رواية بين الرفض والقدر (عريس قيد الرفض) الفصل السابع عشر17 بقلم عفاف شريف

رواية بين الرفض والقدر (عريس قيد الرفض) الفصل السابع عشر17 بقلم عفاف شريف

 الفصل السابع عشر

بين الرفض والقدر

🦋عريس قيد الرفض 🦋

اهداء الي حبيباتي

Aml khalil

الفصل السابع عشر

بين الرفض والقدر

🦋عريس قيد الرفض 🦋

❈-❈-❈

تَرتَعِدُ أضلاعي في صمتٍ ثقيل،

وصوتُ الصدمةِ يترددُ في أركانِ الروح.

أيُ قلبٍ يحملُ أثقالَ الأمس؟

وأيُ دربٍ يَفرُ من ظلالِ الجُروح؟

أبحثُ عن دفءِ النجاة،

لكنَّ البردَ يَسري في عروقي كالنار،

عينايَ تخشى المرايا،

كأنها تخبرني بأسرار الانهيار.

لا زالت الأرضُ ترتجفُ تحت قدمي،

وكأنها تُشاركني وجعَ ارتجافي.

هل للوقتِ أن يُعيدني؟

أم أنني سرمديًّا في ضيافي؟

❈-❈-❈

صمتٌ يخيم وهدوءٌ يسبق عاصفةً تطيحُ بدقات قلب صاحبها.

رعبٌ وألم الفقد يهدمان أي ثباتٍ بداخل المرء في تلك اللحظات.

أن ترتعد أوصالك خشيةً من لحظةٍ عايشتها من قبل.

لحظات الفراق.

لحظاتٍ لا يريد حتى أن يتذكرها.

أبداً، أبداً.

تميم،

ابنه،

سنده في تلك الحياة،

وقرة عينه.

وقع جالساً على المقعد، غير قادر على الوقوف أكثر من هذا.

لم تعد ساقه قادرة على حمله.

لم يعد قلبه قادراً على التحمل.

ولا هو قادر حتى على الرد.

شاحبٌ بوجهٍ أصفر وملامح مرتعبة.

شاعراً في تلك اللحظة بقلبه على وشك التوقف.

مغمضاً عينيه محاولاً استيعاب ما سمعه للتو.

قبل أن يجد صوته هامساً بهلع وفزع:

“حادثة، حادثة إيه؟

ابني،

ابني تميم، حصله إيه؟

قوليلي ابني حصله إيه؟”

وصمت لعدة ثوانٍ قبل أن يهتف بلوعة:

“هو عايش؟

عايش صح؟

تميم عايش لسه؟

ابني عايش؟”

أتاه الرد هادئاً:لو سمحت اهدي، الحمد لله،

عايش،

وياريت تيجي في أسرع وقت.

وهنا هتعرف كل التفاصيل،

وتفهم وتطمئن من الدكاترة.

بس لو سمحت تيجي بسرعة.

وأغلقت معه بعدما أملته العنوان.

ليمسك منير بيده وهو يقول بقلق: أستاذ تميم حصله إيه؟

هو كويس؟”

هز مدحت رأسه بعدم فهم ورعب.

قبل أن يرفع يده المرتجفة يمسح وجهه المتعرق بشدة،

محاولاً التحكم في أعصابه المرتعشة.

غير قادر أبداً على فعل أي شيء.

قبل أن يقول بتعب وإرهاق:خدني يا منير،

خدني لتميم،

خدني لابني، مش هاطمئن غير لما أشوفه بعيني.

أسرع منير يمسك يده، مساعداً إياه

على الذهاب إلى السيارة.

مرتعب من أن يسقط منه في أي لحظة.

ما زال فراق زوجته الراحلة

هاجساً يطوف في عقله طوال الوقت.

ومدحت لن يتحمل أن يصيب أحد أبنائه أي مكروه،

ولا أي شيء.

أغلقت الهاتف لتسألها زميلتها باستغراب:

“مقولتيش لأهل المريض التفاصيل ليه؟”

أجابتها مؤكدة وهي تتفحص بيانات أحد المرضى:واضح إنه كبير في السن.

الشاب كبير أصلاً. تخيلي، أبوه عنده قد إيه؟

أروح أقوله تعالِ بسرعة,

ابنك لاقوه مطعون وسايح في دمه.

