بماذا على أن أجيب عندما أُسأل عن طفولتي؟ عذرا لا أتذكر شيء؟ طفولة تتمحور حول الإعتداء والضرب والإهانة؟ طفولة معتمة يسخر القدر منها؟! وبماذا أجيب عندما يسألني شخص ما عن عائلتي؟! عذرا أنا الآن مجرد أحمق أناني مغفل ويتيم؟ فقدت كلا والداي؟ أمي انتحرت أمامي عمداً وأبي مات مكسوراً وخائباً بسببي؟ ما الذي تريده هذه الحياة حقاً؟! بماذا أجيب عندما أُسأل عن ابني؟ لدي طفل في الخامسة أخاف عليه من نفسي وأخجل من الجلوس معه بمفردي؟ أخشى إيذاؤه فابتعدت عنه ولم يعد بوسعي التقرب منه خشية عليه مني؟ لأجل ماذا أستمر بالعيش! لأجل من؟! ماذا عني؟ أنا لم أعد على قيد الحياة منذ زمن بعيد. منذ أن خسرت الكثير. منذ أن ظننت أن أساليبي ستحمي من أحبهم. وبدلاً من ذلك آذيتهم. أبدو كمن يجدف بالقارب لينقذ من عليه وفي الحقيقية أقودهم إلى منحدر مميت. لم أعد أحتمل أكثر، لا يمكنني استيعاب أي شيء. الأمر معقد أكثر مما ظننت!
كريس.
كلماتك وكأنها كُتبت بدماء جروح بليغة!
وكأنك شخص يحتضر فجأة واعتقد أنها الفرصة المناسبة للبوح بما يجول في خلده.
عليه أن يقول ما يشاء. عليه أن يفرغ طاقته ولكن المصيبة أنني أعاني هنا. أنا أحترق! أتألم وأبكي، أريد التفوه بحرف واحد ولكنني عاجزة. وكأن الألم مُعدي بالفعل! وكأنه ينتشر كالسم في الهواء.!
ازدردت ريقي بصعوبة وبدى كأنها أصعب فعلة قمت بها يوماً. حدقت إليه بتعب واقتربت أمرر يدي بلطف على ظهره، ثم مررت أناملي في شعره العسلي هامسة: أحياناً القوة المبالغ بها تنقلب على المرء عكساً، أحيانا امتلاك القوة الكبيرة يجعل الشخص يعاني وهو يحاول السيطرة عليها! تماما كما تملك قوة خيالية بين يديك وتكتشف أنك مجبر على التضحية والتألم لأجل الحفاظ عليها. أخبرتك في الأمس. ان الطفل الموجود في داخلك لا يزال عالقاً في بقعة ما، لا يزال راسخاً وحده في مكان معزول عن الجميع، حبيس لمخاوفه وينتظر فرصة التحرر من القيود. من العتمة والمآسي.
تنهدت بعمق وأنا أرفع جسدي قليلاً لأسند نفسي على ظهره ويدي لا تزال تداعب شعره: ما رأيك أن نقتسم هذه القوة معاً؟ أنا وأنت فقط. لا ثالث بيننا، ما رأيك أن نكون بئر أسرار دفينة لبعضنا البعض؟ أن يكون كلانا جزء من الآخر؟ جزء لا يتجزأ وغير قابل للإبتعاد؟ شاركني آلامك. مخاوفك. كل ما يضايقك. أنا واثقة أنني سأستطيع مساعدتك، لقاؤنا لم يكن يوماً مجرد صدفة. لم يكن القدر ظالماً يوماً يا كريس. وهذه الحياة لم تضعك تحت التعذيب إلا لتذيقك طعم الراحة، لتذيقك لذة الشعور بالنصر والفخر عندما تتخطى كل هذه الصعاب، ولكنك لن تفعل هذا وحدك. لن تجرؤ ولن تستطيع. لهذا تحديداً أنا هنا. ولهذا وُلدنا يا كريس. لهذا كلا والدينا أصدقاء. هل تفهم هذا؟ كِلانا مقدران لبعضنا. أنا لا شيء دونك، عاجزة ومحطمة ومجرد قطعة منكسرة غير قابلة للترميم. وأنت شخص غريب لا تعرف نفسك دوني! كن لي كل شيء. وأكون لكَ ما تختار بنفسك ما اكون عليه. سأكون لك ما تريد.
أعقبت أبتسم منزعجة من حرارة الدموع على وجنتاي: أنت قوي. وهذه هي المشكلة واختصار لكل الأزمات. أنت قوي يا كريس. وهنا تكمن المعضلة. يوجد تناقض غريب وفريد من نوعه، لا أدري كيف أصف الوضع. وكأنك الأقوى والأضعف في الوقت آنه. أنا حتى لم أعد أفهم. ولكنني أعلم جيداً انك كلفت نفسك فوق طاقتها حتى أنهكتها.
أخذت نفساً وأنا أغمض عيناي: لا زلت تضحي. ابتعدت عن الجميع لتحميهم وحسب، لم تفكر في نفسك للحظة، وبأنك من ستعاني الوحدة والعزلة. وتضيع طريقك وتسلك آخراً موحشاً. هذه التضحيات ستستمر في قتلك ببطء لذا توقف. الحياة منحتك الكثيرون يا كريس. منحتك عمتك كلوديا القلقة بشأنك دائماً، منحتك زوجها جوش الذي يكره الحديث عنك بالسوء من خلف ظهرك، أنت لا تعرف إلى أي مدى هو منزعج عندما يخبرنا بحديث فابيان عنك، هذه الحياة منحتك ستيف الذي يرى فيك الأخ الأكبر، منحتك أولين التي كانت وستكون دائماً الأم ومصدر الحنان الذي لا حدود له. منحتك صديقة تحبك وكأنك تعني لها عائلة لا يمكن التخلي عنها، تحبك كما لوكنت أخاها الوحيد، كما لوكنت طوق نجاتها الذي سيُغرقها لو مسه أي سوء. الحياة منحتك إياي، وقعت في حبك. علقت في شباكك، أدركت أنك مصدر لسعادتي وإن كانت أغلب أوقاتنا نمضيها في الشجار أو الجدال. حتى الجدال معك أفتقده. الشجار معك له لذة غريبة، أفتقد كل شيء قمت به معك. كل شيء. وكل لحظة جعلتني أشعر فيها بالسعادة، كل لحظة كنت أتعلم فيها ما يعنيه أن أقع في الحب، الغيرة. الإختلاف والتناقض، سيطرة عاطفتي على ورحيل عقلي في كل مرة إلى رحلة بعيدة دون إذن مسبق. أفتقد كل لحظة كان عقلي يدرك فيها أن لا دافع له للبقاء طالما أنت موجود.
التفوه بكلمات كهذه.
دون تخطيط. دون قصد. دون أي دراسة مسبقة.
يبدو شيء غريب حقاً.!
وكأن الرغبات يتم ترجمتها تلقائياً على شفتاي، وكأن رغبة الإنسان في اللحظات الصعبة كهذه تتحول فوراً إلى حروف منطوقة! وكأن لسان الإنسان صُمِم بطريقة تجعله العضلة الوحيدة القادرة على تسيير اللحظات، تلوين المواقف، مداواة الجروح، أو حتى العكس.
أتعلم. شعرت بالإشمئزاز من نفسي عندما رفضت بطريقة ما حقيقة أنك نمت في الأمس بعد ذرف الدموع، كانت قسوة مني، كان إحساس لئيم جعلني أكره نفسي كثيراً. أنا أيضا لدي الجانب القاسي يا كريس. ولكنه كان نتيجة إعجابي بقوتك طوال الوقت وحسب. نتيجة عدم قدرتي على رؤيتك ضعيفاً. وأنا أدرك جيداً. أن رؤيتك تعيساً تقتلني، تحطم آمالي وتشوه عالمي. شيء من الندم ينتابني حقاً، أشعر بالأسف من نفسي.
أردفت بلا حيلة: في الأمس خضت مشاعر كثيرة جديدة لم يسبق لي وان مررت بها. أحدها كان تجربة شعور إمتلاك العالم لأول مرة منذ زمن بعيد جداً، لا أذكر متى كانت آخرة مرة شعرت فيها أنني الأسعد حظاً. ، فقط لمجرد رؤية وجهك، لمجرد الإستلقاء إلى جانبك والنوم في أحضانك، شعرت بالأمان أكثر مما تتخيل. سيكون الوصف أصعب مهمة لو اضطررت إلى توضيح ما كان عليه وضعي. كنت كمن فقدت نصفها الآخر واستطاعت لم شملها معه أخيراً. من فضلك، ابكي كما تشاء، فرغ طاقتك. افعل ما تريد. عُد إلى وحسب.
