رواية بين الرفض والقدر (عريس قيد الرفض) الفصل السادس عشر16 بقلم عفاف شريف

رواية بين الرفض والقدر (عريس قيد الرفض) الفصل السادس عشر16 بقلم عفاف شريف

 الفصل السادس عشر

أحيانًا تأتي الصدمة كصفعة توقظنا من غفوة الواقع،

تطيح بنا والمتبقي من أحلامنا

تجبرنا على النظر بعمق داخل أنفسنا،

لنفهم أن في الانكسار قوة، وفي الألم حياة جديدة تنبض.

وأنه ربما ما أردنا لم يكن مقدرًا لنا يومًا.

❈-❈-❈

كيفَ تهتزُّ الروحُ حينَ تضربها الرياح،

وتُكسرُ داخلها ألفُ جناح؟

كأنَّ الحياةَ تمضي بلا ظلال،

وأنا في عراءِ الألمِ، جسدٌ كفَّ عن الكفاح.

أنفاسي ليست لي،

وصوتُ دمي يغلي في أوردتي،

كأنَّ الجسدَ يصرخ،

لكنه عاجزٌ عن التحرّرِ من سَطوةِ الحكاية.

أمسحُ دموعَ ارتجافي،

لكنها تسكنُ العروق.

أتلوُّ كغصنٍ في عاصفة،

لكنَّ جذوري عالقةٌ في شِباك الألم.

صمت قاتل.

هدوء.

والسؤال يتردد بكل لحظة.

كم مرَّ؟

دقيقة.

اثنان.

ثلاثة.

أربعة.

أم عشرة؟

الحقيقة وفي تلك اللحظة يصعب التحديد.

يصعب تحديد أي شيء.

يصعب التخيل.

ويصعب التصديق.

ارتجاف يجتاح الجسد ببطء شديد.

كأنه يتعمد أن يشعرك بكل لحظة،

بكل لحظة ألم،

خذلان،

وتحطم.

صوت حطام شيء ما.

آه، ربما قلبه.

أن تشعر أن العالم قد توقف،

وأنت بحد ذاتك توقفت عن الفهم.

كان أحدهم ضربك على مؤخرة رأسك

لتسقط وسط أحلامك المحترقة.

“تسقط مصفوعًا بالآمال والأحلام.”

لم يتحرك،لم يقدر حتي

وداومه تفكيره تنصب على جملة واحدة تظل تتردد مرارًا وتكرارًا أمام عينيه

حتى كادت أن تصيبه بالعمى.

عبارة قاتلة:

“عمر جوزي”.

أغلق عينيه للحظات، كان الصدمة قد سلبته القدرة على الرؤية في تلك اللحظة.

أو ربنا يريد أن يهرب،

يهرب فحسب دون حساب أو عتاب.

لكن أي هروب؟

قد وقع المحظور وانتهى الأمر.

لذا تنهد محاولا التنفس

وكانه يجمع أكبر قدر من الهواء

قبل أن يفتحهم ببطء شديد.

شديد للغاية

قبل أن ينقلهم بين تلك التي كانت فتاة أحلامه،

من كان يريدها زوجةً وحبيبةً وصديقةً،

وابنةً،

من كان يريدها كل شيء بحياته ولآخرها.

من كانت،

نعم كانت.

فهي أصبحت ماضيًا لا جدال به أبدًا.

فهي الآن زوجة لآخر.

يقف أمامه يصافحه.

ينظر داخل عينيه، يحدق به بغيره من مجرد فكرة أنها كانت ستصافح غريبًا.

يغار من مجرد مصافحة.

ما باله هو؟

ما بال قلبه المحترق؟

قلبه الذي حلم بالكثير،

حلم بها هي دون غيرها.

والآن هي زوجة لآخر.

قطعة السكر خاصته،

لا لا لم تعد خاصته

لم تعد

بل وأصبحت الحضن الدافئ لآخر.

أصبحت ما أرادها هو له،

لغيره.

ببساطة،

لم تعد له.

اخفض نظره لتصطدم عينه برؤيته خاتم زواجها الذهبي الملتف حول إصبعها، يحتضنه برقة.

كان يجب أن يكون خاتمه هو.

كان يجب أن تكون زوجته.

أن تكون له الوطن.

تلك كانت أمنيته الكبرى.

لكن الغريب،

أن ليست كل الأمنيات تُكتب لها الحياة، فبعضها يظل سرابًا يزين الأفق لكنه لا يُدرك.

سحب يده ببطء شديد من بين يدي الآخر

قبل أن يخفض نظره للأسفل

مخبرًا نفسه بحزم:

لم تعد تحل لك.

لم تعد من حقك.

اخفض نظرك عنها

قد فات الاوان لتلك النظرات

فات الاوان للكثير من الأشياء

لذا أردف بخفوت خافت وصوت مبهوت: مبروك يا فريدة،

مبروك أنتِ تستحقي كل خير.

حقيقي.

ربنا يسعدك .

قالها بقهر،

قبل أن يكمل وهو ينظر للآخر قائلاً بحسرة وغيرة تهنِّش أحشائه بكل ثانية : مبروك.

والتفت سريعًا يدلف للشركة بخطوات سريعة وغاضبة وبشدة.

كان قلبه يحتضر.

بل احتضر.

❈-❈-❈

ظلت مكانها تنظر في أثره بحيرة وتخبط.

غادر سريعًا كأنه لا يطيق رؤيتها، لكنه لم يكن هكذا في بداية الحديث.

كان مبتسمًا متفاعلًا.

ماذا حدث لينتفض مغادرًا بهذه السرعة؟

حكت رأسها تحاول التذكر، كمن فقد الذاكرة.

ماذا أخبرته غير أنها تزوجت؟

أضايقه رد فعل عمر حين صافحه مكانها؟

شردت تفكر.

منذ متى لم تره؟

كم مرّ منذ لقائهم الأخير؟

الكثير حقًا… عام وأكثر.

ابتسمت بهدوء وهي تتذكر تلك الأيام.

لا تصدق بعد أنها تخطّتهم.

لو لم يدعمها تميم، لكانت الآن في مكان مختلف.