الراجل هيعمل حادثة وهو جاي بسرعة من خوفه ورعبه عليه.

لما يجي إن شاء الله نشرحله الوضع والدكتور يطمنه.

لكن الحقيقة أخاف أقوله يرقد جنب ابنه.

أنا قلتله نص المعلومات.

لما يجي نعرفه الباقي.

أومأت لها الأخرى بهدوء.

قبل أن تلاحظا دخول شابٍ راكضاً من الخارج بوجهٍ أصفر مرتعبٍ يكاد يسقط على وجهه بكل خطوةٍ من شدة توتره،

وهو يسأل بسرعة غير قادر على أخذ أنفاسه:

“تميم مدحت العسلي،

جبوه هنا في حادثة،

بلغوني.

هو فين؟ هو كويس؟

أجابته بهدوء: حضرتك أخوه؟

هز رأسه نافياً قائلاً بسرعة: صاحبه.

بس لو سمحتي، عايز أطمئن عليه.

هو كويس؟

طمِّنيني لو سمحتي.

هزت رأسها قائلة بسرعة: كويس إن في حد جه.

لو سمحت، سيب جزء من الفلوس تحت الحساب

وأتفضل اطلع بسرعة الدور الثالث.

هم محتاجين لسه متبرع بالدم.

وقبل أن تكمل حديثها،

كان يخرج بطاقته البنكية بسرعة.

هزت رأسها بأسف وهي تقول:للأسف، مش متوفر دفع بالفيزا.

لازم كاش.”

أخرج محفظة نقوده سريعاً يطالع ما فيها بحيرة، لا يملك هكذا مبلغ نقدي الآن.

قبل أن يسحب منها البطاقة مرة أخرى،

راكضاً للخارج،

باحثاً سريعاً عن أقرب صراف آلي.

لن يترك تميم

لن يتركه أبدا

عشر دقائق من البحث المتواصل

وأخيرا قد حصل على المال.

سحب مبلغاً كبيراً كان خاصاً بتجهيزات زفافه،

ولا يهتم أبداً أبداً.

دلف للمشفي سريعاً مرة أخري

وهو يندفع نحوها،

يضع المال أمامها قائلاً بسرعة و تأكيد: أي كان المبلغ المطلوب هدفعه.

وده جزء تحت الحساب،

ولو عايزين أكثر هدفع.

بس،

أهم حاجة،

مينقصهوش أي حاجة لو سمحتي.

أومأت له وهي تُتِم الأمور الروتينية

قبل أن تعطيه الموافقة بالدخول.

ليركض بسرعة للداخل،

غير مهتم بشيء في تلك اللحظة

سوى أن يكون صديقه تميم بخير.

هذا هو الأهم.

❈-❈-❈

كانت ما زالت محلها كما هي،

حولها الصغار كالعاده،

صراخ هنا وهناك،

هذا يضرب هذا،

وتلك تجلس على ذاك،

وتميم الصغير يستولي على خصلات من يمر أمامه،

فيخرجها بين يده بكل بساطة ورقة.

تنهدت بضيق، ها هي جالسة منذ مدة.

انتهت من تجهيز الحقائب،

حقيبتها والصغار،

وأصبح كل شيء جاهزًا للحجز والنزول إلى مصر في اللحظة التالية إن أرادت.

لكن وللآن لا رد من رامي،

ببساطة يتجاهلها،

بل وأيضًا يلعب معها لعبة قذرة ليثير جنونها.

يغلق الهاتف ثم يفتحه،

يتركها تهاتفه مرة، مرتين، عشرة،

ويغلقه ثم يفتحه،

لتظل هي اليوم بأكمله في ذلك الوضع.

كأنها متزوجة من طفل صغير أحمق وغبي،

لا رجل تجاوز الثلاثين، زوج وأب لأربع أطفال،

لا يفهم أبدًا.

تتساءل لوهلة

ماذا إذا هي من كانت تقع في مصيبة كبيرة؟

مرضت هي أو أحد الصغار؟

اقتحم أحد اللصوص منزلها؟

أي شيء،

أي شيء طارئ قد تحتاجه الزوجة من زوجها.

كيف له أن يتجاهل كل تلك المكالمات؟

كيف له أن يكون بقلب متحجر؟

لا يخشى عليها ولا على صغارها؟

كيف أصبح هكذا؟

أو كيف هي سمحت لنفسها أن تظل معه وهو هكذا؟

رامي لا يفهم ماذا يفعل بها،

ماذا يصنع بداخلها كل يوم،

وماذا يثبت لها بكل لحظة.

