رواية بين الرفض والقدر (عريس قيد الرفض) الفصل الثالث والعشرين 23 بقلم عفاف شريف
بين الرفض والقدر

❈-❈-❈
إذا اشتدتْ بنا الأيامُ واشتعلَ الظلامُ،
نهيمُ كأننا أوراقُ خريفٍ،
تُصارعُ الريحَ، ترجو السلامَ.
تلك هي النجاةُ، صرخةُ الروحِ فينا،
حين ينهارُ الأملُ ويغيبُ اليقينُ.
نقفُ رغمَ الوجعِ، رغمَ الانكسارِ،
كجبالٍ في وجهِ الريحِ، نصونُ الحنينَ.
نسيرُ على دربٍ قاسٍ، مكسورَ الخطى،
لكنَّ القلبَ يقاتلُ كي لا ينحني.
نغزلُ من حطامِ الأمسِ أجنحةً،
ونحلمُ بالضوءِ، نرجو المُنتهى.
هي محاولاتُنا تلكَ، هزائمٌ وانتصارُ،
هي الشوكُ والوردُ، هي الألمُ والفرحُ الجارحُ.
نكتبُ اسمَنا في وجهِ القدرِ،
ونعلمُ أن النجاةَ هي الرحلةُ، لا النصرُ.
❈-❈-❈
دثَّرت الصغار جيدًا بعد أن أهدت كل واحدٍ منهم قُبلةً حنونةً مُشتاقة، وظلَّت تُطالعهم لعدَّة دقائق.
هؤلاء جوهرة حياتها، مهما شعرت بالألم، مهما شعرت بالوَحدة، معهم تشعر بالدفء والحنان والحب، وكل المشاعر التي يتمناها الجميع.
لكنها تتألَّم وإن أنكرت.
نظرت إلى هاتفها بابتسامة ساخرة موحشة، وهي تفكر لم يُكلِّف نفسه حتي أن يُحدِّثها، لا ليطمئن عليها، ولا على أولاده، ولا حتى على أخيها المُلقى في المشفى.
أخيها الذي سانده بالكثير من الأمور، ودعمه في عمله دون تردُّد، الآن تناسى كل هذا ولم يتذكر أي شيء، بكل عينٍ وقحة!
تحرَّكت ببطءٍ وحِرصٍ شديد، تحمل أكواب الحليب بعد أن انتهى منها الصغار، وهي تخرج متوجهة نحو المطبخ لتضعها، وتعدَّ لها أي شيء لتأكله، علَّه يملأ فراغ معدتها.
وما إن وصلت هناك حتى وجدت يارا تجلس تشرب فنجان قهوة بشرود، حتى إنها لم تلاحظ دخولها، إلا بعد أن وضعت الأكواب وأصدرت صوتًا، فاجفلت، تسمِّي الله.
تناظرها بطرف عينها قبل أن تنظر إلى الأكواب متسائلة بهدوء:
ـ دول كانوا للولاد؟
أومأت لها بصمت، لتصمت هي الأخرى مفكرة.
مراد ومريم لم يشربا الحليب اليوم، فحور كانت المسؤولة عنهم كل يوم، وبعودة الكل للمنزل مرة أخرى، أصبحت كل أمٍّ مسؤولة عن صغارها، وهي لا طاقة لها بتلك الأمور.
هي تفكر بطريقة مختلفة، تسعى لتوفر لهم حياةً تجد مَن يفعل لهم هذا، وهي تراقب من بعيد بهدوء.
هي مختلفة عن حور وآلاء، فقد رسَّخت كلٌّ منهما حياتها للبيت وللزوج وللاطفال، وفي النهاية… لا أمان.
هي قوَّتها في عملها، عملها فقط.
أطفالها أفضل أطفال، أفضل تعليم، وهي لا تُقصِّر معهم، وطالما لا تُقصِّر، إذن هي في الطريق الصحيح.
كانت تُراقب آلاء وهي تتحرك، تفتح المُبرِّد، تُخرج عدة عُلب، قبل أن ترفع وجهها تسألها بهدوء:أعملك معايا سندوتشات؟
هزَّت يارا رأسها تقول برفض واستنكار: الأكل بليل بيتخن، خافي على وزنك.
نظرت آلاء إلى علبة المخلل بيدها قبل أن تسألها بغباءٍ ممازح: وهو هيعرف منين إننا بليل؟
انفلتت من يارا ضحكة ساخرة وهي تهز رأسها بيأس، قبل أن تقول بلا مبالاة: ولا أقولك… اعملي.
ضحكت آلاء بمرح وهي تُخرج الخبز، وتُجهِّز طبقًا كبيرًا يملؤه الشطائر وكوبين من الشاي بالحليب.
قطعت تفاحًا، وأخرجت فِراولة وتوت، وعلبة المخلل بالطبع كانت أولهم، وفي النهاية علبة المثلجات.
اتسعت عينا يارا وهي تُشاهد الأطعمة التي لا تمتُّ لبعضها بصلة، قبل أن تسألها بتوجُّس: إيه كل ده؟ إنتي ناوية تنتحري؟
هزَّت آلاء رأسها نفيًا، وهي تلتقط شطيرة الجبن المشوي وقطعة المخلل، تلتهمها بجوع وهي ترد بفم ممتلئ: لا، بس صدقيني… أكل اليوم كله كوم، وأكل بليل ده كوم، ليه طعم خاص، مميز، ودافئ.
قالتها وهي تحمل كوب الشاي بالحليب، ترتشف منه رشفة، متنهده بسعادة.
ابتسمت لها يارا وهي تمد يدها بتردد، تحمل شطيرة هي الأخرى، وهي تتساءل كم سعرًا حراريًّا فيها؟
إلا أنها، وما إن قضمت منها قضمة، حتى تأوَّهت بسعادة، تلحقها رشفة من كوبها هي الأخرى.
ورغم بساطة الجلسة مع أخت زوجها، إلا أنها كانت مرتاحة البال، دون التفكير في العمل.
وكم كان هذا هادئًا ومريحًا!
وبداخلها، ومن هنا والآن… بدأ الصراع.