لربما تم الزفاف وأصبحت زوجته.

لكن هي وهو لم يريدا هذا أبدًا.

نعم، هو أيضًا لم يُرِد.

ابتسمت بحزن متذكرة دعاءه لها، يشبه دعاءه في المرة الأخيرة التي التقيا فيها.

لم تعايش معه الكثير، لكنه أثبت لها أنه رجل بحق.

ساندها أكثر من والديها.

هي توقن أن تميم أيضًا يستحق السعادة.

تتمنى من كل قلبها أن يحصل على قدر وفير من السعادة، أن يحصل على من تحبه كما هي أحبّت عمر.

هي حتى لم تسأله: هل حصل على تلك الفتاة بعد أم لا؟

أتزوج هو الآخر؟

هي لم تنتبه للأمر بالمرة.

والسؤال الغريب الذي سألته يومًا ما لنفسها:

لماذا شاب كتميم لم يتزوج حتى الآن؟

محظوظة هي من يقع في حبها، بكل تأكيد.

لكن كان هناك شيء لم تفهمه، شيء بداخلها أخبرها أن هناك خطأً ما قد حدث.

وقبل أن تحاول أن تحلل، قاطعها عمر بيده التي شدت على يدها، قائلًا بغيرة وغضب:

إنتِ كنتِ هتسلّمي عليه يا هانم؟ بجد يا فريدة؟!

لولا إني جيت في الوقت المناسب كنتِ سلّمتِ عليه؟

أنا مش منبّه عليكِ موضوع السلام ده؟”

انتفضت لوهلة تنظر إليه،

قبل أن تقول بهدوء:عمر، لو سمحت.

أنا كنت هسلّم في لحظة إحراج وتوتر بس، والموضوع ده تحديدًا أنا بعمله عشان ربنا سبحانه وتعالى.

وأكملت بسخرية:

ثم إنت آخر حد يتكلم عن الموضوع ده.

أنا جبت بنت عمتك من حضنك، فلو سمحت يعني، كفاية.

أنا محتاجة أروح البيت.

يلا، لو سمحتوا، الشركة دي بقت تخنق.

قالتها وهي تتخطاه مغادرة الشركة.

يتبعها هو بضيق يحاول أن يتجاذب معها أطراف الحديث، لكنها لم تكن معه.

كانت ما زالت هناك، في لحظة لم تفهم فيها أي شيء.

لم تفهم لماذا ألمها قلبها في تلك اللحظة.

هي لا تفهم ما يحدث.

لكنها لا تنسى أبدًا أن تميم كان صفحة البداية لها.

صفحة لم ولن تطوها.

ستظل صفحة ناصعة البياض في دفتر يملؤه السواد.

كانت لها بداية للكثير.

صفحة لا تنساها أبدًا.

ولم تعلم أنه كان يصنع بصفحاتها الكثير من الروايات.

وكانت هي أميرة كل الحكايات

واحترقوا باحتراقه.

❈-❈-❈

كان يسير بخطواتٍ متسارعة، يشعر بقلبه ينبض بشدّة.

يشعر أنّه لا يقدر أبدًا في تلك اللحظة على أيّ شيء.

لا… لا يريد.

فلينتهِ هذا الكابوس البشع.

ماذا يحدث؟

ماذا يحدث حقًّا؟

أيّ حبٍّ فقد في تلك اللحظة؟

أيّ خسارة خسرها؟

وأيّ فقد تعرّض له؟

بهذه البساطة يا تميم… سقطت.

سقطتَ وانتهى الأمر بخسارةٍ فادحة.

وقف فجأةً وهو يتنفس بسرعةٍ وضيق، شاعرًا بجبلٍ من نارٍ يحط فوق قلبه.

لم يعُد يحتمل، فلم يجد نفسه سوى وهو يكمل طريقه، متجهًا إلى مكتب والده.

لم يهتمّ بصياح السكرتيرة بأنّه “لا يجوز الدخول الآن”.

لم يهتمّ، ولا يهتمّ.

فهو في تلك الحالة لا يرى أمامه أبدًا.

سوا أنه خسر

خسر حلمه

اقتحم الغرفة دون أي إذن، لتتسع عينا مدحت وهو يرى اقتحام ابنه تميم الغريب للمكتب.

وصوته يرتفع لأوّل مرة قائلًا بنفاد صبرٍ وعصبيةٍ غير مبرّرة:

لو سمحتم، الكل برّة!

ظلّ الجميع ينظرون إليه بعيونٍ متسعة، قبل أن يشير لهم مدحت باعتذار، ليغادروا واحدًا تلو الآخر.

والجميع يراقب تميم الواقف بفضول.

فلأوّل مرة يرونه في تلك الحالة.

كان عفريتًا قد تلبّسه.

انتهى مع آخرهم وهو يُغلق الباب خلفه.

اقترب تميم من مكتب والده، وهو يوصل للسكرتيرة رسالةً بحزمٍ شديد لا نقاش فيه: محدّش يدخل علينا، مين ما كان يكون. ممنوع أي حد يدخل المكتب. فاهمة؟

أظن كلامي واضح.

وقف يناظر والده بعيونٍ غاضبةٍ مشتعلة، وجه أحمر منفعل كأنّه على وشك السقوط من شدة الضغط، وأعصاب لا يقدر على التحكم بها في تلك اللحظة.

ظلّ هكذا، لا يقدر على التنفس، قبل أن يبعد نفسه عن والده بضع خطوات، معطيًا إياه ظهره، محاولًا أن يستجمع نفسه.

صدقًا، يخاف من نفسه في تلك اللحظة.

يخاف وبشدة أن يفعل أو يقول ما لا يُحمد عقباه.

لذا، وقف يضع يده في خصره، يحاول جمع شتات نفسه، محاولًا بشدة.

إلّا أن يد والده المرتعبة التي وُضعت على كتفه أطاحت كل هذا، وهو يسأله بقلق:

تميم، أنت كويس؟ إيه اللي حصل؟ في إيه يا ابني؟ قلقتني.