رامي يضع حجر أساس بداخلها،

لكن حجر أساس لنفورها منه،

يومًا بعد آخر.

يذرع بداخلها مشاعر لم تتخيل يومًا ما أنها ستكنها له.

لم تتصور أن يصل الحال بها أن لا تطيق حتى مجرد الظهور بالمنزل.

لكن يظل هناك سؤال،

تسأله لنفسها كل يوم.

سؤال تتهرب منه،

تتهرب أن تجيبه لنفسها ولها.

هل ما زالت تحب رامي؟

هل بعد كل هذا،

وكل ما مرت وتمر به، ما زالت تحب هذا الشخص؟

وللأسف الشديد، ورغم احتقارها لنفسها بتلك اللحظة،

مضطرة هي للاعتراف

نعم، لم تستطع نزع حبه من قلبها الغبي بعد،

حب يقودها نحو الهلاك،

وهو الهلاك بحد ذاته.

❈-❈-❈

كان حسام يضم الصغيرة شمس النائمة بين أحضانه بذهن شارد.

صراخها وبكائها الحاد في بداية إقلاع الطائرة زاد توتره هو وحور،

حتى ظل يهدهدها، وأخيرًا غفت حينما قرأ لها القرآن.

ابتسم بشرود متذكرًا كانت عادة أمه، رحمها الله، قراءة القرآن لهم جميعًا.

كانت حضنًا دافئًا يضمهم جميعًا.

حل محلها تميم…

تميم…

آه من تميم، ومن ألم تميم.

منذ أن أقلعت الطائرة عائدة إلى مصر وقلبه لا يقدر على التحمل.

يريد أن يصل بأسرع ما يمكن، وإن كان هناك ما هو أسرع من الطائرة لما ترددت أبدًا.

لا يعلم كيف حال تميم الآن، ولا يعلم أين هو حتى.

آخر محادثة مع أبيه كانت قبل صعوده للطائرة،

كانت محادثة كارثية.

أباه مرتعب، خائف، ولا يعرف أين تميم.

حتى أنه أخبره أنه إن حل الصباح ولم يظهر، سيبلغ الشرطة.

إنها المرة الأولى لاختفائه بتلك الطريقة.

لطالما كان تميم يتعامل مع صدمات حياتهم بهدوء، يحتوي الجميع، يضمهم إلى صدره،

مخففًا عنهم.

كان يحتل مكان أمهم منذ غادرت.

كان يقوم بالعديد من الأدوار، أدوار كثيرة ومرهقة لشخص واحد.

كان لهم الكثير، كان حقًا سندًا لهم.

لكن غفل الجميع عن أن هذا السند للجميع،

حتى هو يحتاج إلى سند حينما يريد أن يقع،

حينما يريد أن يُلقي من على عاتقه كل شيء،

أن يظل خالي البال، يفكر بنفسه، بحياته،

وليس بعقله ألف مشكلة يريد لها حلولًا.

كان يريد هو الآخر أن يحب، يتزوج، وينجب.

الكل فعل… إلا تميم.

الكل تابع حياته… إلا أخاه تميم.

خرجت منه تنهيدة ثقيلة وهو يزيد من ضم شمس،

حتى شعر بيد حور تحاوط يده، تضمها لصدرها.

التفت ينظر لها بتشوش،

لتهديه ابتسامة مشجعة وهي تمسح على وجنته قائلة بهدوء:

تميم هيكون كويس، أنا واثقة.

صدقني، ربنا هيحفظه ويحميه.

هو بس يمكن محتاج يكون لوحده، يفكر بهدوء ويفصل عن كل حاجة.

أنا عارفة أنك مش حابب تحكيلي اللي يخصه، وصدقني أنا مش زعلانة أبدًا.

بالعكس، أنا مقدرة أنك عايز تحترم خصوصيته.

بس هو هيكون كويس، وإن شاء الله هيظهر.

أوعي تخاف كده، أنا جنبك.

هنعدي ده سوا، أنا مستحيل أسيبك يا حسام… أبدًا.

قالتها بتأكيد.

رفع يدها يقبلها بحب، قبل أن تريح رأسها على كتفه.

