رواية حواديت رمضانية الفصل الثالث 3 بقلم مريم عثمان

رواية حواديت رمضانية الفصل الثالث 3 بقلم مريم عثمان

رواية حواديت رمضانية الجزء الثالث

رواية حواديت رمضانية البارت الثالث

حواديت رمضانية

رواية حواديت رمضانية الحلقة الثالثة

حكاية ولادة ونشأة الرسول محمد ﷺ
كانت مكة غارقة في هدوء الليل، والصحراء تسكنها سكينة لا تشبه السكون، بل انتظار مشحون بشيء عظيم سيغير مجرى الزمن، لم يكن العالم يعلم أن لحظاته تلك تحمل إشراقة ميلاد أعظم الخلق، ولم تكن قريش تدري أن سماءها ستشهد حدثًا تتردد أصداؤه إلى الأبد.
في دار بني هاشم، حيث بيت عبد الله بن عبد المطلب، كانت آمنة بنت وهب تتأمل سماء مكة عبر نافذتها الصغيرة. كانت ليلة الثاني عشر من ربيع الأول، ليلة غمرها شعور مهيب، إحساس بالأمان والرهبة معًا. كان حملها خفيفًا على غير عادة النساء، وكأن جنينها محاط بسكينة ربانية، لم تعانِ ألمًا كغيرها، بل شعرت بنور يسري في أحشائها كأنه دفء من السماء.
في تلك الليلة، وهي في خدرها الأخير قبل الميلاد، رأت في منامها نورًا يخرج منها، يمتد حتى يضيء قصور الشام. فزعت، لكنها لم تشعر بالخوف، بل بطمأنينة غريبة، وكأنها رسالة بأن هذا المولود لن يكون كسائر البشر.
حان وقت المخاض، وملائكة الرحمة تحف المكان، وكأن الأرض ترتقب هبوط النور، والأفق يستعد لاستقبال مولود سيملأ الدنيا عدلًا بعد أن اغتالها الظلم. جلست السيدة آمنة تتألم، لكن الألم لم يكن كسائر الآلام، بل كان ولادة للخير في عالم امتلأ بالجور.
حضر نسوة بني زهرة لمساعدتها، وكانت بينهم الشفاء بنت عوف، التي رأت العجب في تلك الليلة. لم يكن المكان موحشًا كما هو حال ولادات النساء، بل امتلأ بنور لم تألفه مكة، نور لا يشبه نور القناديل ولا نور القمر، بل ضياء يبعث الطمأنينة في القلوب.
خرج المولود، فاستقبلته الدنيا قبل أن تستقبله أمه، واستقبله الكون قبل أن تراه الأعين. لم يكن كسائر المواليد، فقد ولد ساجدًا، عيناه نحو السماء، كأنه يشهد عوالم أخرى لا تراها الأبصار. وحين وُضع بين يدي أمه، شعرت وكأن قلبها امتلأ بنور جديد، نور لم تشهده من قبل.
حملته بيديها، فإذا به لا يبكي كما يبكي المواليد، بل يفتح عينيه الصغيرتين على اتساعهما، يتأمل الوجود، كأنه يدرك أنه لم يأتِ إلى هذه الأرض عبثًا، بل في مهمة عظيمة. انتشرت في مكة أخبار ولادته، حتى إن عبد المطلب، جده، جاء مسرعًا إلى الدار، وعندما رآه، تهلل وجهه بالفرح، وحمله إلى الكعبة، فطاف به، وقال: “سأسميه محمدًا، ليُحمد في الأرض والسماء.”
وما كان يعلم أن الاسم الذي اختاره، سيصبح اسمًا يردده الكون بأسره، ما بقيت السماوات والأرض.
مرت أيام الولادة، وجاء وقت الإرضاع. في مكة كانت العادة أن ترضع المواليد مرضعات من البادية، حتى يشتد عودهم، ويتعلموا الفصاحة والعزة في أحضان الصحراء. ولم يكن محمداً ﷺ استثناءً.
قدمت حليمة السعدية من بني سعد، تبحث عن رضيع تتعهده، لكنها لم تكن تتوقع أن تلك الرحلة ستغير حياتها للأبد. كانت تمر على البيوت تبحث عن مولود ترضعه، لكنها كانت فقيرة، وناقتها هزيلة، فلم يقبل أحد أن يعطيها مولودًا من أبناء الأغنياء.