ابتعدت عنه قليلاً واعتدلت في جلستي، ظل ساكناً على حاله السابقة وكتفيه يرتجفان، لا زال يبكي بصمت يرفض أن يفلت من شفتيه شهقة بكاء واحدة.
اقتربت لأجلس أمامه، وضعت يدي على رأسه: ارفع رأسك يا كريس، عانقني. فلتبكِ كما تشاء، أعدك لن أنظر إليك.
أردفت مشجعة بلطف أكبر: من فضلك. رأسك مكانها على كتفي لا على الأرض. سأغمض عيناي الآن.
أغمضتهما ببطء، وأنا أرسم على ثغري ابتسامة لطيفة. دمثة.
لم أنتظر كثيراً.
فها أنا أشعر بكلتا يديه تطوقانني بقوة.
دفن وجهه في عنقي، يعانقني وجسده لا يزال يرتجف.
لوهلة شعرت بأنني أم. لا زوجة.
وكأن من يعانقني طفل خائف. مذعور. يستنجد بي من مخاوفه، من فزع يكاد يخنقه دون رحمة.
رفعت يداي أبادله العناق، وشيئاً فشيئاً بدأت أشعر برطوبة دموعه على عنقي.
ولا زال يرفض أن يبكي بصوت عالي. وكأنه يعاند نفسه أو يكبح شيء غامض. باهت. بعيد عن متناول الأيدي.
أنا واثقة أن محاولته حتى الآن لعدم إظهار ضعفه دليل على عدم تحرر ذلك الطفل البائس في داخله.
وهذا ما دفعني لمداعبة شعره وأنا أهمس: إنه الوقت الأنسب لأخبرك بأمر لا زلت تغفل عنه.
فتحت عيناي أنظر إلى السقف بأسى بالغ قبل أن أكمل: السيد ماكس. والدك خرج من المشفى بإرادته يا كريس، وقع على إخلاء مسؤولية المشفى بشأن خروجه بقراره الخاص، هذا ما كانت السيدة أولين مستاءة لأجله طوال الوقت. وعدته أن تبقي الأمر سراً وكم كان ذلك صعباً عليها. أراد أن يخرج وهو يدرك أن أيامه معدودة. عاد إليكم ليستغل العد التنازلي في تأملك وإشباع عينيه بالنظر إليك. إلى عائلته.
اختفى ارتجاف جسده فجأة!
بدى وكأن جسده قد تخشب على حين غرة!
توقفت يدي عن مداعبة شعره للحظة قبل أن ازدرد ريقي بصعوبة وأكملت: السيد ماكس يحبك كثيراً، ولطالما كان كذلك. ولكنه اعترف بسعادته. بأنه لم يخطئ في اتخاذ ذلك القرار ليخرج من المشفى، لمجرد سماعك تنعته بأبي. ادرك أنه لم يضحي لأجل لا شيء. أريدك أن تفهم إلى أي مدى يحبك، وأريدك أن تعي جيداً أنني خائفة.
أعقبت بصوت منخفض: خائفة أن تفعل ما فعله. أن تضحي دائماً لأجل الآخرين وتنسى نفسك! أن تتنازل وتقتل رغباتك. أن تستمر في تركي خلفك دون أن تلتفت إلي. بطريقة ما. أنت حقاً تشبه والدك يا كريس. تشبهه إلى حد غير معقول، كلاكما لديه ما يعزه. ويضحي لأجله. ، إياك أن تترك جيمي لمجرد رغبتك في حمايته، تمسك به بكل ما أوتيت من قوة، لا احد سيحميه كما تحميه أنت. لا أحد سيراقبه ويتأكد من سلامته وراحته أكثر منك. عد إليه. كن الصوت الذي سيرشده دائماً، اليد التي تسنده، القلب الذي يحتويه.
اصطبغت وجنتي بالحُمرة وأنا أردف بتلعثم: أتذكر ما قلته عن شعور جيمي بالوحدة؟ أتذكر ضرورة أن يحظى بالاخوة ليتجاوز الكثير؟ ألم تكن من اقترح ذلك فجأة؟!
ولكنني.
همس بها بضعف فالتزمت الصمت أحثه على أن يتابع كلماته.
انتظرت حتى أكمل دون أن يبتعد أو يتحرك: سأظل دائماً مضطر للتزييف، للكذب على نفسي قبل أن أكذب على الآخرين، سأضطر لكتمان كل شيء.
أنا أنصت بكل جوارحي. وسأستمر في الإنصات يا كريس. أنا بئر أسرارك، قل ما تشاء. ما الذي تحتاج لتزييفه؟ ما الذي أنت مضطر للكذب بشأنه!
الكثير.
زميت شفتي لوهلة، ثم تنهدت بعمق، انتظرت لدقائق طويلة.
متى سيسترسل موضحاً الأمر؟
ولكن.
طال انتظاري!
حتى أننا تحركنا بضع إنشات، اسندت ظهري على الحائط أفرد كلتا قدماي وقد تحرك معي لئلا أرى وجهه.
ظل على هذا الحال، يدفن وجهه في عنقي، وشيئاً فشيئاً. ابتعد.
رفعت عيناي أنظر إليه بلهفة، بتوتر وخجل.
ولكنني لم أكد أنظر إليه حتى القى برأسه على حجري! ينظر للأمام ويعطيني ظهره. يا الهي. إلى أي مدى إظهار ضعفه سيطعنه لينزف إلى الموت!
من الصعب التعليق على هذا. شخص مثله اضطر لأن يكون قوياً طيلة الأعوام السابقة لن يتنازل عن حاجته لتزييف قوته في أقل من لحظة.
بللت شفتاي بشيء من الإرتباك، أحدق إلى رأسه التي استقرت على حجري.
ويده اليمنى التي رفعها قليلا يسندها على ساقي، لا أدري كم مر من الوقت حتى اتسعت عيناي، خفق قلبي بجنون، ارتجفت شفتاي لصوته الهامس: أنتِ تعنين لي كل شيء.
اهدئي.
اهدئي يا شارلوت.
كريس في لحظات حرجة لا يجب أن تفكري أنتِ بطريقتك العاطفية الملتوية وتتوردين خجلاً كالحمقاء التي تشعر بالحماس وكأنها تلقت إعترافها الأول!
كانت نيتي ان أغلق فمي تماما واريح عضلات وجهي المتشنجة ولكنه لم يسمح لي وقد أكمل: في الوقت الذي أشعر فيه بالتقيد، باليأس. تظهر صورتك فوراً، سواء كانت في مخيلتي. أو على أرض الواقع.
ارتجف صوته وهو يكمل: لا عجب أنكِ تعنين لي كل شيء.
همست بإسمه بإحراج ودهشة رغماً عني، فأردف بهمس ونبرة ضعيفة: يراودني الشعور الذي انتابني ذات مرة منذ زمن بعيد جداً. حيث ظهرت من العدم. وانتشلتني من عتمة يأس كدت أغرق فيها. ، وقد كنتِ تتساءلين لماذا اقتحمت عالمكِ؟ كيف لي ألا أفعل. كيف لا أطاردك أو ألاحقك كالمختل!
ارتخت ملامحي.
أحملق في شعره الذي بدأت أمرر أناملي فيه، من الصعب. بل من المستحيل وصف الشعورالذي فيه الآن!
أنا حقاً.
لا أجد الكلمات المناسبة مهما حاولت!
لا في عقلي. ولا على لساني.
كل ما أعرفه أن الكلمات لن تفي بالغرض وحسب.
ابتسمتُ متسائلة بلا حيلة: أنت تتفوه بالكلمات اللطيفة في حالات خاصة فقط. ندرتها تجعلها ثمينة بالنسبة لي أكثر مما تتصور. أنتَ حقاً.
خانني التعبير ولم أجد ما أقوله فاكتفيت بالنفي برأسي.
هل عودتي إلى جيمي أمر سهل.؟
أبسط مما تظن.
ليس كذلك.
بل هو كذلك. أنت تعود حيث تنتمي، وهذا أسهل بكثير من عزل نفسك في مكان لا يلائمك.