يضمها وشمس إلى قلبه، داعيًا من الله أن يكون حديثها صحيحًا.

لا يريد سوى أن يكون أحبته بخير، وماذا قد يريد غير ذلك؟

وطوال الرحلة، كان لسانه لا يكف عن الدعاء،

دعاء لأخيه وأبيه الثاني، تميم،

سندهم في تلك الحياة.

فليحفظه الله لهم.

❈-❈-❈

وصل مدحت إلى المستشفى يستند على يد منير،

وقف لدقيقة أمام بوابة المستشفى غير قادر على الدخول،

لا تحمل له المستشفيات سوى ذكريات سيئة لا يريد تذكرها حتى.

خطا خطواته ببطء ولسانه لا يكف عن الدعاء،

حتى وقف أمام فتاه الاستقبال،

وهو يتساءل باللهفة: ابني، ابني تميم،

اتنقل هنا بعد ما عمل حادثة؟

أومأت له الفتاة بهدوء وشفقة من مظهره المرتعب وهي تقول: اتفضل يا فندم،

الدور الثالث،

تقدر تتفضل هم هيشرحوا لحضرتك كل حاجة.”

هز رأسه بصعوبة وهو يتساءل بولع:

عايش، صح ؟”

أومأت له بعطف وهي تقول: الحقيقة أنا معنديش معلومات،

بعتذر جدًا من حضرتك،

فوق هم هيبلغوا حضرتك.

أومأ لها بصمت وهو يستند على منير ليصعدا سريعًا للأعلي بقلب مرتعب.

استقلا المصعد لعدم قدرة مدحت على صعود السلم،

وما إن وصلا حتى عقد حاجباه، ومنير يقول بتساؤل: مش ده أستاذ أحمد؟

رفع مدحت رأسه ينظر حيث يشير،

ففي نهاية الرواق كان أحمد يجلس،

يستند رأسه للخلف، يجلس بصمت مهموم.

تحرك مدحت بسرعة لا تناسب إرهاقه أبدًا،

وهو ينادي بلوعة: أحمد!

انتفض الآخر حينما استمع إلى صوت مدحت،

ليتحرك من مكانه مهرولًا نحوه،

متمسكًا بيده،

مجلسًا إياه على أقرب مقعد،

وهو يجلس أمامه أرضًا،

مربتًا على ساقه،

محاولًا تهدئته.

مدحت برعب ويد مرتعشة:

“طمني يا ابني،

تميم حصله إيه؟

أنا مش فاهم حاجة.

أنت كنت معاه؟

مش قلتلي مشفتهوش النهاردة

لما كلمتك أسالك عليه؟”

هز أحمد رأسه بنفي حزين وهو يجيبه بتأكيد:

“أنا كنت فعلاً بدور عليه زي ما قلت لحضرتك،

بس وأنا عمال برن عليه،

ردوا عليا، بلغوني أجي هنا،

وأنا جيت على طول،

ومكنتش أعرف أن في حد بلغكم.

الحقيقة أنا مرضتش أكلم حد فيكم،

بذات أن الكل نازل مصر،

كنت مستني أطمن الأول عشان ما أخضكش.

أمسك مدحت يده متسائلًا بترقب:تميم حصله إيه؟”

ابتلع أحمد ريقه بتوتر،

وهو يرفع يده يمسح وجهه،

قائلًا بمراوغة:الدكتور شوية وهيطلع يطمنا.

إلا أن شحوب وجهه اخبر مدحت أنه يعرف ما حدث لتميم،

فأمسك بيده قائلًا بإصرار: تميم يا أحمد،

حصله إيه؟

أوعى تخبي عليَّ،

ده ابني،

إيه اللي حصل؟ قولي.

هز الآخر كتفه بعدم معرفة وهو يجيبه بحيرة:

“صدقني معرفش.

وأكمل بحذر وهو يمسك يده: هيكون كويس يا عمي، لو سمحت استهدي بالله.”

مدحت بإصرار وتعب: إيه اللي حصل يا أحمد؟

محدش راضي يفهمني ليه؟

حادثة؟ إيه اللي حصلت؟”

تنهد أحمد بضيق قبل أن يجيبه قائلاً بتعب:

“تميم معملش حادثة يا عمي،

أنا كل اللي فهمته أن في حد لاقاه مضروب،

جنب المقابر.