التفت له تميم ببطء شديد، يحدّقه بعيونٍ انكسر شيء بداخلها، قبل أن يسأله ببطء شديد:بابا، انت كنت عارف إن فريدة اتجوزت؟

عقد مدحت حاجبيه وهو يناظره بعدم فهم، محاولًا فهم سبب هذا السؤال المفاجئ، قبل أن يجيبه بتأكيد:

أيوة… مدحت قال…

ولم يحسب حساب تلك العاصفة التي اندفعت في وجهه، وتميم يمسك بأقرب مقعد أمامه، يلقي به حتى نهاية المكتب بعنف، ووقف بعدها يلهث كأسد مجروح وبشدة.

مشهد جعل مدحت يرتد للخلف، يناظره بدهشةٍ وصدمة، تبعها صدمة أكبر وهو يسمعه يردف بصوتٍ عالٍ حادٍّ غير مصدق:

كنت عارف إنها اتجوزت ومقلتليش؟ ليه؟ ليه مقلتليش؟

إزاي تخبّي عني حاجة زي دي يا بابا؟ ليه متقوليش؟ ليه؟”

قالها بثقل، وازداد انعقاد حاجبي مدحت أكثر، وهو يشعر بالتيه وعدم الفهم، قبل أن يسأله بتعجب:أنا مش فاهم يا تميم. أقولك ليه؟

اقول اي أصلا

فريدة مجرد عروسة اتقدّمتلها تحت ضغط مني، وانت نفسك كنت رافضها.

إيه اللي يهمّك فيها؟

عايزني أقولك أخبار عروسة انت نفسك كنت رافضها؟ طيب ليه؟

إيه اللي مضايقك؟ ما تتجوز ولا تخلف!

انت مالك؟ يفرق معاك إيه؟”

قالها ليقابله صمت الآخر، ليصيح فيه بحدة، راغبًا في معرفة الإجابة:

ردّ عليا يا تميم! إيه اللي مضايقك أوي كده في جواز فريدة؟

يفرق معاك في إيه؟”

تتجوز تخلف يفرق معاك ايه؟

لتأتيه الإجابة بصراخ تميم بمرارة وقلبٍ يحمل الكثير من الندم على تأخّره:

وتابع وهو يهز رأسه بقهر:

عشان كنت مستني اللحظة المناسبة عشان أتعرف عليها من جديد وأتقدم من جديد.

كنت مستني الفرصة إني أتعرف عليها كتميم اللي حبها، مش تميم اللي مغصوبة عليه.

كان نفسي أبدأ صفحة جديدة معاها.

أقابلها وأعترف لها بحبي، وأدي العلاقة دي فرصة.

كنت كل ده مستني الفرصة المناسبة عشان أشوفها بعد ما منعتني أجي هنا، وأنا احترمتك.

أنا كنت بحاول أوصل لطريقة

من غير ما اترفض مره ثانيه

المرة دي كنت عايزها تشوفني أنا

مش مجرد عريس

كنت عايزها تشوف تميم

تميم الي حبها

بس مكنتش متوقّع إن ده اللي يحصل… وإن يوم ما أشوفها، أشوفها مرات غيري!

اتجوزت.

البنت اللي بحلم تكون مراتي… بقت لغيري.

فجأة كده… كل الأحلام اتهدت على رأسي.

وأنت كنت عارف!

إزاي تخبي عني؟ إزاي تعمل فيا كده؟”

قالها بتيهٍ شديد، كأنه لم يعُد يفهم ما يخرج من فمه.

هو فقط لم يعد يفهم شئ.

شحبت ملامح مدحت بشدة، وهو يرى تميم أمامه يصرّح بمشاعره لأول مرة.

أي حب؟ متى؟ وكيف؟ وأين ؟

لماذا لم يخبره؟

كيف يحدث ما يحدث الآن؟

هو لا يفهم.

أكان السبب؟

أكانت هناك فرصة لزواج ابنه وأضاعها هو؟

ماذا يحدث؟

تحرك ببطء يحاول أن يقترب منه، إلّا أن تميم تحرك للخلف قائلًا بمرارة:

ـ “فريدة… فريدة اتجوزت يا بابا.

البنت اللي بحبها… خسرتها.

خسرتها وبقت في حضن غيري… للأبد.”

قالها وغادر سريعًا، قبل أن تزرف عيناه دمعة طفت وأرادت التحرر،

فكان عقابها أن قُتلت في مهدها.

❈-❈-❈

ترك السيارة وغادر دونها.

لم يكن له قدرة على القيادة أبداً في هذا الوقت.

لم يكن يريد أن يفعل أي شيء، سوى أن يبتعد ويبتعد.

كيف يطفئ تلك النيران ويُمحِي تلك التخيلات بداخل عقله؟

كيف له أن يصمت تلك الكلمات؟

أن يمحوها ولو سيحرق نفسه ألف مرة.

ألا يحترق الآن، بل يكتوي بنيران الغيرة وهي تنهش قلبه.

كان يسير ويسير، لا يدري إلى أين تأخذه قدماه.

رنين هاتفه المتواصل دون أي توقف أخبره بقلق الجميع،

فلم يجد نفسه إلا وهو يخرجه ويغلقه تماماً.

لا هو راغب في الحديث، ولا هو قادر من الأساس.

وقف في منتصف الشارع، لا يدري أين هو حتى.

الحديث يتكرر أمام عينه دون توقف.

يريده أن يتوقف.

هل هو ضعيف؟

لا، لم يكن يوماً.

لكن أليس من حقه أن يحزن؟

وهو يرى أحلامه انتهت وتسربت من بين يديه.

لم يدرك أنه قد يكون بهذا الانهزام يوماً.

لم يدرك هذا إلا يوم واحد فقط

يوم وفاة أمه الحبيبة.

كانت خسارتها تساوي الكثير.

كانت خسارة حطمت بداخله الكثير، وجعلته آخر غير ما كان عليه.

تغير، ويعرف.

لكن خسارة الأحبة تحطم بداخلنا شيئاً لا يعود أبداً.

مهما تعايشنا، مهما ضحكنا.

تمر الأيام وتسير الحياة.