هل سيسامحني.؟
هو ليس غاضبا منك ليسامحك. إنه يتوق إليك، مشتاق لك وعليك تلبية رغبته في تواجدك معه. عليه أن يجري عمليته ليسترد بصره. وأنت من يجب عليه أن يكون متواجداً.
ماذا لو فقد ثقته بي، وماذا لو لم يعد يحتاج إلي، ماذا لو اعتاد على هذا الوضع.
هذه المخاوف مجرد كوابيس تلاحقك في اليقظة يا كريس، أصمد. قف على كلتا قدميك وانفض هذه الكوابيس عن رأسك بقوة! جيمي بحاجة إليك، ليس معتاد على ما يمر فيه الآن، إنه يظنك غاضب منه وقد رحلت بعيداً غير مكترث به. عُد وصحح هذه الأفكار التي تكاد تلتهم رأسه الصغير.!
أردفت بلطف: إن كنت تشعر بالندم فها هي فرصتك ذا للتكفير عن خطأك السخيف.
ما فعلته لا يغتفر.
وما مررت به لا يُحتمل.
مرت لحظات بطيئة سمعت تنهيدة عميقة منه أوضحت لي الكم الهائل من الكلمات المتشبثة بلسانه، ظل على حاله وبدى قد شرد بذهنه ولم يشعر لا بالمكان أو الزمان.
ارتفع حاجباي بحيرة ورفعت يدي لأمرر أناملي على وجنته دون أن أميل بجسدي للأمام وأنظر إليه لئلا أزعجه، ولكنني انتفضت قليلاً وقد تسمرت عندما أدار وجهه نحوي.
في هذه اللحظة.
التي تلتقي عيناي بعسليتيه.
أشعر كمن وقعت تحت لعنة الحب للمرة المئة.! اللحظة التي يحدق إلى فيها عن قرب. بتأمل. وبهدوء.
أطراف جفنيه متوردتان، وكذلك أنفه وشفتيه.
أهدابه لا تزال رطبة قليلاً.
كل هذا دفعني للحملقة فيه بشيء من التوتر جراء شعوري بالمسؤولية. بالإهتمام والترقب.
رسمت على ثغري ابتسامة لطيفة مترقبة، فطرف ببطء وهو يحدق إلى حتى اعتدل لينام على ظهره ورأسه لا تزال على حجري.
قطع خط التأملات المتبادلة بيننا وهو ينظر للسقف بشرود.
طرفت ببلاهة وأنا أنظر إلى يدي اليمنى التي أمسك بها دون أن يفلتها، ثم أغمض عينيه وتمتم بصوته الأبح: شارلوت.
اتسعت ابتسامتي وأنا أهمهم بتساؤل، وأخيراً! متى كانت آخر مرة تفوه بها بإسمي! كم اشتقت لسماع اسمي، كم كنت أتوق لسماعه منه ليبرهن لي أن وجودي معه واقع.
أردفت أهمهم بتساؤل فنفي برأسه بهدوء دون أن يفتح عينيه: أردت التفوه به وحسب.
فغرت فاهي ببطء وأنا أشعر بالحرارة التي تتصاعد إلى وجنتاي. ابعدت ناظري قليلاً بخجل وما أن فعلت حتى تساءل: لماذا لا زلتِ تحبينني؟! لماذا لا أسمع توبيخاً أو عتابا؟ هذا أقل ما أستحقه حتى.
نفيت بلطف: عندما يكون المرء ينزف داخلياً فهو بحاجة إلى العلاج الفوري يا كريس، إلى الإحتواء لا العتاب أو التوبيخ!
ولكنني.
تردد قبل ان يفتح عينيه وينظر إلى بشرود، بادلته النظرات بإرتباك واشحت بوجهي قليلاً ليهمس: كيف تستمرين بحمل هذه المشاعر، أدرك ما فعلته في الأمس. وفي الوقت آنه أشعر أنني فعلت ذلك وأنا في غيبوبة بالكاد استيقظت منها، كنت وغداً منحطاً لم أولي أي شيء أدنى إهتمام، كيف تستمرين في حمل هذه المشاعر إذاً حتى وأنا خائف من نفسي. وأنا أكره نفسي وأرغب في طمسها، كيف تستمرين في اللحظة التي أهرب فيها من نفسي. كما لو كنتِ تحبين شخص آخر بالفعل.
ليس باليد حيلة. ففي النهاية أنت وذلك الشخص نفس واحدة، أظنني كنت أتعامل مع الجانب القوي الملطخ بالخوف، الجانب الهارب الملوث بالذعر ورغبته في حماية نفسه. حسناً لم يكن جانباً لطيفاً ولكنه مجرد ضحية. أنا أتفهم هذا. تجاهل الأمر وانسى كل شيء، لا تعد للوراء يا كريس مهما حدث.
صمتنا لبرهة حتى بادرت لأستأنف متسائلة: بماذا تشعر الآن؟ هل أنت أفضل حالاً؟ هل تتحسن؟ أتشعر بأنك اجتزت الأمر قليلاً؟
وكأنني أعرف ما على قوله، أنا حقاً مفلس عندما يتعلق الأمر بالتعبير.
ولكن. ما الذي يجول في خاطرك الآن؟ ألا يوجد ما تريد قوله حقاً؟!
رمقني بنظرة سريعة قبل أن يغمض عينيه وذلك التورد الطفيف لا زال يعتلي جفنيه وأنفه، شد على يدي أكثر وقد همس: أتعلمين شعور تواجدك في أحد الأماكن المكتظة لمناسبة ما، قاعة ممتلئة لا تعرفين أحد فيها. ثم تلمحين شخص ما تعرفينه جيداً. تتجاوزين الحشد بأكمله بسرعة وتهرعي إليه بخطوات واسعة.
اتسعت عيناي بدهشة وارتجفت يدي بين يده بشدة!
أعقب بصوت منخفض أكثر: هذا ما أشعر به الآن.
يا الهي.
معدتي.
لا تؤلمني وحسب! إنها تعتصر بقوة بسبب شعوري بالضغط إثر وزن كلماته الثقيلة!
هذا غير متوقع. كلماته حقاً. تدهشني، تسرني وتحرجني! لا فكرة لديه كم أنا متوترة الآن.
لا يعلم تأثير وقع هذه الكلمات على أذني.
ابتلعت ريقي وأنا أنظر بعيداً وصدري يعلو ويهبط بتوتر.
هناك حالة مريرة من السعادة تستولي علي! أن يشير إلى أنني الشخص المتواجد في الزحام.
هل سأتمنى أكثر في الوضع الحالي؟! بالطبع لا.
ان يختارني وقد فقد ثقته في الجميع وحتى في نفسه. هذا أمر يشعرني بمسؤولية ورغبة في التمسك به دون إفلات يده.
وجدت نفسي أشد على يده أنا الأخرى فنظر إلى بعسليتيه بهدوء وتأمل.
غمرني شعور غريب جعلني أبادله النظرات هذه، حتى أنني انحنيت نحوه.
أسندت جبيني على جبينه فأغمض كلتا عينه.
صمت تام. هدوء غريب. هواء خفيف.
نسق تنفسي بات متوازناً، أنامله أصبحت دافئة بطريقة ما وقد كانت باردة. ، فتحت عيناي أنظر إلى شفتيه.
لا مسافة تذكر تفصل بيننا، لا صوت دخيل يفسد الهدوء اللطيف، ولا حركة تشتت تركيزي. أنا أقترب إليه أكثر دون قدرة على التراجع للوراء، ودون قدرة على التحكم في خوالجي، أشد يدي على يده أكثر وكأنني أخشى اختفاؤه في أقل من طرفة عين، أنا أقترب. أقترب ببطء. أطبقت شفتاي المرتجفة على شفتيه.! شعرت به يفتح عينيه، كنت أعلم بأنه يحدق إلى ولكنني لم أجرؤ على فتح عيناي أو السماح لجفناي بإبعاد الستار لأنظر إليه وقد تجرأت أخيراً. ، بادرت لأول مرة وهو في كامل وعيه. بادرت لأول مرة راغبة في التمسك به بكل أوصالي.
ابتعدت بتردد وببطء وما ان فعلت حتى وجدته ينظر إلي!
زميت شفتي بقوة وانا أنظر بعيداً متمتمة على مضض وبتلعثم: توقف عن النظر إلى هكذا.
لمحت شبح ابتسامة مضمرة على ثغره وقد همس: يا لها من قبلة سيئة جداً.