❈-❈-❈
كانت تقف أمام المرآة، تعدل من وضع خصلاتها، تنظر إلى منامتها الرقيقة، وهي تلتفت لتنظر إلى ابنتها الجالسة، تشاهدها بابتسامة جميلة كجمالها.
اقتربت منها، تحتضنها بحنان، قائلة بابتسامة سعيدة:
ـ انتي وحشك بابا يا شموس؟
ـ وحشك يا صغنن يا حلو؟
هنقضي الليل كله مع بابا، نتفرج على فيلم، ونلعب.
ضحكت الصغيرة، لكن ليس لها، بل لمن يقف خلفها يُطالعها بحنان.
التفتت تنظر إليه بعد أن أنهى مكالمته الهاتفية، ليقترب منها، يحمل الصغيرة، يقذفها للأعلى عدة مرات، لتضحك هي أعلى وأعلى، وتقف هي تشاهدهم بعين مرتاحة مطمئنة.
تضم يدها إلى قلبها، تدعو الله من كل قلبها أن يديم تلك الضحكة لتنير حياتها.
نظر لشرودها متسائلًا بهدوء:
اخترتي الفيلم اللي هنتفرج عليه؟
أومأت له بحماس، تخبره عن أحد الأفلام الأجنبية، فابتسم لها واقترب، يُقبِّل وجنتيها، قبل أن يجلسا، والصغيرة في المنتصف، لمشاهدة الفيلم المنشود.
وبعد عشر دقائق كاملة، انطلقت شمس في بكاء، رافضةً لهذا الفيلم المُمل، وهي غاضبة… وبشدة!
ولأجل عيون الأميرة شمس، تم تغيير الفيلم، وكانت السهرة برعاية سندريلا، يضمها والصغيرة في المنتصف، تُشاهد الفيلم بكل سعادة.
وحور تفكر… ربما لم يكن فيلمها المفضل، لكنها تحيا حكايتها الخاصة، وهذا بأكثر من كافٍ بالنسبة لها.
❈-❈-❈
بعد ثرثرة طويلة مع يارا، صعدت كل واحدة منهنَّ إلى غرفتها.
دلفت، تحرِّك رأسها يمينًا ويسارًا بألم. كم كان يومًا مرهقًا متعبًا، والصداع فعليًّا أصبح رفيقًا لها.
لولا مساعدة حور، لما استطاعت أبدًا أن تزور تميم اليوم.
حسنًا، والآن، فلتنال قسطًا وفيرًا من الراحة.
تسطَّحت بحرص بجانب الصغار، وأمسكت هاتفها، تُقلِّب فيه بشرود، تُراجع الرسائل، تردُّ على مَن راسلها، تتفقد الإشعارات، واحدًا تلو الآخر.
اعتدلت سريعًا، منتفضةً فعليًّا، وهي تتسمر أمام رسالة من حسابها البنكي المشترك، هي ورامي، وقد تم سحب مبلغ …….
وضعت يدها تكتم شهقتها، وهي ترى المبلغ، والذي كان مُخططًا أن يكون ثمن الشقة التي كان من المفترض أن يتم شراؤها، لضيق المكان الحالي عليها وعلى الصغار.
أيُمكن أن تكون غلطة من البنك؟ كيف أصلًا؟
أسرعت تهاتف رامي برعب.
ماذا حدث؟ تكاد تجن!
هذا المبلغ جمعته هي بشقِّ الأنفس، تحرم نفسها من الكثير من الأشياء لأجل أن تنتقل إلى بيت أكبر حجمًا.
ماذا يحدث؟! ماذا حدث؟!
نزعت الهاتف من على أذنها، وهي تكاد تجن… لقد رفض المكالمة!
أيُّ غبيٍّ تزوجت؟!
إن قتلها أحد، فلن يشعر بها!
إلا أنها لم تستسلم، هاتفته مرة أخرى، اثنتين، ثلاث، أربع مرات… وهو يُغلق في كل مرة!
وبعد عشر دقائق كاملة، كانت خلالها تنظر إلى الهاتف بجمود، وقلبها على وشك التوقف من شدة الرعب، وصلتها رسالة باهتة مختصرة، يتساءل فيها عن سبب الاتصال.
ردَّت سريعًا، تتساءل عن المال:
جالي رسالة إن اتسحب من الحساب …..
وقبل أن تتابع الكتابة، لتخبره أن يذهب إلى البنك سريعًا ليتفقد الوضع، وهي ستأتي بأول طائرة، أتاها الرد سريعًا، وهو يخبرها ببساطة:
ردَّت بسرعة وهلع:
إيه؟! ليه؟! إزاي أصلًا تسحبه من غير ما تقولي؟!
وأتاها الرد أسرع، وهو يخبرها بهدوء:
واقولك ليه ؟ الفلوس فلوسي، أسحبها، أحرقها؟!
ومترنيش عليا تاني، أنا مش فاضي، نتكلم بعدين.
رفعت الهاتف على أذنها، تتصل، تنوي أن تفعل أي شيء غير أنها تبقى صامتة… لكنه كان مغلق.
وظلَّت هي في محلها، تنظر إلى اللاشيء، وبداخلها يحترق.
قلبها يحترق، وهي تتساءل بداخلها بجنون:
سحب هو المال؟!
المال الذي ضحَّت لأجل تجميعه بالكثير…
الكثير من الراحة، والصحة الجسدية والنفسية…
الكثير مما أرادت… والكثير مما تخلَّت…
كيف له؟! كيف له أصلًا؟! وهي لها في هذا المال أكثر مما له هو حتى!
تلك أموال كان يرسلها لها إخوتها، تحديدًا وأكثرهم تميم، وبدلًا من أن تُنفقها وتُريح نفسها وجسدها المُنهك، كانت تضعها في حسابهم المشترك، لكي لا تُشعره بالدنو أبدًا، وأنها أعلى منه شأنًا.
جمعته لهم، لتبني مستقبل أبنائها، غافلةً أنها تضعهم في فم الذئب!
لا، بل في فم كلبٍ أجرب، نهش حقها دون حق!
كلبٌ وضيع، لم يَصُن أيَّ شيء!
وفي غمضة عين، دمَّر هو كل هذا… دون أي رحمة.