مدحت باستغراب:مضروب؟

مضروب إزاي يعني؟

فهمني.”

ابتلع الآخر ريقه بخوف وهو يشدد على يده قائلاً ببطء: مضروب بمطوه.

اتسعت عينا مدحت بشدة،

حتى شعر أن قلبه على وشك التوقف،

وهو يردد بخفوت مرتعب: مطوه.

أسرع أحمد بالحديث قائلًا: هيكون كويس يا عمي،

أنا متأكد،

أنا لسه خارج من غرفة التبرع،

الممرضة قالتلي أنهم لحقوه في الوقت المناسب، الحمد لله،

وهيكون كويس.

تساءل مدحت بصوت باهت:

“هو فين دلوقتي؟”

تنهد أحمد قائلاً بتأكيد:

“في العمليات،

من رحمة ربنا بينا

أنهم لحقوه على طول،

ربنا سترها،

إن شاء الله هيكون بخير،

أنا واثق.

تميم رياضي، وإن شاء الله جسمه هيستحمل، إن شاء الله.

كاد مدحت أن يتحدث، إلا أن قاطعه رنين هاتفه،

أمسكه بيد مرتجفة يناظر المتصل بعين غائرة عاجزة وبشدة،

كانت ابنته ملك.

ماذا يفعل؟

ماذا يخبرها؟

أن أخاها في غرفة العمليات بعد أن تعرض للطعن؟

لتجاوره في غرفة هي الأخرى.

لا لن يقدر،

لن يستطع أبدًا.

مد يده بالهاتف إلى منير قائلاً بحزم:

“مش عايز حد يعرف حاجة،

رد أنت على ملك،

وقولها أننا لقينا تميم

من غير تفاصيل.

ونفس الكلام، محدش يبلغ حسام ولا أمير ولا آلاء

إلا لما الكل يكون هنا،

محدش هيستحمل الخبر.

قالها بعجز،

وهو يضع رأسه بين يديه،

شاعرًا بالرعب ينهش قلبه،

رعب الخسارة،

ولسان حاله يردد:

“يا رب احفظه،

احفظه يا رب.”

❈-❈-❈

كانت فريدة مستلقيةً على فراشها تضم لوزةً لصدرها بضيق وشدة، حتى ابتعدت لوزة عنها متململة.

تنام بعيدًا في الجهة الأخرى، تحديدًا جانب عمر، لتنام براحة أكثر، فهي تخنقها منذ ساعة ونصف، وتزعجها.

منزل مقرف، رجل يصيح ليل نهار، وأخرى تبكي ليل نهار. ما هذا؟ هي قطة حامل، تريد الهدوء.

ناظرتها فريدة بقرف، وهي تقول بتذمر: “تصدقي إنك مش جدعة؟ تعملي المصيبة، وحتى مش عايزة تنامي في حضني تخففي عني؟ أي قلة الأدب دي؟ أنا بحارب في حرب إنتي متعرفيش عنها حاجة.”

ناظرتها لوزة قليلاً، قبل أن تلتف للجهة الأخرى لتنام معطية إياها ظهرها.

ناظرتها فريدة بغيظ. طبعًا ولماذا لا تنام؟ فهي أكلت وأكلت حتى انتفخت كالبطيخة.

وكالعادة غضب عمر منها هي.

زمت شفتاها بضيق، متذكرة ما حدث.

خطت خطوة للأمام ببطء، وهي تناظر اتساع عيني عمر.

يناظر لوزة بشر، على استعداد تام للانقضاض عليها في أي لحظة، مطيحًا إياها من أقرب نافذة، عله يرتاح منها ومن فمها الكبير.

تأكل أكثر منه هو شخصيًا، يكاد يخشى أن ينام فيستيقظ ليجدها قد أكلت ذراعه.

صاح بعصبية: “عجبك اللي بتعمله ده؟ هو أنا مش عارف أتهنى بلقمة في البيت ده ولا إيه؟”

صاح بها، وهو يضرب الطاولة بجانبه، لتنتفض لوزة تناظره بضيق، مصدره أصوات منزعجة.

اتسعت عينا عمر، وهو يناظرها، يكاد ينفجر، يقول بصوت عالي وصراخ: “دي بتبصلي بقرف وبتنونو كمان! ليها عين البجحة، بنت…”

وضعت فريدة يدها على فمه تمنعه بنظرة موبخة.