اتسعت عيناي بعدم استيعاب للحظة قبل أن أزمجر بإنزعاج وأنا أبعد رأسه عن حجري: ما الذي تقصده بسيئة! لماذا على أن أكون محترفة بحق الإله! ي. ياللوقاحة، حاولت أن أوصل مشاعري إليك ولكنك. فليكن.
اعتدلت في جلستي أضم قدماي إلى أشيح بوجهي بعيداً، اللعنة بدأت أشعر بالحر بسبب الإرتباك!، اعتدل ليجلس فرمقته بطرف عيني. جلس بجانبي يسند ظهره على الحائط فتنهدت متسائلة أرسم ابتسامة صغيرة: هل يمكنني أن أقول مرحباً بعودتك الآن؟ هل يمكننا العودة معاً حيث جيمي والجميع؟، أم لا يزال لديك ما تريد التحدث بشأنه؟ كُلي أذان صاغية يا كريس. أعلم جيداً أنك لا تزال تخفي الكثير في جوفك، سمعت حوارك مع خالتك. وأدرك جيداً أن الإحتفاظ بكل شيء لنفسك لن يستمر طويلاً.
نظرت إليه من فوق كتفي لأردف بتحفيز: لننهي كل شيء هنا، في هذا المكان وفي هذه اللحظة قبل أن نعود، لنعد بعد أن نلقي بكل شيء خلف ظهورنا. هل حقا لا تريد التحدث؟ بشأن ما تسترت عليه مثلاً عندما ذكرت والدتك. لا أشعر بالفضول بقدر شعوري بالقلق مما كنت ستقوله. كما أنني أعتقد بأنه من الضروري التخلص من كل هذا بالحديث وحسب.
تنهد بهدوء دون أن ينظر إلي، طرف ببطء ومرت لحظات قصيرة حتى تمتم أخيراً يفرد قدم ويثني الأخرى يسند مرفقه عليها: من سيعجبه سماع أمور كتلك. أفضل أن ألتزم الصمت، قد أتقيأ أثناء التحدث أنا جاد. يوجد أمور مهما كان الإحتفاظ بها يكون عبء كبير إلا أن التستر عليها واجب وضروري. سماع حقيقة ملوثة وبشعة لن يسعد أي أحد.
لماذا يقول هذا! ما الذي يخفيه بشأن باتريشيا تحديداً؟!
راوغته أتساءل بهدوء وحبور: هل تعلم السيدة أولين بالأمر؟
لا أحد سواي.
ماذا عني؟ ألا أستطيع مشاركتك سراً لا نبوح به نحن الإثنان لأي شخص؟
أنتِ لا تفهمين. يوجد أسرار من الضروري طمسها.
ماذا عن أسبابك؟ لماذا تخفي هذا الأمر بشأنها؟
رفع كتفيه: لأنها أمي. حتى وإن كان انتحارها مناسبة كدت أحتفل بها ولكنها تبقى أمي. مع الأسف.
كريس. هل حقاً لا تريد العودة وروحك خالية من الشوائب القديمة العالقة بها؟
ضاقت عسليتيه وهو ينظر للأمام دون أن يلتفت نحوي، أكملت بنبرة مشجعة أكثر: حفاظك على أمر يخنقك طوال هذه الأعوام لن يأتي بنتيجة جيدة أو يحميك من نتيجة معاكسة كما تظن، عليك أن تبوح بما يزعجك. يجب أن تعتاد على هذا حتى لو كنت تكره البوح! حاول لمرة أن تستخف بهذا الأمر فيكون سهلاً أثناء التفوه به، لا تعظمه وتستره وتحميه في داخلك يا كريس، حررك نفسك. القِ بكل شيء متعلق بالماضي خلفك! الحل الوحيد هو تخليص روحك منها لا دفنها أكثر.
نظر إلى وقد ظهر وميض التردد والإهتمام، ابتسمت له واقتربت منه أكثر ليلاصق كتفي كتفه وقلت أرفع قبضتي مشجعة: يمكنك فعلها! تخطيت الحالة الغريبة التي كنت تمر فيها فما المانع من التقدم خطوة واحدة إضافية فقط؟
استرسلت أغمز له بخبث: لا تقلق لن أفشي بالسر أبداً، سأدخله من أذني اليمنى وأخرجه فوراً من أذني اليسرى. حينها سينسى كلانا الأمر اليس كذلك؟ ثم من قال للتو أنني أعني له كل شيء؟ برهن على هذا من فضلك وشاركني ما يخنقك!
نظر للأمام بشيء من الجدية وقد ارتخت ملامحه.
ردد بصوت منخفض: التقدم خطوة إضافية. هل هذا ما ينقصني حقاً؟
بلا شك.
مرت ثواني ترقبت فيها ردة فعله، أومأ بصمت ثم تنفس بعمق.
مرر يده في شعره ثم عاود يسند مرفقه على ركبته المثنية، لتخرج الكلمات من فاهه وبدى أنه يحاول جعلها موزونة قدر الإمكان: عديني أن تنسي ما سأقوله.
أعدك.
قلتها فوراً دون تردد وبإهتمام، فأكمل يشيح بوجهه بعيداً: أتذكرين ذلك اليوم. حين كدت ألفظ آخر أنفاسي بسبب براد؟
وكيف عساني أنسى هذا.
ألا زلتِ تذكرين ما تفوهت به؟
تفوهت بالكثير!
بشأن أمي.
آه نعم. قلت بأنها تعرضت للإغتصاب أمام عينيك بينما كنت صغيراً ولم تستطع تقديم يد العون لها.
أعقبت أتمتم بحيرة: تعرضتَ للضرب المبرح على يد الرجل الذي اعتدى عليها وقد فرّ هارباً.
لم أرى التعبير المرتسم على وجهه ولكن نبرته المشبعة بالسخرية كانت كفيلة بإرسال المرارة في جوفه: لم يكن ما أتفوه به حقيقة، كنت مستمراً بالكذب حتى حين ظننتني ألفظ آخر أنفاسي. وكأن عقلي مبرمج على التحفظ على تلك الأمور المثيرة للإشمئزاز لآخر لحظة.
ارتفع حاجباي بعدم فهم: ما الذي كذبت بشأنه تحديداً؟
أتى جوابه الملجم: لقد كانت خيانة. لم تتعرض للإغتصاب.
خ.
خيانة!
سرت قشعريرة في جسدي وأنا أعتدل في جلستي محاولة ضبط أعصابي: والدتك. كانت خائنة؟!
ذلك الرجل لم يعتدي عليها، رأيتهما معاً. إنه أحد زملاء أبي في ذلك الوقت في العمل، ولأنني كنت أنتظر زلة قوية تخلصني منها ومن أفعالها التزمت الصمت عما رأيته، كنت أنتظر الفرصة المناسبة وحسب. لم يراودهما أدنى شك أنني على علم بما يحدث، أمي لم تكن يوماً امرأة قابلة للحب، لم تحب ماكس. ولم تكن تحب والدك صِدقاً. الحالة النفسية التي كانت تمر فيها ليست مرض بل شر مُطلق.
ك. كريس.! حسناً لحظة واحدة أنا أرتب أفكاري الآن، ماذا عنك؟ كيف تعرضت للضرب ومتى! وكيف ظن الجميع أنها اُغتصبت من قبل ذلك الرجل؟
خيانتها لم تكن غير مقصودة، حدث ذلك للمرة الثانية ولكن الحظ لم يكن حليفي فلقد رأيتهما مجدداً معاً. هذه المرة علما بوجودي فانقض الإثنان علي، لم أكن قد تعرضت للإساءة أو الضرب بعد وهذا ما دفعني للشعور بنخوة الإنتصار وأنا أخبرها بأنني سأبوح بالأمر للجميع، اعتقدت ان تهديدها بهذا سيخلصني منها وسيتم نبذها أخيراً. ولكنني لم أتوقع انقلاب الأمر علي، كانت أفكار طفل أحمق سخيف ظن أنه ناجٍ من عذابها وهذا ما دفعني لهذه الأفكار الساذجة دون حيطة أو حذر.
شعرت بالأسى الشديد وانقباض يعتصر عضلة قلبي الذي يخفق بتعب وإنهاك.
هذا.
غير متوقع حقاً!
سماع أمر مماثل يشعرني بالغضب أكثر من الحزن!
تلك المرأة شيطان على هيئة بشر!