❈-❈-❈
الصباح ليس مجرد شروق شمس، بل بداية جديدة تحمل في طياتها احتمالات لا نهائية. هو اللحظة التي يتردد فيها العقل بين الاستمرار فيما كان أو بدء طريق مختلف. في هدوئه تُصنع القرارات، وفي نوره تتجدد الأحلام المؤجلة. بعض الصباحات تأتي محمَّلة بالإلهام، وأخرى تثقلها الذكريات، لكن جميعها تمنحنا خيارًا واحدًا: أن نمضي، مهما كانت البدايات، ومهما كانت النهايات التي تنتظرنا.
كانت ما زالت في محلها، لم تُغمض عينيها ولو لوهلة، لم تقدر أصلًا.
بكت كثيرًا، حتى اكتفت، ولم تجد المزيد من الدموع لتهدرها، فصمتت وتجمدت.
كان أحدهم قد أسقط عليها دلو ماء بارد في أشد الأيام برودة.
لقد ظلَّت طوال الليل تفكر في الخطوة القادمة… هل ستخبر أباها؟
والاسئلة قاتلة
أغلقت عينيها، تشعر بالألم، وهي تسمع صوت بكاء تميم يعلن عن استيقاظه.
تحركت من فراشها، تشعر بكل عظمة فيها تصرخ ألمًا، حملته، وظلَّت تهدهده.
تبعها استيقاظ الصغار واحدًا تلو الآخر، آية وإيلا تحركتا سريعًا إلى الحمام كالمعتاد، وعز ما زال في مكانه، يستوعب ما يحدث حوله.
وحينما زاد بكاء تميم، ألقى بنفسه للخلف مرة أخرى، واضعًا الوسادة على رأسه في رسالة واضحة أنه لا يريد ضوضاء.
تحركت هي تخرج الملابس لهم جميعًا… ولها، فهي بحاجة إلى حمام طويل، لعله يزيل أثر إرهاقها.
وقبل أن تلتفت لتوبخ عز ليتحرك، قاطعها صوت طرقات الباب ودخول ملك، التي أهدتها ابتسامة مشرقة، تردد بهدوء: صباح الخير يا لولو.
حاولت آلاء رسم ابتسامة، إلا أنها لم تقدر.
راقبتها ملك باستغراب، قبل أن تقترب منها، تحمل الصغير الباكي عنها، وهي تمسك يدها، تجلسها على الفراش، ثم تجلس بجانبها، قبل أن تتساءل بقلق: في إيه؟ مالك؟
أطرقت آلاء بوجهها، ثم قالت بصوت خافت، تائه، كأنها لا تعي: أنا مابقتش عارفة المفروض أعمل إيه يا ملك… مابقتش فاهمة، وحاسة إني تعبت… تعبت أوي.
طيب، المفروض إيه اللي يحصل دلوقتي؟
طيب، ما أنا كنت أصلًا مستنية من بدري… ليه في وجع كده؟ ليه في كسرة نفس على سنين عمري كده؟
هل أنا ما استاهلش؟ ولا هو اللي كان وحش أوي كده؟
قطبت ملك حاجبها باستغراب، وهي تتساءل:
حصل إيه يا بنتي؟ إنتي اتخنقتي مع رامي ولا إيه؟ احكيلي، أنا هنا.
ابتلعت شيئًا مؤلمًا في حلقها، وهي تنظر إلى عينيها القلقتين، لا تعرف ماذا تقول.
تخاف، ملك ستنهار، هي حسَّاسة للغاية، مشاعرها مرهفة، لن تتحمل.
أو يمكن هي من ليست مستعدة لتلك الخطوة بعد.
تتأخر… فتتألم، ولا مفر من النهاية إلا إليها.
هي فقط تزيد من ألم نفسها، لكنها لن تتحدث حتى ترتب أوراقها.
لن تهرب، ليس بعد الآن، بل ستواجه.
ستأخذ حقها وحق صغارها… لكن وحدها.
هي بحاجة لاسترداد كل شيء بنفسها.
لذا، سحبت نفسًا عميقًا، تكتم في قلبها… تكتم الكثير، قبل أن ترد بهمْس خافت، متألم:
أنا كويسة يا حبيبتي، بس مضغوطة من اللي بيحصل.
كانت ملك تراقبها بعين قلقة، هناك شيء بينها وبين رامي، واضح للأعمى، لكنها تصمت.
لا تشاركها… أو تشارك أي أحد حتى.
إلا أنها لم تحب أن تزيد من الضغط عليها، على الأقل في الوقت الحالي، فأمسكت يدها، تجذبها لتحتضنها، هي والصغير، الذي هدأ تمامًا.
وانصاعت الأخرى لها بصمت… وبعينيها دمعة لم تسمح لها بالانزلاق.
كفاها… كفاها ما ضحت به.
❈-❈-❈
أخذت ملك الصغار وخرجت من الغرفة، ليقابلها أنس، الذي كان لتوّه يبحث عنها، ناظرًا إليها بيأس وفقدان أمل وهو يراها تحمل الصغير تميم المشاكس.
اقترب سريعًا ليحمله عنها، وقبل أن يفعل أي شيء، كان الصغير يرحب به بصفعة على وجهه.
نظر إليه أنس بحاجب مرتفع، مصدومًا، ليزمّ تميم شفتيه قبل أن يهديه قبلة ليراضيه.
انفجرت ملك ضاحكة تحاول أن تكمم فمها، فنظر لها قائلًا بتوبيخ: ينفع كده؟ مش هتستريحي غير لما يحصل حاجة صح؟
غطت فمها تضحك باعتذار، ليتابع بضيق: ملك، لو سمحتي، خدي بالك.
أومأت له وهي تبتسم بهدوء، قبل أن يمد يده يتحسس بطنها قائلًا برفق: خلاص هانت، ويجيلنا بيبي حلو وصغنن زيك يا تيمو. عشان كده، لو سمحتي، خلي بالك من نفسك… ومنه.
قالها وهو يقبّل وجنتها بحب، فاحمرّت وجنتاها وهي تشير للصغار بخجل، ليضحك هو بقوة، قبل أن ينظر لتميم بحنان، ليهديه هو الآخر ابتسامة بديعة.