ليزيح يديه قائلاً بجنون: “إنتي عايزة تجننيني؟ يعني خايفة على مشاعر البتاعه دي؟ وأنا أولع!”

حاولت فريدة تهدئته قائلة برفق: “معلش يا عمر، هي أكيد مكنش قصدها وكانت جعانة. ثم دي حيوان مش فاهم. هتاخد ثواب كبير.

صاح بعصبية أكبر: “لا بقى، دي فاهمة. دي قاصدة تعمل كده! بصي بتبصلي إزاي؟ كانها بتقولي: أنا حرة أعمل اللي أنا عايزة.”

حاولت فريدة تهدئته ليصرخ بها: متجننيش إنتي الثانية!

ردت عليه فريدة بتوبيخ، قائلة: خلاص يا عمر، يعني أفتح بطنها يعني أطلع الأكل؟ خلاص كلته، أعمل إيه يعني؟

ناظر لوزة بحقد، قبل أن يهدر قائلاً بضيق: “أنا داخل أتخمد، حرقتوا دمي.”

وقفت تناظر دخوله للغرفة الأخرى بضيق، قبل أن تناظر لوزة بغضب، قائلة بضيق: “عجبك كده اللي حصل؟”

ناظرتها لوزة بهدوء، قبل أن تكمل تناول باقي قطعة البيتزا براحة قبل أن تبرد.

عودة للوقت الحالي

أفاقت على صوت دقات الباب ودخول عمر.

يناظر لوزة النائمة مكانها، قائلاً باعتراض: “إنتي منيماها مكاني يا فريدة؟

ناظرته بضيق، وهي تقول متأففة: “عمر، أنا بجد أعصابي تعبت. أنت حاطط نقرك من نقرها ليه؟

لوزة حامل، محتاجة تنام مرتاحة عشان البيبي بتاعها.”

عض شفتاه بغضب، يود ضربها هي ولوزة بأي شيء على رؤوسهم، إلا أنه عاد وتماسك، ومد يده لها قائلاً برفق: “تعالي نكمل سهرتنا، وسيبي ست زفتة هنا.

هزت رأسها بيأس، وظلت تنظر ليده بضيق، وهي تقول بسخرية: “مش قلتلي هتنام؟”

وزعقت ورزعت الباب وراك .

تنهد قائلاً بتأكيد: “مش هنام من غيرك، تعالي.

قالها وهو يمد يده لها.

ناظرته لدقيقة، قبل أن تضع يدها في يده، مغادرين الغرفة تاركين لوزة تتمتع بالفراش وحدها.

تتحرك فيه هنا وهناك، سعيدة بمغادرتهم.

فاليوم ستنام فيه وحدها، يا لسعادتها.

❈-❈-❈

في الممر الطويل،

الترقّب يسود المكان،

والهدوء يعمّ، إلا من أصوات الدعاء.

الدقائق لا تمر، وكأن الوقت متوقف،

ولا أحد يخرج ليطمئن قلوبهم المرتجفة من شدة الخوف.

مدحت الجالس بوهن على أحد المقاعد يدعو الله ويقرأ القرآن،

يدعو بثقة أن الله لن يخذل قلبه،

لكن لا يقدر على منع تلك الرعشة التي تصيبه.

أفكاره السيئة تشعره بالعجز،

لكنه يعود مستغفرًا،

واثقًا أن الله معه مهما حدث.

أغمض عينيه بتعب وإرهاق،

يحاول التماسك.

لن يسمح لنفسه بالانهيار،

لن يسمح لنفسه بخذلان ابنه.

هو هنا، ينتظره، وسيظل دائمًا.

سيخرج بخير،

ليضمه إلى صدره.

فقط ليخرج،

فقط ليكون أمام عينيه.

لن يضغط عليه مرة أخرى،

لن يحمله فوق طاقته أبدًا.

فقط ليعود،

ليعود إلى أحضانه،

ليعود فقط.

ولا يريد سوى أن يراه بخير.

أفاق على يد منير الجالس بجانبه، يرد على مكالمات أبنائه التي لا تتوقف أبدًا،

وهو يسأله:

“أنت كويس؟ أجيبلك عصير؟ وشك أصفر أوي.”

هزّ رأسه نافيًا،

وهو يعود يغلق عينيه يدعو من قلبه.