لكن هل يعود المفقود؟

لا فقط نتقبل رحيله بنفس راضية، منتظرين لقائه يوماً ما.

اليوم، تعود ذكرى خسارتها.

كم كان بحاجتها في تلك اللحظة.

فالآن، الخسارة أصبحت خسارتين.

وهو الخاسر في كل الأحوال.

هو الخاسر.

ألقي بنفسه في أول سيارة وقفت أمامه.

فلم يجد نفسه سوى وهو يخبره أن يأخذه.

لأكثر شخص هو بحاجه إليه في تلك اللحظة.

هو بحاجه لأمه الحبيبة.

بحاجه أن يخبرها ما لن يخرج لغيرها.

يخبرها بما في قلبه.

وكرجل يصعب عليه أن يعترف أنه يتألم،

فهو يعترف

أنه يتالم

وبشده

يريد أن يخرج ما في صدره،

عله يقدر على إكمال هذا الطريق دون خسائر أخرى.

❈-❈-❈

كان ما زال في منزله يجلس مع زوجتة حور والصغيرة شمس،

مقررًا أن اليوم لهم.

سيتحدث، سيفهم، وسيحل تلك المعضلة.

حور، امرأته وحبيبته، أنقى من كل تلك الأمور.

هي واحدة فقط تزرع بينهم تلك المشاكل،

ويجب أن يخرجها من علاقتهم .

في حياتهم الزوجية لا مكان لها بها.

تظل ام زوجتة فقط

لا دخل لها بهم

لا اكثر ولا اقل

كان يجلس معهم يشاهد أحد أفلام الكارتون،

وشمس تجلس بين أحضانه تشير له على التلفاز ببراءة،

وبكل مشهد تصفق بسعادة.

بالجانب الآخر، تنام حور على صدره،

تحاول الاستماع بكل لحظة معه.

هي لا تريد سوى تلك اللحظات،

أن تحيا معه كل السعادة ولا شيء غيرها.

لكن رنين هاتفه جعلها تتحرك بكسل،

تناوله له بهدوء، قبل وجنتها وهو يرد قائلاً بمرح:

“مساء الفل يا حبيبي، قول إني وحشتك صح؟

لكن صوت والده المرتعب جعله ينتفض،

يحمل الصغيرة ويضعها بين يدي حور،

وهو يقول بعدم فهم:

“اهدي يا بابا، أنا مش فاهم حاجة.

إيه اللي حصل مع تميم؟ مش فاهم.

فريدة مين؟ إيه؟ فريدة؟

إزاي؟ لا طبعا، مكنتش أعرف.

تميم مش سهل يعبر عن مشاعره،

وأنت عارف، هو بيحب يحتفظ بالتفاصيل دي لنفسه.

طيب طيب، أنا هحاول أوصله.

لو سمحت اهدي يا بابا عشان متتعبش.

أنا هوصله. حاضر، متخفش.

إن شاء الله هنلاقيه، مش هيحصل أي حاجة، متقلقش.

ربنا كبير يا حبيبي، يلا، سلام.

وأغلق الخط سريعًا، قبل أن يهاتف تميم بسرعة.

مرة بعد مرة بعد مرة، ولا إجابة.

حتى أغلق الخط.

ظل ينظر للهاتف، والقلق ينهش قلبه على أخيه.

أي حب وأي عشق؟

كيف حدث هذا وهو لا يعرف؟

انشغل لتلك الدرجة عن تميم.

انشغل بحياته حتى نسي ألم أخيه.

أتت حور من خلفه، تحمل ابنتها الباكية والتي تريد والدها،

وهي تسأل بقلق: في إيه يا حسام؟

عمو وتميم كويسين؟

ناظرها بتيه، قبل أن يحمل الصغيرة الباكية ويضمها إلى صدره،

وهو يردد:

“تميم… تميم محتاجلي في اللحظة دي.”

وتابع مؤكدًا وهو يرفع هاتفه في مكالمة جماعية لإخوته الثلاثة: تميم محتاجنا كلنا.

وما إن جاءت إجابة الجميع، حتى هتف بصوت قاطع لا نقاش فيه أبدًا:إحنا لازم كلنا ننزل مصر.

تميم محتاجلنا.

❈-❈-❈

وصل للمقابر،

ليسير وسط المقابر يقرأ القرآن حتى وصل للمقبرة الخاصة بعائلتهم.

وقف يتلمس الباب الحديدي قبل أن يجلس أرضًا، يفتح هاتفه ويضعه على القرآن بجانبه، وهو يجلس يدعو لها.

وما إن انتهى حتى وضع رأسه على الباب قائلاً بهم وكآبة:وحشتيني يا ماما،

وحشتيني أوي،

أنتِ متعرفيش أنا بخسارتك خسرت إيه،

والنهاردة زادت خسارتي.

عارفة أنا كنت مستني اللحظة المناسبة،

عارف إني اتأخرت،

بس معقول اتأخرت أوي كده؟

كنت مستني طريقة أشوفها بيها،

أعرفها عليّ،

إني حبيتها،

وإن آخر مرة شفتها فيها،

أنا مكنتش عايزها تمشي.

معرفش حبيتها إمتى وإزاي،

بس هي حركت جوايا حاجة محدش قدر يحركها.”

وأكمل بخفوت متذكرًا:

“ضحكتها،

أفكارها وجنانها،

متخيلة؟

كانت نفسها تطلع حرامية،

قالها وهو يضحك بخفوت،

ويمسح عيناه بحزن.

متخيلة كل ده في كام يوم؟

وأنا قلبي اتعلق،

حب،

وانغرم.

استني،

انتظر وصبر.

أنا صبرت لاني مقدرش أكون الشخص الي يلف ويدور على بنات الناس.

مقدرتش أعمل حاجة مابقبلهاش على إخواتي.

بس أنا كنت عايز أدخل البيت ده تاني من بابه.

كنت عايز أدخل، أنا اللي عايز.

مش مجبور،

ولا هي مجبورة.

كنت خايف أخد الخطوة، يجبّرها عليا.

كنت عايزها ومش عارف.