بارعة في تصنيع جرعات التعاسة حتى بعد وفاتها! بارعة في مد جيوش الحزن والبؤس للجميع! أي قسوة قلب هذه؟ أن تخون السيد ماكس في ذلك الوقت. بل وتجرؤ على أن تكمل الإدعاء بحبها لأبي! حبها المجنون المختل الذي دفع الجميع ضريبته.
عقدت حاجباي بإنزعاج وضيق شديد هامسة: لا تخبرني أن ذلك الرجل قام بضربك ليخرسك؟!
بطلبٍ منها.
اللعنة.
كان ضرباً مبرحاً فقدت وعيي على اثره، عندما أفقت في المشفى تفاجأت بالحبكة المزيفة التي اختلقتها بدورها مستغلة كل شيء لصالحها، فلقد استفقت ورأيت علامات الضرب على وجهها وجسدها، حينها أيقنت أنها قامت بحياكة كل شيء وجهزت الحوار المبتذل المزيف، وبالفعل. ادعت أن شخص ما قام بالإعتداء عليها وعندما حاولت بدوري مساعدتها اعتدى على بالضرب المبرح وهرب.
فغرت فاهي بعدم استيعاب: يا لها من داهية! أكره الإعتراف بذكائها حقاً. وما الذي حدث لك بعد ذلك! ثم ما مصير ذلك الرجل بحق الإله؟!
لم يكن أي أحد على علم بهوية الفاعل بعد، ظل أبي يتحرى في الأمر ولكنه لم يكن ليعتقد أن زميله من كان الطرف المفقود طوال الوقت، عندما كنت في المشفى كنت فاقداً للأمل بالفعل، أدركت أنه لا مهرب منها ومن خططها. لذا وللمرة الألف كنت التزم الصمت وأغض نظري عن أفعالها، خرجت وعدت للمنزل ومرت بضعة أيام. حدث بيني وبينها جدال حاد لا أدري كيف انتهى بتهديدي لها مجدداً، أخبرتها هذه المرة بكل ثقة أنني ذاهب لإخبار الجميع. سألتها بكل حدة عن ردة فعلهم عندما يتأكدوا من خيانتها، ولكنها عادت للتصرف بجنون. أيقنت ان جنونها كان خوفاً من ردة فعل والدك لا أبي. كانت ترى الأمل حتى آخر لحظة في عودتها إلى السيد مارك.
لم أجد تعليقا يلائم الغصة التي انتابتني والغضب العارم الذي اجتاحني، كورت قبضتي وأنا أنصت بغيض فأكمل متنهداً: أتعلمين ما قاده إليه جنونها؟
ماذا؟
ارتجفت نبرتي بشدة وتوترت في حين أجاب بهدوء وشرود: لجأت إلى استغلال العلاقة القوية التي كانت تربطني برين آنذاك، الشخص الوحيد الذي كنت أمضي معه نصف يومي بل كل وقتي، تلك العلاقة كانت أخوية بالفعل ومن الصعب عودتها.
كيف ذلك! ل. لا تخبرني أن ما حدث متعلق برين أيضاً، هل تسببت في فزعه المبالغ به من الظلام؟! ذلك المخزن الذي حُبس فيه ثلاث ليالٍ. هل كانت المسؤولة أيضاً؟!
تسارعت أنفاسي بتوتر شديد وأنا أنتظر إجابته، أعصابي مشدودة إلى أقصى حد واترقب أي حرف قد يخرج من فاهه في أي لحظة!
نظر إلي.
لأفاجئ بابتسامة مضمرة على شفتيه.!
عينيه تلمعان ببريق أصفر عميق. عميق إلى درجة الغرق بلا قدرة على تدارك الأمر والنجاة!
غرقت وتسمرت في مكاني بضعف وعجز.
غير صحيح. أنا من فعلت ذلك. أنا من حبسته بالفعل.
ولكن.
تلعثمت كثيراً حتى قلت بسرعة: أكمل ما كنت ستقوله! كيف استغلت الأمر؟
هي لم تستغل علاقتي به فقط لتلوي ذراعي، بل حتى ذلك الرجل الذي ادعت أنه اغتصبها قامت بتحريكه على لوح شطرنج كما يحلو لها، أخبرتني أن التزم الصمت تماماً وكل هدفها ينصب على أملها في العودة إلى والدك، هذه المرة طلبت مني إطباق فمي تماماً وقد قالت بكل وضوح بأنها روضت أوليفيا ولا بد وأنني لا أريد المصير ذاته لرين.
أعقب بشيء من الإستخفاف وصوته يرتجف: بصراحة لم أفهم ما تعنيه تماما في ذلك الوقت، ولكنني أتذكر جيداً الخوف الذي اعتراني. تعرضت للضرب على يدها ولم أكن لأتخيل مرور ذلك الأحمق بوضع مماثل، تعرضت للإهانات وصقل غير منطقي في شخصيتي بسببها وكرهت أن يتغير رين الذي كان في شخصيته نقيض لي يريحني كثيراً، خشيت أن تعبث بعقله ويتحول تماماً كما حدث مع شقيقته المتعلقة بأمي إلى حد الجنون. ، أتعلمين ما قررته حينها؟ أن أسرع فوراً وأتدارك الأمر وأخبر السيدة أولين. ولكن أمي قارئة أفكار بارعة. كل خطوة مني كانت متوقعة بالنسبة لها.
أمسكت بيده دون شعور أشد بأناملي بقوة.
ولكنها ترتجف! يدي ترتجف جراء ما أسمعه.
يُفترض أنني من تخفف عنه لا من تبحث عما يهدئها.
تباً.
أجرت اتصالاً مع ذلك الرجل، لم أكن بحاجة إلى التأكد من كونها تحدثه فكل شيء كان بوضوح الشمس حينها، كانت مراقبتي لها مبالغ بها بسبب خوفي ورغبتي في حماية نفسي، وبطريقة ما كنت أعتقد أن مراقبتي لها ستمكنني من حماية رين، ولكنني كنت كالعادة مجرد متهور. مجرد أحمق ومغفل.
أردف يشيح بنظره: سمعتها تتفق معه دون أدنى شعور. كما أخبرتك. ذلك الشيطان الصغير لن يتجاوز ما رآه، اجعله يخرس هذا ما قالته بكل برود. ، بل وأنها كانت صريحة إلى درجة غريبة وهي تهدده برفع الستار عن هويته أمام أبي والآخرين. يبدو أنها كانت قادرة على لوي ذراعه هو الآخر، بلا شك سيستجيب لها. لذا طلبت وبوضوح أن يتعامل مع رين وقد قالت بلسانها تصرف مع ابن اختي ليعلم ذلك الشيطان أنني لا أمازحه . أعصابها كانت باردة إلى درجة مرعبة، كيف لا أفزع إذاً! كيف لا أحاول التصرف؟! بدوت كالخطل المجنون العاجز عن استخدام عقله، حماقتي قادتني للتصرف بنفسي بدلاً من طلب يد العون، كنت طفل يفكر بطريقة ملتوية غير مستقيمة. كنت أعقد الأمور على نفسي دون شعور! خشيت أن تؤذيه كما تفعل بي، لذا ارتكبت خطأ لا يغتفر. لن أبرر لنفسي وليس من حقي فعل هذا. ظننت أن إخفاء رين عن متناول أيديهما سيحميه، ولكنني اكتشفت ان خوفي أعمى بصيرتي وجعلني أتهور وحسب. لا شيء سيغفر لي فعلتي السخيفة، لا شيء. ارتكبت حماقة كان من الممكن أنا أفكر بحل بديل لها بتأني أكثر.
ابتسم بشرود وهو يكمل بسخرية خافتة: يا لي من غبي.
إلهي.
بدأت أشعر بالتعب والإعياء بالفعل!
يخفي كونها خائنة. لأنها وببساطة وفي النهاية والدته.
لم يكن من السهل حتى أثناء بلوغه ونضوجه أن يتفوه بالحقيقة! لم يمكن من السهل ان يقول بعظمة لسانه أن والدته خائنة!
وتجرؤ خالته على لومه وعتابه وعذله بكل شيء! تجرؤ وقد تستر على كون شقيقتها مجرد خائنة، وقد لجأ لحماية ابنها من بطش شقيقتها التي غدرت بها ولم تكترث بكونه ابن اختها الوحيدة! ما الذي يجري بحق الإله. أي نوع من القلوب كان مستقراً بين أضلع تلك المرأة؟!