راقبه أنس بحنان وهو يضمه إلى صدره، داعيًا الله من قلبه أن يحفظه ويحفظ صغيره، وأن يرزقه ضمّه عمّا قريب.
اقتربت ملك منه تحاوط خصره، ليهبطوا للأسفل بحرص، وأمامهم الصغار، ليلحقوا بالإفطار.
ولم يروا يارا، الواقفة خلفهم، تكاد تغلي غضبًا وغيرة، وهي تنقل عينيها إلى الغرفة، حيث يجلس زوجها يتابع حاسوبه بانشغال… عنها، وعن الصغار، والعالم كله.
بعد قليل، هبطت آلاء تدلف سريعًا إلى المطبخ، ألقت السلام على حور وملك، وبدأت في باقي التحضيرات بصمت، فلا طاقة لها لأي شيء.
انضمت يارا بعد قليل، وخلال نصف ساعة، كان الجميع على مائدة الإفطار، ومدحت يراقبهم بعين خبيرة.
لقد أمضى ليلة أمس كاملة يفكر في الكثير، وقد اتخذ القرار.
وكان أولها أن نظر بجانبه لأمير، المنشغل كعادته، ومال عليه قائلًا بهمس وحزم هادئ: “سيب الموبايل يا أمير، ومن النهارده العادة دي تنتهي. دي بالكثير نص ساعة بتقضيها مع أهلك ومراتك وولادك، مش للدرجة دي يعني. ادي كل حاجة حقها، اتفضل، شيل الموبايل ده، آخر مرة. احترم الأكل على الأقل.”
نظر إليه أمير بغيظ شديد، إلا أنه، ورغم سنّه ومكانته، لا يحب أن يرفض طلبًا لأبيه، لذلك أغلق الهاتف ووضعه في جيب سترته، تحت نظرات يارا المتعجبة.
ابتسم مدحت بهدوء وهو يتابع تناولهم الطعام، وأمسك كوب الشاي يرتشف منه، قبل أن يقول بهدوء وابتسامة: إن شاء الله، احتمال كبير تميم خارج النهارده من المستشفى. الدكتور قالي إن لو كل النتائج، سواء أشعة أو تحاليل، كانت كويسة، هيروح معانا إن شاء الله، وهيرتاح شوية في البيت لحد ما يبقى قادر يرجع زي الأول وأحسن، إن شاء الله.
وتابع بسعادة: أخوكم هينور البيت تاني.
شهقت آلاء بسعادة، بعيون دامعة، تشعر بقلبها على وشك التوقف من شدة الفرح، لتحتضنها ملك، وهي تكاد تبكي هي الأخرى، والجميع يردد بلسان مرتاح أخيرًا: الحمد لله.
ابتسامات غابت لأيام، واليوم حلّت مجددًا، منيرة وجوه الجميع.
أخيرًا، سيعود تميم… أب وأخ وصديق لكل منهم. سيعود.
راقبهم مدحت بعين سعيدة، وقبل أن يتساءل حسام متى سيذهبون، تابع بعدها بحزم: النهارده إن شاء الله، أنا هروح لوحدي.
وقبل أن يعترض أحدهم، رفع يده يكمل بإصرار: القرار ماشي على الكل. النهارده الكل هيفضل هنا، اللي حابب يروح في حتة يروح، وأنا هروح أشوف هيحصل إيه، ولو هيخرج بإذن الله، هجيبه وأجي، وإن شاء الله لينا كلام بالليل… كلنا.
قالها وهو يطالعهم جميعًا، ثم نظر إلى أنس قائلًا بحنان: مش ناوي تروح لوالدتك يا ابني؟
ارتبكت ملامح أنس، إلا أنه رد بهدوء: ناوي إن شاء الله يا عمي، بس أطمن على تميم، وإن شاء الله هاخد ملك وأروح.
ابتسم له مرددًا بصدق: تميم بقى بخير، والحمد لله، وانت عملت اللي عليك وزيادة، سايب شغلك وحياتك، وجيت بملك، بس والدتك ليها واجب عليك، متاخر للأسف بسبب الظروف، بس ملحوقة إن شاء الله. خد مراتك وروحوا زوروها واطمنوا عليها، مينفعش تتأخروا أكثر من كده يا أنس يا ابني. كله الا الأم دي البركة بتاعتك، ووصلها هي والحاج سلامي، لحد ما ربنا يريد وأشوفهم، إن شاء الله.”
أومأ له أنس، وهو يجيبه باحترام: حاضر يا عمي، زي ما حضرتك شايف أن شاء الله بكرة وملك رايحه تكشف هنروح .
ابتسم له مدحت بهدوء، وتابع حديثه وهو ينظر إلى حسام: وانت يا حسام، تاخد مراتك تزور أهلها، تطمن عليهم يا ابني، قبل ما تسافروا.
أومأ له حسام هو الآخر بهدوء وطاعة، يناظر حور التي شردت تمامًا، وبعينها نظرة… رغم فرحتها، خائفة، كأنها كانت تخشى تلك الزيارة.
التفت مدحت إلى أمير، ليجيبه الآخر بضيق قبل أن ينطق: أهل يارا مش في مصر يا بابا، مفيش حد نروحله.
هز مدحت رأسه بيأس، وعيناه على آلاء، التي انزوت في مقعدها أكثر فأكثر، كأنها تريد الاختباء في أي ركن.
لكن… هل يشعر؟
يشعر… ويتألم.
وكم ينفطر قلبه لرؤيتها بتلك الصورة!
أتظنه لا يلاحظ ذبولها واحمرار عينيها؟
مخطئة هي، لكن لن يتكلم تحديدًا معها في أمر الزيارات، فزوجها، رامي، قد مات أبواه منذ عدة سنوات، ولم يتبقَ سوى إخوته، والعلاقة سطحية جدًا، وهو يعلم ذلك.
لذا، صمت.
لكن ليس طويلًا… فبينهما حديث أطول مما تتخيل.
❈-❈-❈
كانت تجلس تمشط شعر لوزة بهدوء، والابتسامة لا تفارق وجهها.