كنت خايف أصدر بابا يدبر معاد،

تتغصب،

وأكون بكرر الغلطة.

خوفي عليها من الضغط،

خوفي من إنها متتقبلنيش.

كان بياخرني يوم بعد يوم،

لحد ما ضاعت.

بقيت لغيري يا ماما،

بقيت في حضن غيري.

قالها بقهر وتأنيب:إزاي المفروض أكمل؟

إزاي المفروض أتخطى ده؟

وأنا الغيرة بتنهش جوايا.

إزاي أفكر في ست بقت متجوزة؟

إزاي أعمل كده؟

إزاي بين يوم وليلة اتقبل ده؟

اتقبل إني فقدتها خلاص.”

❈-❈-❈

تحركت آلاء بسرعة تخرج حقيبة السفر، والهاتف على أذنها تهاتف رامي الذي لا يرد عليها بكل برود.

وضعت كومة من الملابس الخاصه بها بسرعة، تتحرك هنا وهناك، تلملم كل ما هو ضروري لها وللأربع صغار.

سفرة لا تعلم كم ستطول، يوم اثنين عشره.

لا تعلم كم ستحتاج من الوقت هناك، وكم سيحتاج تميم لتخطي ما حدث والعودة على الأقل لمسار حياته الطبيعي.

هي خائفة تميم لا يسقط، وإن سقط، يعني أن الأمر كبير وتخطى حدود تحمله.

أخذت من آية ملابسها وهي تضعها بجانب ملابسها الخاصه بها، قبل أن تشير لعز أن يذهب حيث إخوته ويأتي بالصغير تميم لترضعه سريعًا.

قبل أن تقف تخرج جواز السفر الخاص بها ، وهي تقرر أن لو لم يظهر بحلول اليوم، ستسافر وليحدث ما يحدث.

هل ستنتظر ظهور المبجل من عزلته لتذهب لأخاها تميم؟ هو يلوي ذراعها، يعلم أنها لن تهاتفه كل هذا إلا وهناك مصيبة قد حلت علي رأسها ، وبدل أن يهرع إليها يري ما حدث.

ويطمئن عليها

يختفي بغباء، مقررا عقابها.

لا يعرف أنها لم تعد تهتم إلى أين يذهب، لكن هي مضطرة أن تخبره.

وفي نفس الوقت، أخاها تميم يحتاجها، وهي لن تتخلى عنه أبدًا أبدًا.

ألقت بنفسها على الفراش تجلس بحزن.

كيف حدث ما حدث؟ أخاها يحب وهي لا تعرف، لماذا لم يخبرها؟ لماذا لم يطلعها على سره؟

كان بجانبها دائمًا، وهي لم تنتبه له.

لم تنتبه لأي شيء.

لم يرد الزواج، وهي كانت تصر، تضغط عليه، تساعد والدها.

كانت تريد أن يتزوج وتري أطفاله، تريده أن يحب، لكن اتضح أنها بالفعل يحب أخرى.

أخرى يريدها زوجة وأم أولاده.

كيف كانت تريد فعل هذا؟ كيف غفلت عن كل هذا

غفلت عن قلب أخاها؟

أخاها الذي كسر قلبه، كسر ألف قطعة وقطعة.

وها هي بعيدة عنه، لا أحد يعرف مكانه.

هي لن تتخلى عنه، لن تسمح أن يأكل الحزن قلبه.

ليس تميم، لن تسمح بهذا أبدًا.

أفاقت على صوت الهاتف رفعته بسرعة وهي تفكر أنه رامي لتجده من يهاتفها حسام وهو يقول بهدوء: “أنا حجزت يا آلاء طيران.

خدتِ إذن جوزك عشان أحجزلك معايا؟”

ردت عليه بهدوء: “أحجزلي يا حسام، رامي مش بيرد عليا، ومش عارفة هيرجع إمتى.

أنا هسافر.

ويحصل الي يحصل .

صمت حسام لثوانٍ معدودة قبل أن يقول: “إنتِ عبيطة يا آلاء، عايزة تسافري من غير إذن جوزك؟

يعني يرجع البيت يلاقيه فاضي؟ يكلمك تقوليله أنا في مصر

بجد؟

متخلنيش أتعصب عليكي إنتِ كمان.

الجو مش ناقص والله، حرام عليكي إنتِ وأختك.”

تسآئلت باستغراب: “مالها ملك؟”

أجابها بتأفف: “بتنهار ومطلعه عين أنس جوزها اللي هيطلقها زي ما رامي هيطلقك لو سافرتِ من غير إذنه أن شاء الله.

قاطعته قائلة بتقرير: “بقولك معرفش فين، ومش بيرد. أعمل إيه يعني؟

الله أعلم هيجي إمتى.”

حسام، أنا مش هقدر أسيب تميم في الوضع ده.

لو محجزتليش هحجز، أنا.”

أجابها حسام بهدوء محاولًا التحكم في أعصابه: “آلاء، الوضع مش ناقص مشاكل وضغط.

أقسم بالله، مفيش سفر من غير إذن جوزك يا آلاء.

من إمتى وإحنا متربين على كده؟

اللي مقبلوش على نفسي، مقبلوش على غيري.

جوزك زي تميم وأمير.

فمتخليش أتعصب عليكي بقى.

افضلي وراه لحد ما يرد، أو يجي.

وقتها حتى لو أنا في مصر، هحجزلك وتيجي يعني متقلقيش. هفضل متابع معاكِ.

بس غير كده مش هينفع أبدًا.

آلاء لو سمحتي.”

تنهد بضيق قبل أن تجيبه قائلة بانزعاج: “تمام يا حسام.

هحاول أوصله.

سلام.”

وظلت هكذا تحاول الوصول له لنصف ساعة حتى أغلق الخط تمامًا.

ألقت الهاتف على الفراش.

رامي يعاقبها، وهي صبرها بدأ ينفذ ولا تقدر على التحمل.

لذا قامت لتكمل تجهيزاتها والصغار، منتظرة فقط عودته.

لتغادر بالصغار، فهي لا تريد أن يصل الخبر لوالدها مهما حدث.