لا أحد سينكر خطأه الفادح في لجوئه إلى ذلك الحل.
ولا أحد أيضا سينكر قدر خوفه وتشتته وضياعه في عمر مبكرة وقد ظن أنه سيحمي رين ثم انقلبت الأوضاع رأساً على عقب.
إلى أي مدى كانت الحياة برفقة تلك المرأة معتمة!
انتزعني من حواري الداخلي المحطم صوته الهادئ: كان على أن أطبق فمي سواء طبقت خططها أو لا. تلك المرأة في النهاية أمي، لن يكون من السهل أن أخبر من حولي حقيقة كونها امرأة خائنة غدرت بزوجها. تستري على فعلتها أتى بالضريبة التي لا زلت أدفعها حتى الآن.
رفع يده يمرر سبابته وإبهامه على أنفه صعودا إلى جبينه ثم أغمض عينيه متنهداً بعمق.
سُحقاً! انفجرت باكية. توقيت سيء جداً.
انفجرت بالفعل وأعجز عن إغلاق فمي!
نظر إلى بعدم استيعاب واستغراب في حين كنت أبكي بصوتِ عالي وقد فشلت في تمالك نفسي، أنا حقاً لا أستطيع التحمل أكثر. شعرت بالقسوة والظلم لمجرد سماع كلماته فكيف سيكون عليه حالي ان خضت مأساة كهذه بنفسي، كيف سيكون الوضع عندما اطبق فمي لألتزم بالتستر على حقيقة أكبر وأثقل من احتمالها وحدي طيلة الأعوام السابقة لأظهر كالشيطان القاسي أمام الجميع. ليعتقد الجميع أنني حبست شخص ما في الخزانة لمجرد كوني لعينة ومنحطة لا تكترث إلا بنفسها!
ما الذي تبكين لأجله تحديداً.
همس بتلك الجملة وهو يجذبني نحوه، ليعانقني ويمرر يده على رأسي مربتاً عليها وقد تمتم: لهذا أكره البوح. أكره الشفقة التي ت.
قاطعته فوراً أتمسك بقميصه وأدفن وجهي في صدره: غير صحيح، لا أشعر بالشفقة بل بالغضب. أشعر بالحنق الشديد، هذا حقاً ظلم، تلك المرأة لا يمكن أن تكون بشرية! ليست إنسانة. هذا مستحيل.! كيف تسول لها نفسها ارتكاب كل هذا؟! لقد خسرت صداقتك برين بسببها. يمكنك لوم نفسك ولكن لا تستبعدها أبداً، هي السبب الأساسي في كل الكوارث، كانت تخون السيد ماكس في الوقت الذي كان يعاني ويضحي بسببها. لو كانت على قيد الحياة فلن أتردد في قتلها! لن أتردد. امرأة مثلها لا يجب أن تعيش أو.
توقفي.
قالها بهدوء وأردف بنبرة تكاد تكون حازمة: توقفي عن التفوه بهذه الأفكار السخيفة.
صمت لبرهة قبل أن يكمل ويديه تجذبانني نحوه أكثر: كنتِ ولازلت نقية من الداخل وخالية من الشوائب، لذا أكره سماع أمور مماثلة، توقفي وحسب. انتهى كل شيء على أي حال. ابقي نقية. ابتعدي عن الحقد. ابتعدي عن أي فكرة كتلك قد تشوه روحك!
لا زالت تسبب لك الألم حتى وهي ميتة!
ألم تقولي أنني قادر على التحرر مما أنا عالق فيه؟
جملته تلك جعلت من جسدي لوحي خشبي للحظة! ومع إنه محق ولكنني انفجرت وأفسدت كل شيء، كريس محق. على أن أتوقف بسرعة عما أفعله، هو قادر على تحرير الطفل الباقي في داخله من الماضي ولا يجب أن أهدم كل ما بنيته في لحظة.
توقفت عن البكاء تدريجياً.
ابتعدت عنه أمسح دموعي بأكمام قميصي وأنا أميء بهدوء هامسة بصوتي المبحوح بحزم: صحيح. لا يجب أن نتراجع، كل ما قلته علينا القاؤه بعيداً بحيث لا نصل إليه مجدداً، ولكن ماذا عن رين؟ ما الذي تنوي فعله معه؟ هل ستترك الأمور كما هي؟
نظر إلى بعسليتيه وهو يطرف ببطء، ظل يحدق إلى حتى استنكرت الأمر كثيراً!، وأخيراً بذرت منه ردة فعل وقد نفي برأسه: لا يوجد ما أريد فعله، سأترك الأمور لما هي عليه. لا يوجد ما أبرر به فعلتي، أخطأت في حقه وهذا جزائي.
لماذا يفكر بهذه الطريقة!
أنا واثقة أن رين وبطريقة ما يكره هذا الوضع أيضا وان كان عدائياً معه.
هل أفوض هذه المهمة إلى جينيفر؟!
هل أترك المهمة الأخيرة لها وقد أخبرتني بوضوح أن ماكس أوصاها بإعادة المياه إلى مجاريها بينهما!؟
صوت في داخلي يخبرني أنها القادرة على ذلك بالفعل وقد كانت تمضي الكثير من الأوقات معهما سابقاً. لا أعلم أي طريقة ستلجأ إليها ولكن. سأعتمد عليها.
أغمضت عيناي أهدئ نفسي وأتنفس الصعداء ثم رسمت ابتسامة واسعة مرتاحة وأنا أنظر إليه، ارتخت ملامحه ومع ذلك لم يبتسم وإنما اكتفى بالنظر للأسفل قليلاً قبل أن يهمس: هل حان الوقت؟
هذا ما على سؤالك عنه. هل أنت مستعد؟
لا أنكف أفكر بردة فعل جيمي.
رفعت سبابتي بحزم: دعني أذكرك وأنذرك، جوش يبذل جهداً فوق طاقته وعليك العودة حالاً لمساعدته في العمل وتصحيح مسار الوضع في الشركة التي تركها والدك له، جيمي سيجري العملية قريباً جداً وعليك البقاء معه منذ اليوم وتنظيم وقتك في ترتيب جدولك للمنزل، لابنك، ولعملك المتراكم، عليك أن تعود للجميع ليطمئنوا و.
بتر كلماتي شعوري باهتزاز هاتفي في جيب بنطالي، كنت قد تعمدت تركه على الوضع الصامت الهزاز لئلا يفسد أي شيء وأنا أدرك جيداً أن جينيفر لن تتوقف عن الإتصال.
أخرجته من جيبي لأنظر إليه، رقم غريب غير مسجل مسبقاً! ليست جينيفر؟!
احترت قليلاً قبل أن أجيب: مرحباً؟
أتى صوت رجولي غير مألوف: الآنسة شارلوت؟
نعم، من تكون؟
أردت أن أعلمك بوقت إعادة الإختبارات التي فوّتها لظروفك الخاصة يا آنسة، في الحقيقة أرسلنا بعض الرسائل الإلكترونية مسبقاً ولكنكِ لم تستجيبي، لذا أريد تأكيد جدولك.
فغرت فاهي أستوعب الأمر لأندفع وأقول بسرعة: آه نعم! لم ألقِ نظرة على البريد الإلكتروني من فضلك لا تخبرني أن تلك الرسائل مضى عليها وقت طويل!
آسف ولكن هذا ما حدث، ولهذا تحديداً أتصل لأستفسر الأمر، هل ستكونين قادرة على إعادة الإختبارات؟ لا تنسي أنها الفرصة الأخيرة.
عضيت على شفتي ونظرت إلى كريس الذي ظهرت تقطيبة صغيرة بين حاجبيه وهو يحملق بي بإهتمام، أبعدت عيناي عنه متسائلة بحذر: ومتى موعد الإعادة؟!
خلال أقل من أسبوع، ستة أيام فقط وسيبدأ الطلبة بالإعادة لذا أرجو أنكِ ستكونين قادرة على المجيء أيضاً.
أردف بنبرة تكاد تكون محذرة أو منبهة: أياً تكن هذه الظروف أرجو أن تعي أنها الفرصة الأخيرة وبعدها قد تضيع جهودك في الأعوام السابقة هدراً، لديكِ معدل مُشرف ومن المؤسف ألا تتمكني من تجاوز الإختبارات النهائية.
يا الهي هذا ما ينقصني في هذا الوقت الحرج!
ما هذا الحظ.
ولكنه محق. الإعادة الأخيرة، الفرصة التي إن أهدرتها لن تعود!