اليوم أيقظها عمر قبل أن يغادر بوقت قليل، وقد استيقظ أبكر من كل يوم ليعد الإفطار لهما ويدللها قبل ذهابه.
وبالفعل، حظيا بوقت خاص وإفطار مميز، قبل أن يغادر مودعًا إياها بقبلة دافئة مثل قلبه.
تراقبه هي بعين مرتاحة، سعيدة بهذا التغير، وعادت لتنام مرة أخرى بإرهاق، حتى أيقظتها لوزة مرة أخرى، متزمرة من شدة الجوع والانتظار، تناظرها بقرف وتصدر أصواتًا مزعجة.
وها هي، بعد ساعة من المجهود الشاق، انتهت من إطعامها وتنظيف محل ما أفسدت، وكل شيء على ما يرام.
وضعت المشط بجانبها، تقبلها بحنان وهي تناظرها بهدوء. كانت نظيفة، ممشطة، ورائحتها هادئة.
رفعت كوب الشوكولاتة بالحليب ترتشف منه بصمت، قبل أن تردها مكالمة مرئية من سارة.
فتحتها سريعًا قائلة بفرحة وسرعة: عمر صالحني!
وفي نفس الثانية، انطلق صوت صياح سارة، قائلة باستنكار ورفض حزين: في عريس متقدم، وبابا مصرّ أقعد معاه!
صمت… ثانية واحدة…
ليصيح بعدها كلاهما في نفس الوقت، قائلين بصدمة: إيه؟!
لتتابع سارة بارتياح: اتصلحتوا بجد؟ الحمد لله، الحمد لله! مبروك يا روحي!
إلا أن فريدة لم ترد عليها، وهي تكمل بتساؤل:
سيبك مني دلوقتي، حصل إيه؟ إيه موضوع العريس ده؟
تنهدت سارة بيأس، وهي تقص عليها ما حدث كله، وحديث والدها الأخير وإصراره الأكبر من طاقتها.
طالعتها فريدة بإرهاق حقيقي من رأسها المتحجر، قبل أن تقول بتأكيد: زي ما امبارح قولتيلي الحقيقي ووجهتيني، هقولك إن عنده حق.
ارفضي، انتي حرة، حقك، محدش يقدر يتكلم. بس جربي، اقعدي، واستخيري ربنا.
مش هتوقفي حياتك يا سارة، مش هينفع، لا دين ولا عقل بيقول كده.
أنا ضد الإجبار، وانتي عارفة رأيي كويس جدًا، وشفتي اللي حصلي أيام تميم، بس الوضع غير.
هنا باباكي أصلًا مختلف عن أهلي، وهو فعلًا مش بيجبرك، بس هيخليكي تشوفي الفرص بعين تانية، أو يمكن من قريب أكثر.
لكن الحقيقة، رفضكِ بدون سبب غلط.
انتي بتكبري، وحلمك أصلًا تكوّني أسرة، زوج وأولاد وحياة هادية… هتحصل إزاي؟
لازم تقعدي معاهم، جربي، مش مستريحة؟ ارفضي، لكن ترفضي لسبب زي اللي انتي عارفاه، غلط.
لأن السبب ده سبب مش منطقي، مش تقليل من حبكِ، أبدًا والله، بس لما نعلّق قلبنا بسراب، يبقى بنظلم نفسنا وقلبنا.
وتابعت بشرود: وهي الحياة فيها قد إيه عشان نقضيه بنتوجع؟ فكري يا سارة، انتي بجد لازم تفكري بشكل جدي، مش مجرد كلام، ولا حتى قاعدة تعارف وهتحاولي تنهيها.
انتي محتاجة تفكري في الموضوع صح، بهدوء وجدية.
صلي يا سارة، صلي استخارة مرة واتنين وعشرة، وجربي، لعل وعسى يكون نصيبك واحد منهم، ويكون هو ده السعادة الحقيقية.
محدش فينا أبدًا يعرف الخير فين.
وأديكي شايفة… في الآخر طلع نصيبي في عمر، مكان ما عمري كنت أتخيل أكون فيه.
فكري يا سارة… فكري قبل ما تخسري.
كان يقف أمام الباب، بيده أحد المستندات، منتظرًا إذنها بالدخول.
وبالفعل دخل، وهو يراقبها تقلب أحد الملفات بيديها، قبل أن ترفع وجهها وتحدقه بتلك النظرات المفتونة به.
اقترب حتى وقف أمامها، وضع المستند.
أشارت له بيدها أن يجلس، فجلس، قبل أن ترجع جسدها للخلف، تستند على مقعدها براحة، مراقبة إياه بتروي شديد.
ولأول مرة، بادلها هو نظراتها، لكن بعين هادئة، وبعد عدة ثوانٍ، خفض عينه متسائلًا بيأس وعدم فهم: إشمعنى أنا؟
شقّ وجهها ابتسامة صغيرة، قبل أن تقول بهدوء: عشان انت الوحيد اللي رفضت.
عارف؟ الممنوع مرغوب.
عايزاك يا عمر.
أنا صريحة معاك، لا بلفّ ولا بدور، هقولها لك بأي لغة يمكن تفهم وتبطل عند وغباء.
أنا عايزاك، عايزاك وهخدك، ومفيش مخلوق هيقدر يمنعني.
انتي هتبقى ملكي، يا كده، يا هخرب حياتك.
ومش هتلاقي شغل.
وتابعت بتأكيد وحقد: هخرجك بفضيحة بجلاجل! لا تلاقي شغل عندي، ولا عند غيري.
ماظنش إنك عايز كده، حابب بيتك يتخرب؟
حابب أدمّر كل اللي بنيته كل السنين دي؟
وأحطمك؟
قالتها متسائلة، وهي تتحرك من محلها، تقترب منه، تضع يدها على كتفه.
انتفض هو سريعًا، ووقف يقابلها، ينظر كل منهما إلى الآخر.
لتتابع هي برقة: بس لو وافقت… أوووه! هتشوف الهنا كله!
فلوس… مكانة… دلع… وأنا!
قالتها بغنج: شوفت أنا كريمة إزاي؟
معايا انت كسبان.
وتابعت بشرّ:
من غيري… اللعبة بتنتهي!