وعندما وصلت إلى بيت آمنة، وجدت محمدًا ﷺ بين يدي أمه، لم تكن تعلم أن هذا الطفل سيغير مجرى حياتها، لكنها شعرت بشيء غريب حين نظرت إليه، وكأن روحها تعرفه منذ زمن.
أخذته إلى خيمتها، وما إن ضمته إلى صدرها، حتى تدفقت بركات لم تعرفها من قبل. كان ثديها جافًا، لكنه امتلأ باللبن، وكانت ناقة زوجها هزيلة لا تدر الحليب، لكنها فجأة امتلأت ضرعًا. تعجب زوجها وقال: “يا حليمة، ما هذا إلا بركة هذا الصغير.”
عندما أرضعته حليمة السعدية، لم تكن تعلم أنها ستأخذ معها نعمة لا تنفد، فقد كانت ديار بني سعد قاحلة، تعاني الجدب والقحط، لكن منذ أن دخل محمد ﷺ خيمتها، تبدل الحال، تدفقت البركة في ضرع الشاة الهزيلة، وأصبح اللبن غزيرًا بعد أن كان شحيحًا، وعادت الحياة إلى أرضهم بعد أن كانت يابسة.
وحين عادت به إلى ديار بني سعد، بدأت ترى معجزاته تتجلى، فكلما وضعته في فراشه، كان ينام بهدوء، لا يبكي كما يبكي الأطفال، وعندما يكبر قليلاً، تراه يسبق أقرانه في النطق، كأنه وُلد بعلم لا يعرفه البشر.
عاش في بني سعد طفولة مختلفة، لم يكن كسائر الصبيان، بل كان وقورًا حتى في صغره. كان يجلس متأملًا السماء، ينظر إلى النجوم كأنه يحدثها، وحين يلعب مع الأطفال، كان يرفض الظلم، فإذا رأى أحدًا يأخذ حق غيره، تدخل ليرد المظلمة، وكأنه يحمل روح العدل منذ صباه.
كان الصبية يلعبون تحت الشمس، فيجف عرقهم، وتشحب وجوههم، لكن محمدًا لم يكن كذلك، فقد كان له ظل يلازمه أينما ذهب، كأنما السحاب تظله بأمر من السماء، فلا تؤذيه حرارة الشمس، ولا تلسعه رياح الصحراء.
في الرابعة من عمره، وبينما كان يلعب مع الصبيان في بادية
بني سعد، إذا بغلمان بيض الوجوه ينزلون من السماء، يمسكون به برفق، يضجعونه على الأرض، ثم يشقون صدره،وبخرجوا منه شيئًا أسود، ثم يغسلون قلبه بماء زمزم، ثم أعاداه كما كان،هرع الصبية إلى حليمة مذعورين، قائلين: “إن محمدًا قد قُتل!”
لكنها حين وصلت إليه، وجدته واقفًا، لم يكن خائفًا، بل كان عيناه تشعان ببريق غامض، كأنه عاد من لقاء مع الملائكة، لكنه لم ينسَ تلك الحادثة أبدًا، بل ظل يحمل ذكراها في قلبه، حتى أخبر بها أصحابه بعد بعثته.
عادت به حليمة إلى أمه آمنة، فقد شعرت أن هذا الطفل ليس كغيره، وأنه يحمل سرًا عظيمًا لم تدرك كنهه بعد. وعندما عاد إلى مكة، عاد وهو يحمل في قلبه نورًا لا ينطفئ، واستمرت معجزاته تتوالى، فقد كان يبصر الأمور بعمق، وكان صدقه يجذب الناس إليه حتى قبل أن يعرفوا أنه نبي.
وهكذا كانت طفولة محمد ﷺ، طفولة ملؤها الحكمة والنقاء، طفولة حملت ملامح النبوة قبل أن تنزل عليه الرسالة، وكأن الأرض والسماء كانتا تعدانه لأمر عظيم.
هذا ليس سوى بداية الحكاية، فكل لحظة من حياته ﷺ كانت معجزة، وكل مرحلة من طفولته كانت تمهيدًا لنور سيعم الكون بأسره.
عاد محمد ﷺ إلى كنف أمه آمنة، لكنه لم يعد كما كان، فقد حمل معه من بادية بني سعد نورًا خفيًا، وعمقًا لا يشبه أعمار الصغار. كان صبيًا، لكنه لا يشبه الصبية، كان طفلاً، لكنه يحمل في عينيه حكمة الشيوخ.