و. ولكن ماذا عن جيمي! إن أجرى عمليته فأخشى أن أكون مشغولة عنه، ثم كريس قد يكون بحاجتي أيضاً! ماذا لو.
آنسة شارلوت؟
هل حقاً لا يمكنني تأجيل تاريخ الإعادة؟
سمعت كريس يهمس متسائلاً بهدوء: الإختبارات التي فاتتكِ؟
أومأت له بتردد حتى تفاجأت به ينتزع الهاتف من يدي ويضعه على اذنه: ستكون متواجدة لإعادة الإختبارات.
عقدت حاجباي وأبحرت في أفكاري المتأزمة، جيمي بحاجتي حقاً! كيف أتركه في الوقت الذي يجري فيه عمليته، قال الطبيب وبكل وضوح بأنه سيجريها خلال بضعة أيام فقط. هذا لؤم. أردت أن أبقى إلى جانبه مهما حدث!
انتبهت لإغلاقه الهاتف وقد مده نحوي، تناولته منه ببؤس: جيمي. سيتضايق من تركي له و.
توقفي عن التصرف بحماقة، لقد كنت مستعدة لخوض الإختبارات، ألا بأس بخسارة فرصة الإعادة؟ كفاكِ سخفاً.
أضاف بنبرة منخفضة: لم تكوني لتخسريها لو لم تخوضي كل تلك الأحداث، يكفي. اعطي نفسكِ فرصة للراحة والإبتعاد عن كل شيء مؤقتاً.
أانهى جملته وقد وقف، لويت شفتي بضيق قبل أن أميء إيجاباً، ومع ذلك تمتمت بحزن وإنزعاج: جيمي سيستاء من غيابي حقاً.
وقفت أردف متنهدة: ولكنها الفرصة الأخيرة. هذا يزعجني، التوقيت لا يساعدني إطلاقاً.
متى سيكون موعد الإعادة؟
ستة أيام منذ الآن.
عودي إلى منزلك للدراسة. اليوم.
سأودع جيمي أولاً.
ستيف:
رأسي. سينشطر إلى نصفين! كما أشعر بالخدر في ذراعي وقد عجزت في ابعدها عني ولم أنجح سوى الآن فقط.
أعترف أنني أزور الحانات مع أصدقائي بين فترة وأخرى ولكن. هذا كثير!
إنها السابعة وجينيفر لا تتوقف عن الشرب.
مررت يدي في شعري محاولاً تخفيف الصداع الذي ينتابني جراء تذمرها، صراخها، بكائها تارة وضحكها تارة أخرى.
اللعنة أظنني سأتركها هنا وأتجاهل أمرها لأعود إلى المنزل، أجبرتني على الخروج معها. تناولنا الغداء، أرغمتني على التسوق هنا وهناك معها، كنت أنتظر الموضوع الذي تريد التحدث بشأنه ولكنها لم تتفوه بأمر مفيد أو مهم حتى الآن.
أمي وأبي اتصلا أكثر من مرة ليتساءلوا عن مكاني وفي كل مرة أقول بأنني في مكان مختلف، وها هو هذا هاتفي يرن مجدداً ولم يكن سوى سام، حتى لو أجبت لن أستطيع سماعه بوضوح بسبب هذه الموسيقى الصخبة، انتظرت ان يتوقف عن الرنين حتى أرسلت له رسالة سأعاود الإتصال بك بعد قليل .
تنهدت بملل ويأس وأنا أراها تترنح مبتعدة لتتجه إلى ساحة الرقص فأسرعت أقف لأمسك بذراعها وأعيدها لتجلس على الكرسي، نظرت إليها بهدوء وهي تحرك رأسها وبالكاد تفتح عينيها متمتمة: لماذا أجلستني! أريد الرقص قليلاً لا تخبرني الآن أن امرأة في الرابعة والثلاثون لا تستطيع فعل ذلك.
أضافت ترخي جسدها على الكرسي وتحني نفسها للأمام قليلاً: معك حق الجميع هنا يبدون مراهقون مغفلون وحمقى.
غطى شعرها الأسود وجهها وهي تصدر صوتاً ينم عن رغبتها في التقيؤ، زفرت بإنزعاج: جينيفر إلى متى علينا أن نبقي هنا! أنتِ حتى لا تريدين التحدث!
أضفت بجدية وأنا أقف: لنعد.
أمسكت بيدها احثها على التحرك ولكنها ابعدتني بإمتعاض وبملامح خاملة، كنت لا أزال واقفاً عندما أخرجت هاتفها من حقيبتها بصعوبة، نظرت إلى الشاشة ثم تمتمت بشيء ما متذمرة ومتوعدة!
وضعت الهاتف على اذنها فترقب الأمر بحيرة واستغراب، بمن تتصل تحديداً!
لحظات حتى قالت بصوت غير متزن: أنت أيها الأشقر الشرير. أنا أخبرك الآن.
الأشقر الشرير.
آه.
يا للصداع!
ومن عساه يكون سوى رين.
زفرت بلا حيلة ويأس وأنا أتكتف منتظراً فأكملت بتهديد وتلعثم: سوف أعود إلى عملي بعد ايام معدودة، قررت أن أبحث عن نصفي الآخر الذي يلائمني، يقدر جمالي وأناقتي ومكانتي في العمل. سأتزوج المدير الذي يلاحقني في كل مكان وسأقبل هداياه وأجيب على اتصالاته هل تفهم؟ لن أتأخر في الزواج ولن أؤجل الموضوع أكثر. أنا لن أموت عازبة بسببك أو بسبب شخص آخر. سأجعلك ترى أطفالي وأجعلهم يصفعون مؤخرتك بقوة، ستندم على كل ثانية أجبرتني على التفكير فيها بشأنك أيها النذل اللئيم.
نفيت برأسي بملل وأنا أعود للجلوس بجانبها أنظر من حولي، ثواني حتى أجفلت لصراخها الغاضب: عندما تتزوج لن أقبل دعوتك ولن أحضر زواجك التعيس.
صمتت قليلاً قبل أن تتغير نبرتها من الغضب إلى النعاس والإستغراب: آه نعم. أنا في الحانة وماذا في ذلك!
حركت يدها نافية وقد تمتمت: أياً يكن، أنا لم أعد أهتم حقاً. أتذكر تلك الصور في منزلي التي التقطناها معاً؟ يمكنك أخذها أو رميها افعل ما شئت. سأتخلص من كل شيء متعلق بك أنت وذلك الوغد كريس. فلتحرق تلك الصور في الشتاء القادم وتدفأ بها جيداً لئلا تشعر بالبرد.
أعقبت بنبرة باكية عالية وهي تميل برأسها: لا أنت ولا هو تستحقان وقتي الذي أقضيه في محاولة مساعدتكما. سأبدأ في معاودة الإعتناء بنفسي وحسب. معدل تساقط الشعر لدي بات أكثر من خمسون شعرة في اليوم وهذا لا يبشر بالخير، كما أنني ألاحظ هالات سوداء حول عيناي وفقدان للشهية. سنرى كيف ستكونان بدوني.
انهت جملتها وقد مالت بجسدها إلى الجنب وكادت تقع من فوق الكرسي فأسرعت أسندها واجبرتها على ان تريح رأسها على الطاولة أمامها فلم تتحرك وأغمضت عينيها.
هذه المرأة الساذجة!
إنها جادة بشأنه بالفعل.
لويت شفتي أنظر إلى الهاتف الذي كاد ينزلق من يدها فأخذته أنظر إلى الشاشة بصمت.
لا زال على الخط.
وضعته على أذني.
فسمعت صوته المقتضب وفي نبرته شيء من الحزم: أين ذهبتِ؟ لا تخبريني أنكِ وحدك في الحانة وأسرفت في الشرب. ، أجيبي.
هل أخبره؟ ماذا عن اللعب بأعصابه طالما هي واقعة في حبه ولا تدرك موقفها أو موقعها بالنسبة له؟
اليس هذا ما يزعجها ويضايقها وقادها للثمالة لتتصل به دون تفكير؟
طرفت بعيني أركز وأفكر حتى ابتسمت بخبث وأنا أغلق في وجهه عمداً.
هه. سأجعلها تشكرني لاحقاً على ما سأفعله.
كما توقعت. لقد عاود الإتصال بنفسه.