هتخسر كل حاجة، وهدمّرك.
ظل يناظرها بعين جامدة، قبل أن يحمل الملف التي وقعته سريعًا، قائلًا:عن إذنك.
وقبل أن يخرج، صدح صوتها من خلفه، تنادي بحزم: عمر! وقتك بيخلص.
قالتها، وخرج هو.
وبداخله يعلم… أن وقته ينفذ بالفعل.
❈-❈-❈
وصل مدحت للمشفى، وسار بهدوء متوجهًا نحو غرفة تميم.
فتح الباب ليقابله الجالس هناك، ينظر نحو النافذة شاردًا وصامتًا، حتى إنه لم يشعر بوجوده.
كان يحيا في عالم غير عالمهم بكل هدوء.
أخذ نفسًا عميقًا وهو يفكر، ربما تكون بداية الحديث من هنا.
أغلق الباب ودلف ببطء حتى جلس بجانبه، وما إن أمسك يده حتى التفت له تميم قائلًا بهدوء: جيت إمتى؟ محسّتش بيك.
صمت مدحت لثوانٍ قبل أن يجيب قائلًا: لسه حالًا. الدكتور قال لو كل حاجة تمام، إن شاء الله هتخرج النهارده.
شقّ وجهه ابتسامة صغيرة وهو يشدّ على يده، قبل أن يقول بهدوء: الحمد لله.
وعاد للصمت مرة أخرى، ربما متهربًا من عين أبيه، وربما من نفسه. لكن هذه المرة، أراده مدحت أن يسمع.
وبالفعل، أمسك وجهه ليقابله، وهو يقول بحزم: أنا ابني قوي، قوي أوي، أقوى مما هو متخيل. بس مش معنى إننا أقوياء إننا منتوجعش. إحنا بشر، بنتوجع ونعيط، وبنحتاج نعبر عن حزننا، ده حقنا وأبسط حقوقنا.
راجل أو ست… مش فارقة، الاتنين بيحسّوا.
وعشان كده، أنا هفضل محترم كل قراراتك دايمًا.
أنا عارف إنك هتفتكر إني هبدأ أدورلك على عروسة عشان تتجوز وتنسى، بس ده مش هيحصل. من النهارده القرار قرارك.
يمكن أنا خايف، مش هأنكر، وحابب أشوفك مستقر، برضه مش هأنكر، بس انت كمان محتاج تاخد وقت.
لا هقبل أظلمك، ولا أخليك ظالم.
صمت ليلتقط أنفاسه، ثم تابع: أنا جيت لوحدي، عشان الكلام ده مني ليك وبس…
أب لابنه، صديق لصديقه.
اسمعني يا تميم، الصفحات القديمة لازم تتقفل، طول ما هي مفتوحة، هتعوّرك، هتوجعك، وهتفضل تعيد وتزيد فيها لحد ما قلبك يوجعك.
لا انت رجعتلها تعيش فيها، ولا قادر تعيش في غيرها.
القصة دي كان مكتوب لها تحصل، يمكن لربنا حكمة أنا معرفهاش، وده أكيد مش يمكن. بس زي ما انت شايف، الكل بيكمل حياته، وانت الوحيد اللي وقفتها.
مش طبيعي أقولك “قوم اتجوز”، بس حقي عليك أقولك “لازم تفكر تقفل القديم عشان تقدر تفكر تفتح صفحة جديدة”.
الإنسانة دي ليها كل احترام مننا، ويعلم الله إني كنت أتمنى تكون ليك، بس “أنت تريد، وأنا أريد، والله يفعل ما يريد”.
بنفضل نخطط وندبّر، ويجي النصيب ويكون ليه الكلمة الأكبر.
أنا هنا، جنبك، في ضهرك. عمري ما هزعل منك تاني على موضوع الجواز، لأني عايزها تيجي منك انت، حابب وراغب في ده.
هتسأل نفسك “ليه أنا بقول كل ده؟ هل بحط على جرحك ملح بكل قسوة؟” لا، أنا بس عايزك تفهم إن اللي حصل يمكن كان رحمة مش ضرر.
ولآخر لحظة، هتعرف إن اختيار ربنا لينا دايمًا هو الأنسب.
أخفض تميم عينيه بصمت، قبل أن يقول بتأكيد: ونِعْم بالله.
ثم تابع: متخفش يا بابا، أنا راضٍ بقضاء الله، لأني مؤمن إن الصبر والرضا هو مفتاح نجاتي. الصفحة دي اتقفلت خلاص، أكيد في خير ما منعرفوش… أكيد.
قالها بيقين، ثم صمت مفكرًا…
ليست لك… ولم تكن يومًا لك.
ركضتَ، تعثّرت، نهضتَ من جديد، أرهقت روحك، نزفتَ من قلبك ألف خيبة، وظللتَ تلهث خلفها كمن يبحث عن وطن ضاع منه. أقنعتَ نفسك أنها لك، أنك لو صبرتَ أكثر، لو قاتلتَ بقوة أكبر، لو آمنتَ بها حتى آخر رمق، فستكون بين يديك يومًا.
لكن الحقيقة التي لم تشأ أن تراها، هي أنها لم تكن لك يومًا، ولن تكون.
بعض الأبواب، مهما طرقتها، لا تُفتح، وبعض الطرق، مهما سرتَ فيها، لا تنتهي إلا إلى اللاشيء. ستدرك متأخرًا أن السلام لم يكن في الوصول، بل في الفهم، في التصديق، في اليقين بأن ما هو لك سيأتيك ولو كنتَ في أقاصي التيه، وما ليس لك، لن تبلغه ولو أفنيتَ عمرك في ملاحقته.
فلا تركض خلف السراب، ولا ترهق قلبك بالحلم المستحيل، ولا تحارب القدر كأنك تملك تغييره. حرّر روحك، واترك ما ليس لك، ففي ذلك نجاة لا تراها الآن، لكنك ستشكر الأيام عليها حين يمرّ العمر وتفهم…
❈-❈-❈
كان العمل في المنزل على قدم وساق.
فقبل خروج مدحت، قرر أن يخبرهم أنه سيتم الذبح اليوم فجأة ، بدون مقدمات، رغم عدم وجود أي تحضيرات مسبقة.