لا تنقصهم همومها هي الأخرى.

ويجيب عليها أن تتماسك، ليس الآن.

ليس الوقت المناسب أبدًا.

صبراً يا رامي

❈-❈-❈

أسندها أنس بحنان بعد أن أفرغت كل ما في معدتها.

هي هكذا منذ سمعت الخبر، تبكي في انهيار تام تريد الذهاب لتميم.

تبكي وهي تخبره أنها مقصرَّة.

هو من وقف بجانبها حينما خسرت طفلها.

ساندها ولم يتركها أبدًا.

ترك أعماله وأشغاله وظل معها، لم يتركها أبدًا.

والآن أخاها حبيبها وأباها الثاني في ضيق وهي هنا بعيدة.

خرجت من الحمام تستند عليه، وحينما وجدت أن ساقها لم تعد تقدر على حملها،

مالت بثقلها عليه، تستند عليه بوهن ليحملها هو سريعًا بهدوء وضيق من وضعها،

قبل أن يضعها على الفراش.

يمسك يدها، يمسح على بطنها بقلق قبل أن يقول بحزم:

“ملك، اللي بيحصل ده غلط في غلط.

مفيش نزول مصر غير لما تفوقي لنفسك.

إنتي ايه اللي بتعمليه ده، إنتي بتأذي نفسك بانهيارك ده.

عشان تعرفي تسندي أخوكي، لازم تكوني قوية الأول وتكوني قادرة على ده.

مش يشوفك تعبانه وهتقعي من طولك فيشيل همك.

فوقي لنفسك وخدي نفس.

تميم عايزكم حواليه، ويكون وسطكم،

يرمي حمله عليكم مش يفكر في تعبكم واحد واحد.

ملك، تميم كويس، أزمة وتعدي.

تميم أقوى من كده.

تميم شاف كثير، وإنتي عارفة قد إيه هو مر بحاجات كثير.

وسبحان المعين قدر يقف تاني.

الضربة اللي مش بتموت بتقوي وتعلم.

خدي نفسك واعرفي أننا هننزل ونكون جمب تميم.

أنا مستحيل أحرمك من إنك تكوني جمبه.

تميم أخويا قبل ما يكون أخوكي.

أنا مستحيل اتخلي عنه أبدا.

وتابع بحنان:استني هنا عقبال ما أحضرلك الحمام، تخدي شاور وتغيري لبسك وترتاحي.

وبعدين تطلعي تكلي كويس، وتخدي الأدوية.

ونروح نكشف نطمن عليكي والبيبي.

ولو وقتها كنتِ بخير، هحجز الطيارة في ساعتها.

الرك عليكي، أوك؟

أجدعني يلا.”

ناظرته والدموع في عينها، لتمسحها سريعًا وتومي بسرعة موافقة.

راغبة في الذهاب لتميم بأي طريقة.

“مال عليها يقبل وجنتها بحنان بالغ، يحتضنها ويضمها إلى صدره مخبرًا إياها أن كل هذا سيمر.

قبل أن يغادر سريعًا.

لكنه عاد وقد جلب لها كوب عصير، وغادر مرة أخرى لتحضير الحمام لها.

لتظل هي مكانها تربت على بطنها،

خائفة وبشدة،

الخوف ينهش قلبها الصغير.

تخشى من تلك الخطوة.

الأفكار السيئة تحيطها.

كانت مقررة أنها لن تتحرك في حملها تلك المرة،

وجاءت مصيبة تميم تهبط على رأسهم من دون موعد.

وهي لا تريد أن تتركه.

كيف أصلاً تتركه؟

اخفضت عيناها تناظره بطنها تتحسها بحنان،

ليتحرك صغيرها فجأة.

ابتسمت بخفوت،

وهي تراه يتحرك داخلها معلنًا عن دعمه الكامل لها.

كأنه يخبرها:

“أنا هنا، أنا هنا يا أمي ولن أتركك.”

❈-❈-❈

وصلت فريدة إلى المنزل تحمل بيدها عدَّة حقائب، وعمر خلفها يحمل أيضًا حقائب أخرى. فقد مرَّوا بأحد المتاجر لجلب لوازم ناقصة للمنزل.

وضعت الحقائب من يدها أرضًا وهي ترى لوزة تقترب منها بسرعة. انحنت نحوها تحملها بدلال، تقبّلها وتداعبها، وهي تدللها قائلة: قلب ماما، إنتِ وحشني يا ناس. روحي أنا الحلوة إلي قلبَظ.”

قالتها وهي تتحسَّس بطنها المنتفخة.

ليأتيها رد عمر الساخر وهو يقول: طبعًا من الحش ليل نهار. مش كفاية كلت السمك كله لوحدها، بنت الطفسة. كرشها بقى أكبر من كرش كرومبو.”

ناظرته لوزة بقرف وهي تحاول التحرك من بين يدي فريدة للهجوم عليه.

الا أن فريدة مسدت عليها مهدئة إياها

تراجع هو قليلاً للخلف بعيون متسعه، وهو يقول بقلق: هي فهمت أنا قلت إيه؟ إزاي؟

هزَّت رأسها بنفي وهي تقول بتأكيد: لا طبعًا، مفهمتش. هي بتعمل كده كل ما بتسمع صوتك. بتكرهك لله في لله يا حبيبي.

وأكملت وهي تتحسس ظهرها: آه يا ضهري، مش قادرة حقيقي.

وأكملت وهي تتثاءب: عايزة أنام قوي.

نظر عمر لساعته بدهشة وهو يقول: “هتنامي دلوقتي؟ لسه بدري! مش هتكلي؟

هزَّت كتفها وهي تقول: “الحقيقة مليش نفس. بس عايزة أنام. النوم بقى كابس عليا ليل نهار. بحس إني مش قادرة أقوم.

هزَّ رأسه رافضًا وهو يقول: ارمي البتاع دي في الأوضة وتعالي اعملي أكل ناكل ونسهر سوا. هو دلوقتي برضه وقت نوم؟”

ناظرتها بضيق من نعت لوزة بالزفتة، وهي تقول بحزم: “متقوليش زفتة يا عمر. لوزة بنتنا.