وهناك بجانب الغرفة، يقف أحمد، يكاد يسقط من شدة التعب،

لكنه لا يهتم،

لا يهم شيء.

هو فقط خائف.

تميم لم يكن فقط صديقه المقرّب الوحيد،

بل كان ملاذه دائمًا، حامل أسراره ومتاعبه.

مسح وجهه مفكرًا،

الجميع مرتعب،

الجميع متعب.

تميم أخ وابن وأب وصديق لكل منهم.

تميم وتد تلك العائلة،

ولن يتحمل أحد أن يصيبه أي مكروه.

نظر باتجاه مدحت الشاحب،

يخشى أن يسقط منهم في أي لحظة.

أفاق الجميع على صوت فتح الباب،

وخروج أحد الأطباء منه.

اندفع أحمد بسرعة لكونه الأقرب،

تبعه مدحت بلهفة، يساعده منير.

ليندفع قائلًا بارتعاش: ابني… ابني يا دكتور، عامل إيه؟ طمّني أرجوك!

ربت الطبيب على كتفه قائلًا بهدوء:

“الحمد لله، العملية عدّت على خير.”

وتابع يشرح لهم الوضع:

“المريض كان معرضًا لأربع طعنات في أماكن متفرقة، وللأسف نزف كثيرًا، وللاسف كان في كمان نزيف داخلي.

لكن الحمد لله أنه جابوه بسرعة قبل ما تسوء حالته، ونجحنا في السيطرة على الوضع ووقف النزيف.

والعملية عدّت على خير.”

“والحمد لله، الحالة مستقرة.

حاليًا، هيدخل العناية المركزة نراقب وضعه أكثر، وإن شاء الله، لو الوضع فضل مستقر، هيتنقل غرفة عادية لحد ما يتعافى تمامًا.”

عن إذنكم، ألف سلامة عليه.

أوقفه مدحت قائلًا برجاء:

“هيكون كويس، صح؟”

أومأ الطبيب بهدوء قائلًا بشفقة:

قالها قبل أن يغادر سريعًا،

ومدحت مكانه ينظر في أثره بوهن ورغبة في البكاء.

استند إلى الحائط خلفه، مغمض العينين بتعب، متنفسًا الصعداء، يحمد الله من كل قلبه،

مرددًا بحمد:

“الحمد لله، الحمد لله.”

وظلوا هكذا في ترقّب،

قبل أن يفتح الباب مرة أخرى،

ويخرج منه تلك المرة ابنه تميم، نائمًا على فراش طبي بفعل المخدر،

شاحبًا وباهت اللون،

وجهه به الكثير من الكدمات والعلامات،

وتحيط به العديد من الأجهزة.

لا يشعر بهم،

في عالم آخر.

انزلقت منه دمعة متألمة،

وهو يرى ابنه بتلك الحالة،

قبل أن يقترب منه، يمسك يده الباردة،

يقبّلها قائلًا برفق:

“أنا جنبك يا حبيبي… مش هسيبك أبدًا.”

قالها وهو يرى الفراش يبتعد عنهم،

ليتبعه ببطء، يسانده أحمد،

قبل أن يقول بحزم وتقرير:

“ابدأ في إجراءات نقله يا أحمد.

هننقل تميم لأكبر مستشفى في البلد.”

❈-❈-❈

بعد بضع ساعات،

تم نقل تميم إلى أكبر مستشفى تحت إجراءات أمنية وطبية مشددة.

وضعه، نعم، مستقر، لكن يجب أن تتم مراقبة كل شيء.

لن يخاطر للحظة بسلامته أبدًا.

وأيضًا ما زال مدحت لا يعلم حتى الآن ما حدث،

وكيف تعرّض تميم لما تعرّض له.

تظل الصورة مجهولة إلى حين إفاقة تميم،

فمعه ستكون الصورة كاملة.

فقط ليفِق،

وليعلم من فعل به هذا،

وإن كان ما حدث صدفة أم بفعل فاعل.

وقف يضع يده على الزجاج،

يناظر ابنه الراقد أمامه بضعف لا حول له ولا قوة.

لم يره يومًا بتلك الصورة أبدًا.

كان دائمًا قوي البنية،

نادراً ما يمرض،

يحافظ على طعامه وصحته وحياته.

كان صورة رائعة من كل شيء،

ابنًا، وأخًا، وصديقًا.