إلا أن القرار كان في محله من وجهة نظره، سعيدًا بخروج تميم من المشفى.
تولَّى أنس وحسام الذبح والتوزيع، بينما كانت الفتيات في المنزل، تحديدًا بالمطبخ، ومعهن ست مساعدات لإعداد كل ما لذ وطاب لتوزيع اللحم، وأيضًا وجبات الإطعام. فكان الكل يتعاون دون تفرقه.
أما في الخارج، فكان أمير مُجبرًا على مراقبة تزيين وتحضير المنزل بعد أن رفض بقوة أن يذهب للذبح والتوزيع ، فتركوه ومعه عدة مساعدين. وفي داخل غرفة تميم، كان هناك من يتولى تنظيفها، بينما كانت اثنتان من المساعدات مع الصغار في الغرفة الكبيرة.
كان المنزل في حالة زحام شديدة؛ هذا ينظف، وهذا يعطر، وهذا يأتي باللحم من الأضحية. وكان الجميع يركض حرفيًا للانتهاء قبل وصول تميم، فاليوم كان يوم عيد بالنسبة لهم.
❈-❈-❈
في المطبخ
أجلست حور ملكَ بحزم على المقعد بجانب يارا، التي تعدّ السلطة منذ ساعة وربع.
ناظرتها آلاء تكتم ضحكاتها، لترفع يارا رأسها قائلة بحزم: شايفاكم على فكرة! عيب والله اللي بيحصل ده. السلطة دي فنّ وتناغم ألوان، لازم دقة، ودي طالعة لله يعني، لازم تكون أحسن حاجة!
هزّت ملك رأسها ضاحكة وهي تمسك الخضروات منها لتقطّعها، قائلة بسخرية: هاتي، هاتي… بلا فنّ بلا بطيخ! فن إيه؟ شوية وهتلاقي الرجالة داخلة، لو ملقتوش الأكل هيأكلوا دراعك! عايزين ننجز، خلاص مفيش وقت!
أومأت لها حور مؤيدة، لتتحرك يارا بملل.
وقبل أن تفعل شيئًا، أتى صوت حسام يعلن عن دخوله، وانتظر عدة لحظات قبل أن يدلف، ينظر حوله، يكاد يصرخ جوعًا، إلا أنه تساءل بغيظ وهو يمسك آلاء، التي كانت الأقرب له، يهزّها برفق قائلًا: انتو لسه مخلصتوش؟! نهاركم أبيض! كل ده بتعملوا إيه؟
نظرت له آلاء بامتعاض قائلة بقرف: بنلعب! تحب تلعب معانا؟ خيبة عليك!
وأكملت هامسة: إيدك! عيب، مراتك واقفة، هننشر غسيلنا هنا ولا إيه؟
قلب شفتيه وتركها حتى كادت أن تسقط أرضًا، فناظرته متوعّدة، إلا أنه أكمل متهكمًا: يلا يا حلوة، منك ليها! أبوكي قال قدامه بالكثير ساعتين ونص، تلاتة بالكثير، عايزين نلحق نوزّع الأكل للناس ونرجع.
تحرّكت حور تفتح الإناء الضخم الخاص باللحم المسلوق، وهي تقلّبه، تخرج قطعة، تضعها في لقمة خبز، تنثر عليها رشة ملح قبل أن تعطيها له.
أهداها ابتسامة رقيقة وهو يقضم
قائلًا بجوع: الله!
وتابع بفم ممتلئ: تمام، مستوية! يلا… العلب وصلتلكم؟
أومأت آلاء وهي تشير إلى العلب البلاستيكية، قبل أن تقول: إحنا هنحط الرز وفوقه اللحمة، وأكياس الفاكهة والعصير الحمد لله البنات عبّوهم، يعني بالكثير قدامنا نص ساعة، والأكل يكون في العربية.
تنحنح أنس من الخارج يعلن عن دخوله، لتقترب منه ملك تربّت على صدره بحنان، متسائلة بهدوء:أحطّلك إنت كمان لحمة في عيش؟
هزّ رأسه نافيًا
لتابع متسائلة: خلصتو توزيع
اؤمي لها موكدا وتابع متسائلًا: كده كله جاهز؟
أومأ له الجميع، ليتابع: كده الوجبة عبارة عن إيه؟
تحدّثت ملك بهدوء قائلة: علبة الفتة، والفاكهة، والعصير، وظرف الفلوس. كل علبة هتكون مغلّفة عشان ميبقاش فيه مشاكل وقت التوزيع. هو إحنا هنيجي معاكم؟
رد حسام برفض شديد: لا، مرة تانية إن شاء الله. دلوقتي هيكون فيه تزاحم.
وأكمل بهدوء هامسًا لآلاء: الناس هنا متمشيش غير لما تاكل فوق العلب بتاعتها والفلوس، لازم يمشوا راضيين تمام. أوعي تنسوهم!
ابتسمت له تربّت على صدره مؤيدة، ليهديها ابتسامة حنونة قائلًا بهدوء: يلا، خلّينا نبدأ! لو كله استوى، خلّينا نعبّي بره عشان الكل يساعد.
وبعد عشر دقائق، كان قد تم إخراج كل الأواني والأطباق وكل شيء، ليقف حسام ناظرًا إلى الجميع، قائلًا بلطف:الكل يغسل إيديه يا بنات، ويلبس الجلَفز! الطبق لازم يكون مليان ونضيف، الحاجات دي طالعة لأحسن ناس، فيلا بسم الله نبدأ!
وبالفعل، كانوا يعملون كفرق
فرقة تضع الارز،
وأخرى تضع اللحم،
وأخيرًا فريق المال وتغليف الحقائب.
كان الكل متعاونًا سعيدًا رغم التعب، وبداخل كلٍّ منهم أمل في الغد، فالخير يلتفّ ويعود مهما طال.
حين تُطعم، تُضيءُ روحك.
ليس الخبز وحده ما يُشبع الجائع، بل الرحمة التي تمتدّ به إلى يديه، والدفء الذي يسكبه في صدره، والكرامة التي تحفظ له إنسانيته.