اتسعت عينا الآخر وهو يردد الصدمة: “بنتنا؟ مين دي اللي بنتنا؟ دي قطة بكرش بتاكل أكلي وبتنام على سريري ببجاحة، وبتخليني أنام على الكنبة بسببها.

إجابتها بتأكيد حازم: “أيوة قطة بس أنا بربيها، وهربي البيبي بتوعها. لازم تتقبل وجودهم. مش طبيعي ليل نهار تهين فيها. دي قطة وليها مشاعر.”

“أنا هدخل أغير وأجي أحضِّرلك أكل.

وغادرت تحمل لوزة تضُمها لصدرها.

ليراها تناظره بعيونها شريرة وفريدة تحملها، كانها تخبره: “أنظر، أين أنت وأين أنا.

وهو يقف في مكانه يناظر دخولها للغرفة بغيظ.

يفكر فعليًا أن يكون الغداء القادم وعاء ملوخية بالقطط.

❈-❈-❈

كانت تجلس تغلي غضبًا

وهي ترى زوجها يتحرك هنا وهناك، يجري عدة اتصالات تخص العمل.

يريدها هي أن تعود لمصر قبله ويلحقها هو بعدها بعدة أيام بسبب انشغاله الشديد.

وقفت تصيح بغضب بعد أن أغلق المكالمة، وهي تقول: “أنا مش موافقة على اللي بيحصل ده.

يعني أخوك أنت في مشكلة،

بدل ما تنزل تقف معاه.

عايزيني أنا اللي أنزل بالولاد الأول،

عشان أثبت حضورك يعني،

وأنتي تحصلنا.

ده على أساس أني أنا كمان مش مشغولة.

أنت عارفة أنا في الأيام دي هخسر قد إيه،

وشغلي هيتأثر قد إيه.

انزل أنت حر،

أنت مالك بيا.

هو أخوك ولا أخويا، أنا مش فاهمة.

واكملت بعصبية مفرطة: “بطل بقى أنانية يا أمير،

مش عايز تنزل اعتذر،

بس متجيش عليا.

أنا مالي ومال مشاكل أخوك؟”

قاطعها بعصبية أكبر: “إيه المشكلة لما تنزلي كام يوم قبلي وأنا أحصلك؟

هيحصل إيه يعني؟

ده كله عشان بقولك عندي شغل مهم لازم يخلص،

ومينفعش نفضل كلنا.

لازم حد ينزل ينوب عني.

مش طبيعي كل أخواتي بعيلتهم هناك،

وأنا لا.

انزلي كام يوم أنتي والولاد بس،

وأنا هاجي في أقرب وقت.

لو عايزة تسيبي الولاد عند بابا تمام،

وروحي مكان ما أنتي عايزة، اعملي كده أنتي حرة.

المهم حد من طرفي هناك.

إيه اللي يزعل في كده؟

شليني بس كام يوم،

صعب أوي كده يا يارا”.

إجابته مؤكدة: “صعب لأنك بتيجي عليا وعلي شغلي عشان خاطرك، وخاطر شغلك.

دائمًا شايف نفسك أهم،

شغلك أهم،

حياتك أهم.

ليه بأي حق؟

صمتت تلهث بشدة وغضب.

ظل يناظرها عدة ثواني بغضب هو الآخر،

كانه لا يطيق أحدًا في تلك اللحظة.

قبل أن يقول بصوت قاطع: “تمام يا يارا،

ده اللي يريحك.

أني أنزل معاكي”.

واكمل بعصبية: “يولع الشغل عشان ترتاحي.

ارتاحي بقى،

وجهزي نفسك.

كلنا هننزل مصر”.

وقبل أن تنطق كلمة أخرى،

قال بتقرير حاسم: ده آخر كلام عندي.

أكثر من كده مش هتحبي اللي هيحصل.

وغادر الغرفة سريعًا.

لتظل هي في محلها،

تكاد تحطم المنزل على رأسه.

تغلي غضبًا.

ها هي مضطرة أن تغيب عن عملها بسبب أخ زوجها المصون.

حسنًا يا أمير.

مسحت وجهها بتعب شديد وغضب،

قبل أن تتحرك لتحضر الحقائب.

فحان موعد العودة للوطن.

للأسف.

❈-❈-❈

كانت تجلس على الأريكة تحتضن لوزة النائمة على ساقها تتمتّع بدلالها.

وهذا بعد نقاش دام لنصف ساعة معارضًا على وجودها من الأساس.

وافق مرغَمًا وهي تخبره أن لوزة حامل وهي تخاف عليها بمفردها، وإلا ستضطر أن تجلس معها.

جلس خلفها بعد أن أحضر علبة البيتزا، وهو يفتحها يمد لها قطعة لتأكلها.

إلا أنها أبعدت فمها شاعرة بالغثيان لوهلة، وهي تقول بنفور تناظر الطعام بضيق:

“مش قلتلك متجبش النوع ده يا عمر؟

مش بحبه.”

هز كتفه قائلًا بتأكيد:

“بحبه يا فريدة، قلت تجربيه، المطعم ده بيعملها حلو أوي.”

أعادت رأسها لصدره وهي تهز رأسها رافضة، قبل أن تقوم قائلة بعدم قدرة على تحمل الرائحة:

“لا، مش قادرة أشم ريحتها. مش حباها أبدًا.

بص، كل انت عقبال ما أعمل كاكاو. أوكي؟

قالتها وهي تغادر سريعًا، تفكر أنها أصبحت ذات معدة حساسة للغاية منذ زواجها.

الطعام لا يناسبها أبدًا.

زيوت ودهون ثقيلة على معدتها.

أصبحت تعاني وبشدة وهي تتناول أي لقمة.

دلفت للمطبخ تخرج الحليب وعبوة الكاكاو لتحضر كوبين لهما.

وفي خضم انشغالها،

لا تدري لماذا تذكرت مقابلتها بتميم اليوم.

فلم تجد نفسها سوى وهي تمسك هاتفها ترسل لسارة:أنا قابلت تميم النهاردة.

وأغلقت الهاتف سريعًا.