لعقت شفتي بخبث وأنا أفتح الخط ووضعت الهاتف بجانب فاهها، حاولت دغدغتها لأزعجها وكما خططت قالت منزعجة بتلعثم وبصوت متقطع: لا تلمسني أيها المنحرف.
أبعدت يدي وهمست في أذنها بصوت لا يسمعه سواها: لنخرج.
لا اريد. دعني وشأني.
حسنا، أظن أن هاتين الجملتين ستكونان كفيلتان بجلبه إلى هنا.
اسرعت اسمع ما سيقوله وحينها ارتفع حاجباي لسماع تذمره وانزعاجه: من برفقتك أيتها المتهورة الحمقاء! في أي حانة أنتِ؟
هذه المرة أغلقت الخط في وجهه وقلت للرجل المسؤول عن سكب الشراب خلف الطاولة بهدوء: من فضلك. هل يمكنك الإتصال بهذا الرقم لتخبره أن صاحبة الهاتف في هذه الحانة؟
وهذا ما حدث.
وها أنا ذا أجلس على الكرسي بجانبها أضع قدما على الأخرى واعبث بهاتفي محدثاً زملائي اللذين يعزونني بشأن اضطراري لإعادة بضعة مساقات ستؤخر تخرجي. وفي الناحية الأخرى الصديق الوفي الذي سيضطر لإعادة بعضها معي طالما أنه فاشل أولاً. وتم الحقد عليه من قبل البروفيسور كسبب ثاني.
شردت بذهني للحظة أفكر بشارلوت وعن المكان الذي قد تكون متواجدة فيه الآن.
جينيفر ترفض الحديث وإخباري بالأمر. بطريقة ما بدأت أشعر أن كلتاهما تخفيان أمراً وترفضان البوح به لسبب ما. وكأنهما تعلمان أمراً لا يجب إخبارنا به.! هل هو حقاً متعلق بكريس؟ أيعقل؟
كدت أتصل بسام لأسأله عما كان يريده ولكنني بدلاً من ذلك جربت الإتصال بشارلوت لعلها تجيب.
ومع أنني لم أكن أتوقع ردها ولكنها أجابت فاندفعت أقول بدهشة وإهتمام: شارلوت!
شعرت بانكماش وتقلص رئتي مترقبا صوتها، وكم شعرت بالراحة عندما أتى صوتها: ستيف.!
تنفست الصعداء ولم أمنح نفسي فرصة لأسرع متسائلاً: هل أنتِ بخير؟ لماذا تجاهلت اتصالاتنا؟ أين أنتِ الآن؟
أجابتني بمرح: آه بشأن هذا. ستعلم بعد ساعة تقريباً أ، ربما أكثر. هل أنت في المنزل؟ ما هذه الضجة!
لست في المنزل، جينيفر ثملة جداً وبالكاد تتحرك، ما الذي سأعرفه تحديداً بعد ساعة؟
لماذا ثملت!
بسبب رين.
هاه! ما الذي فعله لها؟!
لا أعلم حقاً ولكنها غاضبة ومستاءة، لا تغيري الموضوع وأخبريني ما الذي سأعرفه بعد ساعة؟ ثم أين أنتِ الآن!
ستعلم بهذا لا تستعجل، اعتنِ بجينيفر جيداً، سأكون في المنزل لذا لا تتأخر. سأذهب إلى المشفى أولاً حيث جيمي ثم أعود.
انهت جملتها ولم أكد أفتح فاهي حتى أغلقت الهاتف، لويت شفتي بحيرة واستغراب شديد.! ستذهب لجيمي. ثم إلى المنزل؟ من أين ستأتي.
علي أن أعود إذاً وأرى ما لديها.
تنهدت أنظر لجينيفر مفكراً بأمرها، وجهت ناظري لساعتي على رسغي لأراها تشير إلى الثامنة والنصف. لا بدو أنه في طريقه إلى هنا أو سيصل الآن في أي لحظة.
وبمجرد التفكير بشأنه لمحته يدخل من الباب متجاوزاً بعض النساء اللواتي تجمعن حوله فجأة، رفعت يدي له لينتبه لي فبدى مستنكراً وجودي كثيراً!
اقترب وقد ضاقت زرقتيه بعدم استيعاب وركز نظراته نحوي ثم إلى جينيفر النائمة التي تسند رأسها على الطاولة.
ما أن وقف أمامي حتى وقفت مقابله وضربت كتفه بملل وبفتور: حان دورك للإعتناء بها، على العودة إلى المنزل.
قف عندك! ما الذي يعنيه وجودك هنا؟ لماذا هي هنا أصلاً.؟
تسألني أنا؟ ظلت تشتمك وتهدد بشأنك طوال الوقت فكيف لي أن أعلم! تصرف وحدك طالما الأمر يمسك، على العودة حالاً. اعتني بها أيها الأحمق وكف عن معاملتها بقسوة، صحيح أنني لا أطيقك ولكنك تبدو فارسها المغوار لذا لا ترغمها على اللجوء إلى هذه الحيل للهرب من الواقع.
ظهرت تقطيبة غضب بين حاجبيه فأسرعت أتجاوزه لأبتعد وأرحل.
ابتعدت بالفعل واسترقت نظرة إليه لأجده يحرك كتفيها محاولاً إيقاظها والإنزعاج قد أخذ مجراه على وجهه. ، ظلت تبعده عنها وهي تغمض عينيها بنعاس وإنهاك ولكنه أجبرها على الوقوف ليسندها ثم أخذ حقيبتها السوداء الصغيرة.
ما الذي يعجبها فيه تحديداً بحق خالق السماء! أي جزء منه يعجبها؟!
امتعضت متذكراً مواقفي التي لا تعد ولا تحصى معه، حتى أدخلت يداي في جيب بنطالي أحدق إليه وقد اضطر لحملها على ظهره فتشبثت بعنقه وهي تحرك كلتا قدميها كما لو كانت تلعب وتلهو كطفلة لا تتجاوز الرابعة.
حسناً. سيعيدها إلى المنزل، لذا يمكنني المغادرة الآن.
جينيفر:
هه.
أحمقان. لقد وقعا في الفخ.
من قال أنني سأتأثر بالشراب حقاً؟!
ثم من كان يصدق أن خطتي ستنجح! ها هو ذا كما خططت تماماً يحملني على ظهره ويسير بي إلى الخارج.
علي أن أقف وقفة احترام بالغ لذكائي وعبقريتي الخارقة للطبيعة.
احسنتُ استغلال ستيف جيداً، وتوظيفه ليحضر رين إلى كما أريد.
أخفيت ابتسامتي الشيطانية وأنا أدفن وجهي في عنقه وأكمل التظاهر بالثمالة لأدندن بأغنية أتقنت جعل لحنها غير موزون البتة.
إنه انتقامي منه، استردادا لكرامتي، تقديراً لجمالي وجهودي، حماية لكبريائي، وتنفيذاً لرغباتي.
أعلم جيداً أنه قادر على مبادلتي الشعور لذا أنا مضطرة للتعامل معه بهذه الطريقة وقد أجبرني على اللجوء إلى هذه الحيلة.
صار المكان هادئاً جداً وقد خرجنا من الحانة، سار نحو مواقف السيارات فتعمدت شد شعره قائلة بتلعثم وثمالة: ما الذي تفعله هنا؟! ألم أقل لك أنني سأعود لعملي وأنسى أمرك تماماً؟ أنت تحاول اختطافي!
حالة الطقس اليوم الأربعاء 2-4-2025: ارتفاع الحرارة ورياح نشطة تضرب هذه المناطق
أرقام جلوس الثانوية العامة اليمن 2025: رابط الاستعلام الرسمي والخطوات بالتفصيل
توقيت الدوام الصيفي بالطائف 1446-2025: المواعيد الجديدة والتنظيمات الرسمية لكل المراحل الدراسية
دليل شامل للإبلاغ عن الجرائم المهددة لأمن المجتمع في السعودية لكل مواطن ومقيم
مواعيد الدوام الصيفي في نجران 1446: التوقيت الجديد والتوجيهات الرسمية للطلاب والمدارس
مسلسل مراهق العائلة: دراما عائلية مؤثرة تلامس القلوب وتثير نقاشًا واسعًا حول العالم
قائمة أغنى المليارديرات في العالم لعام 2025 وفق فوربس: الأسماء والتحديثات الجديدة
تحويل الصور إلى نمط Studio Ghibli بالذكاء الاصطناعي مجانا: أفضل الأدوات ورابط مباشر لتجربتها