إنك حين تضع لقمةً في فم محتاج، فإنك لا تمنحه طعامًا فقط، بل تهبه أملًا في الحياة، ورسالة غير منطوقة بأن الخير لم يمت بعد، وأن العطاء لغة لا تحتاج إلى ترجمة.
ليست الموائد الفاخرة هي الأكرم، بل اليد التي تُقدِّم ولو كسرة خبز بحبٍّ خالص. فربّ لقمة صغيرة أطفأت جوعًا، وربّ عطاء بسيط أحيا قلبًا، وربّ رحمة زرعت النور في درب أحدهم، فكان لها في الدنيا أثر، وفي الآخرة وزنٌ عظيم.
❈-❈-❈
لم يعلم كم ظل واقفًا أمام البناية، لكن يكاد يجزم بأنه أطال.
أطال للغاية.
هل يريد أن يصعد؟
لا.
تلك المواجهة… واه من صعوبتها.
هل ستخيب ظنه؟
لكن بأعماقه يعلم نهايتها؟
لكنّه مؤمن أنّه:
“قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا.”
نصيبه سيحصل عليه، مهما حدث.
ما سيحدث الآن هو قدره، وسيتقبّله بنفس راضية.
لذا، أخذ نفسًا عميقًا، عميقًا للغاية، من أعمق مكان في صدره، قبل أن يتحرك صاعدًا للأعلى.
دقّ الجرس، ولم يمرّ الكثير حتى فُتح الباب، لتقابله أمها بملامح متوترة قبل أن تسمح له بالدخول، دون ترحيب.
فقط سمحت له بالدخول .
كان يجلس بصمت، تصله أصوات غير واضحة، كهمهمات غاضبة، تبعها خروج داليا، تناظره بعيون مغتاظة، غاضبة للغاية، قبل أن تجلس أمامه متسائلة باستفزاز: اتفضل!
قلت جي، وأديك جيت! ممكن تقولي إيه اللي مخليك متأخر أوي كده في دفع الفلوس؟ كل حاجة وقفت فجأة! بتاع العفش لما كلمته قالي الدفعة موصلتش، وباقي الحاجة الناقصة كلها، بعد ما اخترتها وأكدت عليك الأنواع اللي عايزاها! أنا مش فاهمة ليه كل التأخير ده! انت مش هتبطل البخل ده أبدًا؟ ما الفلوس موجودة، روح ادف…”
إلا أنه قاطعها بجمود، قائلًا بخفوت وتأكيد:
بس الفلوس مش موجودة.
ارتدت للخلف تحاول التأكد مما استمعت له، لترد بصدمة: إيه؟ يعني إيه؟ الفلوس كانت معاك، وأنا بنفسي كنت معاك في البنك وانت بتحطها! إزاي يعني؟ راحت فين؟
زفر بقوة، يحاول الاستعداد للقادم، قبل أن يخرجها دفعة واحدة، قائلًا بصوت أجش خافت: الفلوس دفعتها لتميم في المستشفى.
ظلت تناظره لعده ثواني بعيون متسعة قبل أن تنتفض صارخة بجنون :انت أكيد اتجننت! يعني إيه دفعتها؟ دفعتها ليه أصلًا؟ ليه؟ هو تميم ده فقير؟ ولا محتاج؟ ده أهله على قلبهم قبل كده ويشترونا بفلوسهم!
ثم تابعت بغضب: بص يا أحمد، انت هتروح تطلب منه الفلوس، لأما قَسَمًا بالله… والله العظيم…
لكنه أوقفها قائلًا بحزم: مش هطلبها منه. تميم ليه عندي أضعاف المبلغ ده، وانتي عارفة كويس. مش هطلب الفلوس منه، ولو إيه هيحصل.
بهتت ملامحها، وهي تسأله بجمود: يعني إيه؟
وتابعت بصوت أعلى، بجنون: ومين قالك إني هقبل؟ انت أكيد اتجننت لو فاكر إني هقبل! مش كفاية إني قبلت أتخطبلك، وانت ماسك في القرش ومتبت فيه، وكل كلامك مش معايا، ومش عايز، ومش هعمل!
أنا قبلت بيك، في حين مفيش حد هيقبل باللي أنا قبلت بيه! عايزني كمان أقبل أقل من كل اللي ده؟ مستحيل! اللي بتفكر فيه ده مستحيل! تبقى بتحلم لو فاكر إني هوافق! ونجوم السماء أقربلك مني يا أحمد!
ابتسم لها ابتسامة ساخرة مريرة وهو يقف أمامها، يناظرها بعين جامدة صامتة، لكنها تحمل الكثير…
الكثير من الألم.
الكثير من الخذلان.
الكثير من الالم واليأس.
الكثير حقًا…
قبل أن يرفع يده، يخرج خاتم الخطبة تحت نظراتها المذهولة ، قيل أن يقول بجمود وابتسامة باهتة متالمة : خلاص يا داليا… احنا خلاص.
قالها وهو يضع الخاتم بين يديها، ويغادر المنزل.
يغادره للأبد.
أرقام جلوس الثانوية العامة اليمن 2025: رابط الاستعلام الرسمي والخطوات بالتفصيل
وفاة اليوتيوبر اليمني نزيه سوار غرقًا في الحديدة.. تفاصيل الحادث ومطالب بتأمين الشواطئ اليمنية
مسلسل مراهق العائلة: دراما عائلية مؤثرة تلامس القلوب وتثير نقاشًا واسعًا حول العالم
مشاهدة فيلم شباب البومب 2 2025 كامل بجودة HD: رابط مباشر وتحميل رسمي بكل سهولة
وفاة صانع المحتوى اليمني نزيه سوار في حادث مأساوي بشاطئ الحديدة عام 2025
قائمة أغنى المليارديرات في العالم لعام 2025 وفق فوربس: الأسماء والتحديثات الجديدة
مشاهدة وتحميل فيلم سيكو Siko 2025 عصام عمر بجودة عالية: رابط مباشر وبدون إعلانات كامل.
توقيت الدوام الصيفي بالطائف 1446-2025: المواعيد الجديدة والتنظيمات الرسمية لكل المراحل الدراسية