في مكة، حيث الأسواق تضج بالباعة والتجار، وحيث الألسنة تتصارع بين المديح والذم، وحيث المعابد تغص بالأصنام والقلوب تتعلق بالأوهام، كان محمد يسير بين القوم، لكنه لا يشبههم، لم تجذبه لعب الأطفال، ولم تأسره أضواء الأسواق، بل كان قلبه معلقًا بالسماء.
توفيت أمه وهو ابن ست سنين، وكان ذلك أول سهم يوجهه القدر إلى قلبه الطاهر. لم يكن الموت عنده فراقًا، بل كان رسالة صامتة بأن الحياة لا تدوم على حال، وأن الأرواح وإن غابت في الأفق، فإنها لا تغيب عن القلوب.
أخذه جده عبد المطلب، فكان يضمه إليه بحنان الأب وعطف الجد، كان يرى فيه امتدادًا لعبد الله، وكان يشعر أن لهذا الصبي شأنًا غير عادي، حتى إنه كان يقول: “إن لابني هذا شأنًا عظيمًا.”
لكن القدر لم يمهله طويلًا، فقد رحل عبد المطلب، فوجد محمد نفسه في كنف عمه أبي طالب. لم يكن عند أبي طالب ثراء عبد المطلب، لكنه كان يملك قلبًا كبيرًا، احتضن الصبي اليتيم كما لو كان ابنه.
في بيت أبي طالب، بدأ محمد ﷺ يختلط أكثر بالحياة، لكنه ظل مختلفًا. كان يجلس في المجالس فلا يتكلم إلا لحاجة، وإن تكلم، أصغى له الجميع كأن كلماته تنساب من نبع الحكمة. لم يكن يضحك كثيرًا، لكن حين يبتسم، كانت الدنيا تبتسم معه.
كان شباب مكة يخوضون في لهوهم، وكان من عادة الفتيان أن يجتمعوا للسمر والغناء، لكنه لم يكن مثلهم، بل كان يجد نفسه محجوبًا عن مجالس اللهو، كأن يدًا خفية تصرفه عنها، حتى إنه حين أراد ذات ليلة أن يحضر أحد المجالس، غلبه النوم قبل أن يصل إليه، فلم يستيقظ إلا والشمس تشرق، فعلم أن الله يحفظه لشيء أعظم.
كان يمشي بين دروب مكة، فيسمع صوتًا خفيًا يناديه: “السلام عليك يا رسول الله.” فيلتفت فلا يجد أحدًا، لكنه يدرك أن هذا الصوت لم يكن من البشر، بل كان من الأحجار التي عرفته قبل أن يعرفه أهل الأرض.
كل هذه الإشارات لم تكن عبثًا، بل كانت تهيئةً لميلاد أعظم رسالة، فالله لا يصطفي إلا من أعده، ولا يختار إلا من زكّاه، وكان محمدٌ ﷺ منذ نعومة أظافره يسير على طريق النور، حتى قبل أن تنزل عليه كلمة الوحي الأولى.
لكن، كيف كان يستقبل هذه الإشارات؟ هل كان يدرك أنه يحمل سرًّا لم يُكشف بعد؟ هل شعر أن روحه تحمل عبئًا لا تحمله الأرواح العادية؟ وماذا بعد هذه العلامات، كيف سيصل إلى لحظة الاصطفاء الكبرى؟
حين بلغ الثانية عشرة، أخذ أبو طالب محمدًا في قافلة إلى الشام، وهناك حدثت واحدة من أعجب الإشارات التي تنبأت بقدره العظيم.
عند تخوم بصرى، حيث يقف دير قديم يسكنه راهب يدعى بحيرى، توقفت القافلة للراحة. كان الراهب قد اعتاد أن يرى القوافل تمر دون أن يبالي، لكنه في ذلك اليوم، رأى مشهدًا لم يره من قبل.
رأى سحابة تظل صبيًا صغيرًا، لا تفارقه حيثما سار، وإذا جلس تحت شجرة، امتدت أغصانها لتظله، وكأن الكون كله يحتفي به. اقترب الراهب من القافلة، وأخذ يتأمل الصبي طويلًا، ثم سأل أبا طالب:
“من هذا الفتى؟”
قال أبو طالب: “هو ابن أخي.”
نظر الراهب إلى الصبي مرة أخرى، ثم قال بصوت ممتلئ بالرهبة: “احذر عليه، فإنه نبي هذه الأمة.”