تعلم أن سارة لن تتركها اليوم حتى تعرف التفاصيل.

وهي لا تستطيع التحدث وعمر بالمنزل.

فهو إلى الآن،

لا يعلم إلا أن تميم ابن شريك والدها.

لا يعلم أنه كان الزوج المنشود لها.

ولن يعلم أبدًا.

❈-❈-❈

انتفضت بفزع وهي تشعر بيدين تحاوط خصرها تضمها لصدره بحنان.

تنهدت وهي تضرب صدره قائلة بضيق: “خضتني يا عمر، الله يسامحك.

إيه اللي جابك؟

كنت هعمل الكاكاو وجاية.

يلا روح كل، عقبال ما أخلص.

قالتها وهي تمزج المكونات ببعضها.

إلا أنه أمسك يدها يمنعها من المتابعة،

وهو يلف جسدها لتصبح أمامه قائلًا بصوت هادئ:

“عايز أتكلم معاكِ في حاجة بس من غير زعل، تمام؟

هزت رأسها موافقة وهي تناظره بشك.

حسنًا، واضح أن القادم لن يعجبها أبدًا.

ظل يناظرها لدقيقة، لا يعلم كيف يخبرها ما يريد.

لقد هاتف عمته منذ دقائق ليصلح ما حدث بينهم،

لتخبره هي أن يأتي بزوجته مرة أخرى،

فمهما حدث لن تسمح أن تصير القطيعة بينهم أبدًا،

ففي النهاية هي أمه وهو ابنها،

وأغلقت معه.

بداخله يشعر بسعادة شديدة راغبًا في تبديد ذلك الخلاف بأي ثمن،

لكن المشكلة ليست به،

بل بزوجته،

فريدة.

عض علي شفتاه بتوتر قبل أن يقول بهدوء وهو يمسك يدها يقبلها:

“فريدة،

أنا كلمت عمتي وهي عزمتنا عندها عشان نحل الخلاف اللي حصل.

اتسعت عيناها بضيق،

قبل أن تحاول أن تبعد يدها من بين يديه.

إلا أنه تشبث بها قائلًا برجاء:

عشان خاطري يا فريدة، عشان خاطري، عمتي في مقام أمي.

أنا مقدرش أقاطعهم أبدًا،

ومينفعش أروح من غيرك.

إنتِ مراتي،

إزاي أروح من غيرك؟

أوعدك مش هيحصل أي حاجة،

أوعدك كمان أننا نروح في وقت مفيش حد غير عمتي في البيت،

لحد ما الموضوع ياخد وقته ويعدي،

والكل يتخطاه.

عشان خاطري يا فريدة،

لو بتحبيني وافقي.

أوعدك ما هيحصلش أي حاجة تضايقك.

خليكي واثقة فيا.

وتابع بتساؤل:

واثقة فيَّ؟

ظلت تطالعه لدقيقة كاملة،

وهي تتساءل:

هل تثق به أم لا؟

سؤال أصبحت إجابته صعبة للغاية.

أصبحت تخشى كل شيء يحدث.

أصبحت لا تفهم،

ولا تعرف كيف تتصرف.

هل تتمرد،

أم تمسك العصا من المنتصف؟

لكن ومع اعتذاراته الكثيرة،

لم تجد نفسها سوى وهي تقول بحزم:

بص يا عمر، أنا هاجي احترام ليك عشان إنت جوزي،

ومحبش ابدا أصغرك،

بس لو حصل أي حاجة…”

قاطعها قائلًا بتأكيد:

“متخفيش،

مش هيحصل أي حاجة خالص.”

تنهدت بضيق،

ليضمها إلى صدره يشكرها ويقبل وجنتيها بقوة،

جعلتها تضحك بصوت عالٍ،

قبل أن يساعدها في إعداد الكاكاو،

ويخرجا معًا للخارج والابتسامة على وجوههم.

ابتسامة اختفت تدريجيًا،

وهي تري هناك،

على الطاولة الصغيرة،

تجلس لوزة بكل راحة وهدوء تأكل آخر قطعة بيتزا من العلبة

بعد أن قضت عليها تمام،

ولم تترك بها أي شيئًا.

ولا اي شي.

أكلتها كلها.

ويبدو فعلًا أن الغداء القادم سيكون ملوخية بالقطط.

❈-❈-❈

كان مدحت يجلس على المقعد، يضع يده على رأسه، يهاتف تميم للمرة التي لم يعد يعلم عددها،

وبجانبه منير يحاول أن يعطيه دواء الضغط الخاص به،

يخاف وبشدة أن يسقط منه بأي لحظة،

فوجهه الشاحب،

وجسده المرتعش،

يرعبه حقًا.

طول اليوم،

الجميع يحاوطه بالاتصالات للاطمئنان عليه.

رفع مدحت يده يمسح وجهه بتعب ورعب،

وهو يفكر بجنون:

تميم لا يرد.

الوقت تأخر.

ماذا يفعل؟

لن يأتي حسام سوى غدًا صباحًا.

ماذا يفعل؟ يكاد يجن.

أين هو حتى الآن؟

رفع الهاتف على أذنه مرة أخرى،

وهو يدعو الله من قلبه

أن يرد عليه،

فقط ليرد ويطمئن قلبه.

وفجأة فتح الخط،

لينتفض من محله وهو ينادي برعب:

“تميم، انت فين يا ابني؟”

إلا أن من أجابه لم يكن تميم.

كان صوت آخر لم يعرفه حتي.

حتى أنه أبعد الهاتف عن أذنه يتطلع للرقم باستغراب ليتأكد.

وحين تأكد أنه رقم ابنه، أعاده إلى أذنه،

قائلًا باستغراب ورعب، وهو يشعر بضربات قلبه تزداد:

“ابني تميم فين؟”

أتاه الصوت الهادئ وهو يقول:

“حضرتك والد أستاذ تميم؟”

أجابها بصوت يكاد يكون مسموعًا من شدة الرعب:

“أيوة.”

“لو سمحت يا ريت تيجي مستشفى … بسرعة.

أستاذ تميم اتعرض لحادثة