كان يراه الأفضل،

ولم يره يومًا في تلك الحالة،

ولا يود أن يراه أبدًا.

أفاق على صوت رنين هاتفه، وكان ابنه حسام.

طالما هاتفه، فهذا يعني أن حسام وصل إلى القاهرة.

نظر إلى الهاتف بحيرة وتشتت.

كيف يخبره بما حدث،

وأن تميم لم يكن مفقودًا،

بل أصبح مصابًا أيضاً ؟

❈-❈-❈

خرج حسام من المطار يحمل الصغيرة شمس،

ويدفع عربة الحقائب، وحور تتعلق بذراعه.

يهاتف والده الذي لا يرد.

ناظرته حور بقلق وهي ترى ملامحه الواجمة، لتسأله بتوتر:

في إيه يا حسام؟

هز رأسه قائلاً بعدم فهم:

بابا مش بيرد عليا، مش عارف في إيه.

قالها وهو يخرج من بوابة المطار، ليجد أحدهم يقترب منه قائلاً بهدوء:

أستاذ حسام، نورت البلد.

طالع حسام الرجل بابتسامة وهو يتعرف عليه، قبل أن يردف:

أهلاً بيك.

ونظر إلى رجلي الحراسة خلفه قائلاً باستغراب:

في إيه؟

أخذ الرجل منه العربة ليدفعها بنفسه قائلاً بتأكيد:

أستاذ مدحت هيتواصل مع حضرتك، لكن لوقتها أنا مسؤول أوصّل حضرتك لحد باب الفيلا بأمان.

قطب حسام حاجبيه بعدم فهم، وضم شمس ثم أدخل حور السيارة.

كان واثقًا أن أباه لن يرسل حراسة إلا لو تعرض أحدهم لمكروه.

وعند تلك الخاطرة، رفع الهاتف يحادث والده قائلاً بصدمة ما أن رد عليه:

بابا… تميم فين؟

اتسعت عيناه وهو يستمع لما يُقال، قبل أن يخبر السائق بأمرٍ حازم:

اطلع بينا على المستشفى فورًا.

قالها بحزم، وهو يضم قبضته بغضب.

فبسبب مجرمٍ ما، كاد أن يفقد أخاه.

جلست على المقعد بجانب باب منزلها، تخرج حذاءها الرياضي لترتديه.

لتجد أنس ينحني ويجلس أرضًا، يلبسه لها بحنان.

داعبت خصلاته مبتسمة له بامتنان، قبل أن تأتيه مكالمة.

وقف وهو يضع الهاتف على أذنه، مخرجًا الحقائب من الشقة،

مستمعًا بهدوء، قبل أن يتسمر في مكانه، متسع العينين،

غير قادر على اتخاذ أي رد فعل.

تحديدًا بسبب تلك الواقفة خلفه.

التفت ببطء يناظرها، يبتلع ريقه برعب وهي تضع حقيبتها على كتفها،

تناظره باستفهام.

وفي الوقت ذاته، يسمع تأكيد حسام عليه قائلاً بحزم:

أنس، تميم حد اتهجم عليه واتنقل المستشفى. لما توصل مصر، خد ملك على البيت لحد ما نطمن على الوضع.

مش هنقدر نقولها الخبر، ولا هنقدر نمنع نزولها مصر،

فروح بيها على البيت. أول ما توصل المطار، هتلاقي عربية بحرس مستنياك.

عينك على ملك، إحنا ما نعرفش إيه اللي حصل لحد دلوقتي.

وأغلق معه بسرعة، وتركه يواجه تساؤلات زوجته عما حدث،

والسؤال يدور بباله يضربه بعنف:

ماذا سيحصل لها عندما تعلم؟

كيف سيخبرها أصلاً؟

وكيف سيكون رد فعلها على خبر تواجد تميم بالمستشفى؟

كانت آسيا بغرفتها تقلب في هاتفها كالعادة بملل.

تفكر في تميم، أرسلت له رسالة جديدة أمس، لكنه حتى الآن لم يرد عليها.

تأففت بضيق وهي تشاهد المنشورات بملل،

إلى أن أتى أمامها منشور جعلها تعتدل في جلستها،

تناظره بعيون متسعة، وهي تهمس بصدمة:

“إصابة رجل الأعمال تميم مدحت العسلي بعدة طعنات ونقله إلى مستشفى…”