كان ذلك أول إعلان علني لسر لم يكن أحد يدركه، إلا أن علامات النبوة بدأت تتضح لكل ذي عين بصيرة.
حين كان شابًا، اجتمعت قريش على أمرٍ عظيم، فقد أرادوا إعادة بناء الكعبة بعد أن تصدعت جدرانها، وحين وصلوا إلى موضع الحجر الأسود، دبّ الخلاف بينهم، أيهم يكون له شرف وضعه في مكانه؟ كادت الدماء أن تُسفك، وكادت قريش أن تقتتل في سبيل هذا الشرف.
لكن أحدهم اقترح: “اجعلوا أول من يدخل من هذا الباب هو الذي يحكم بينكم.”
فترقبت العيون، وتعلقت القلوب، وها هو محمدٌ ﷺ يدخل المسجد الحرام، فتعلو وجوه القوم علامات الرضا، وكأنهم كانوا ينتظرون حكمته.
ابتسم ﷺ، بسط رداءه على الأرض، ووضع الحجر عليه، ثم قال لكل قبيلة أن تمسك بطرف من الثوب، فلما رفعوه جميعًا إلى مستوى موضعه، أخذه بيديه الشريفتين ووضعه في مكانه.
هدأت النفوس، وسكنت القلوب، وكأن الله قد ألهمه الحكم العادل، فكان يومها شابًا في الخامسة والثلاثين، لكن حكمته كانت كحكمة الأنبياء.
كبر محمد ﷺ في مكة، لكنها لم تكن تكبر في قلبه. كان يرى كيف يغرق قومه في الجاهلية، كيف يعبدون الحجارة التي صنعوها بأيديهم، كيف يبيعون ويشترون في الأسواق بالغش والظلم، كيف تضيع الحقوق، وكيف تعلو أصوات الجهل فوق صوت الحق.
كان محمدٌ ﷺ يمضي في الحياة، كأنما الأرض تُعبد له طريقًا، وكأن السماء ترعاه بعينٍ لا تغفل ولا تنام. لم يكن كأبناء مكة في لهوهم، ولا كأترابه في عبثهم، بل كان ذا وقارٍ يسبق سنّه، وهيبةٍ تأسر القلوب، وكأن روحه تحمل سرًّا دفينًا لم يحن أوان انكشافه بعد.
كان في صمته بلاغةٌ لا يدركها إلا من أرهف السمع لقلبه، وكان في نظرته نورٌ يشعر به من يراه، لا يسلك طريقًا إلا وكان الصدق دليل خطاه، ولا يدخل مجلسًا إلا وشعر الجالسون بطمأنينةٍ لم يعهدوها.
لكن الإشارات لم تتوقف، بل كانت تتكاثر كأنها نُذر السماء، تُنبئ أن لهذا الفتى شأنًا عظيمًا، وأن ما يراه ليس صدفة، بل هو جزءٌ من ترتيبٍ إلهي، يسير به إلى حيث يريد الله.
كان مختلفًا. لم يكن جزءًا من هذا العالم، بل كان شاهدًا عليه، يراقبه بعين الحكيم، قلبه يمتلئ رفضًا، لكنه لم يكن يملك بعد أن يغير.
كان يعمل في التجارة، لكنه لم يكن تاجرًا كسائر التجار. لم يكن يعرف الغش، لم يكن يعرف الكذب، كان صادقًا حتى لقّبوه “الصادق الأمين”، وكان ذلك الاسم كأنما صيغ ليكون عنوان حياته كلها.
وحين عمل في تجارة خديجة بنت خويلد، رأى فيها المرأة العاقلة، ورأت فيه الرجل الذي لم تعرف مكة له مثيلًا. أعجبت بأمانته قبل أن ترى وسامته، وأعجبت بحكمته قبل أن تسمع صوته، فكان الزواج بينهما ميلادًا آخر لهذا القلب العظيم، قلب يحمل رسالة السماء، لكنه ما زال في انتظار الإشارة الأخيرة.
في تلك السنوات الأخيرة قبل نزول الوحي، بدأ محمدٌ ﷺ يشعر بشيءٍ غريب، لم يكن الأمر مجرد رؤى يراها في المنام فتتحقق، بل كان إحساسًا داخليًا بأن هناك أمرًا جللًا يقترب.
كان كل شيءٍ في مكة يضيق عليه، لم يعد يحتمل أصنامها التي لا تتكلم، ولا أصوات المظلومين التي تُدفن في الرمال، كان يبحث عن الله، يبحث عن الحق، يبحث عن النور وسط ظلمات الجاهلية.
بدأ يعتزل الناس، يذهب إلى غار حراء، ذلك المكان الهادئ الذي كان يشبه قلبه في صفائه، يجلس وحده في أعالي الجبال، يتأمل السماء، يتأمل الكون، يسأل نفسه:
“ما سر هذا الوجود؟ لماذا وُجد الإنسان؟ ماذا يريد الله منا؟”
بمكة يضيق عليه، لم يعد يحتمل أصنامها التي لا تتكلم، ولا أصوات المظلومين التي تُدفن في الرمال، كان يبحث عن الله، يبحث عن الحق، يبحث عن النور وسط ظلمات الجاهلية.
وكانت هذه الأسئلة ليست كأي أسئلة، كانت إرهاصات الوحي، كانت دقات القدر تقترب شيئًا فشيئًا.
وقبل نزول الوحي بستة أشهر، بدأت الرؤى تتكاثر عليه، لم يكن يرى شيئًا في منامه إلا ويقع كما رآه، كأنما الزمن صار طيّعًا بين يديه، يرى الغيب قبل أن يصبح حاضرًا، كأن الله يهيئ قلبه لاستقبال الحقيقة الكبرى.
كان يشعر أن شيئًا ما يقترب، لكنه لم يكن يعلم أنه سيحمل أعظم رسالة في التاريخ، وأن السماء على وشك أن تكلمه، وأن جبريل، روح الله، سيأتيه ليقول له:
“اقرأ.”
ارتجفت روحه، خفق قلبه، وكأن الكون كله انحنى أمام تلك الكلمة. ارتعشت يداه، ارتجف صوته:
“ما أنا بقارئ؟”
لكن الصوت عاد، أكثر قوة، أكثر رهبة، أكثر إشراقًا:
“اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك الأكرم، الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم.”
انتهت الكلمات، لكن محمدًا لم يعد كما كان. هرع من الغار، كانت قدماه تتعثر في صخور الجبل، كان جسده يرتجف، كان صدره يضطرب، وكأن جبال مكة كلها ألقت بثقلها عليه. هرع إلى البيت، إلى خديجة، إلى الأمان الوحيد في هذا العالم، وهو يقول:
“زملوني، زملوني!”
غطته خديجة بلحافها، هدأت من روعه، لكنها رأت في عينيه شيئًا لم تره من قبل. لم يكن خوفًا فقط، بل كان شيئًا يشبه الهيبة، يشبه عظمة لا يستطيع جسد الإنسان أن يحتملها.
وحين هدأت أنفاسه، نظر إلى خديجة وقال:
“لقد خشيت على نفسي!”
لكن قلب خديجة كان يرى ما لم يره أحد، كان يرى في هذا الرجل أمرًا عظيمًا، كان يعرف أن الله لا يمكن أن يخذله. قالت بصوت يملؤه اليقين:
“كلا، والله لا يخزيك الله أبدًا، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق.”
ثم أخذته إلى ورقة بن نوفل، الشيخ العارف بكتب الأولين، الذي ما إن سمع الخبر حتى ارتجف قلبه هو الآخر، وقال بصوت متهدج:
“هذا الناموس الذي نزل على موسى، يا ليتني أكون حيًا إذ يخرجك قومك!”
تعجب محمد، وقال: “أوَ مخرجي هم؟”
قال ورقة بحزن: “نعم، لم يأتِ أحد بمثل ما جئت به إلا عودي.”
كانت هذه الكلمات إعلانًا للحقيقة التي لم يعرفها أحد بعد، أن هذا الرجل الهادئ، الصادق، الأمين، سيكون من الآن رسول الله إلى الناس، وسيكون على موعد مع العذاب والصبر، مع الحب والكراهية، مع النصر والمحن، لكنه لن يكون وحده، فقد اختاره الله، ومن اختاره الله، فإن السماء كلها معه.
وهكذا، بدأت الرحلة، رحلة النور الذي سيبدد ظلمات الأرض، رحلة النبي الذي سيغير العالم بأسره.
وما كان يعلم أن تلك الإشارة ستأتي قريبًا، ستأتي لتجعل منه نبيًا، وسيقف وحده أمام أمة بأكملها، ليغير مجرى التاريخ إلى الأبد.

يتبع…….

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية حواديت رمضانية)