


{“أنا لا أخدع نفسي، أعلم الحقيقة جيدًا… لكني أتجاهلها، أضعها جانبًا كأنها صفحة ممزقة من كتاب لا أريد قراءته. أغمض عيني وأعيش الكذبة، ولو للحظات. فما الضرر في أن أسرق من الحياة دقيقة؟ ما الضرر في أن أخدع قلبي قليلاً؟ الكذبة مريحة، الحقيقة موجعة… وأنا مستنزفة جدًا ل
من الحقيقة.”}
[بعنوان: الوهم الجميل]
بعد دقائق طويلة من الانتظار، خرج الطبيب من الغرفة وهو يلهث بشدة، ووجهه شاحب من القلق. نظر إلى ياسين وعزت وقال.
الطبيب بابتسامة: ألف مبروك، جالكِ بنت زي القمر.
عزت: مبروك يا ياسين.
ياسين بسعادة: الحمد لله، الحمد لله. طب هبة عاملة إيه؟
الطبيب: مدام هبة ضعيفة شوية، هي تعبانه ومعلقين لها محليل ولسه في البنج. هننقلها حالاً بعد ما نخيط الجرح. وهتفضل في البنج حوالي أربع ساعات، وبالنسبة للطفلة، هتدخل الحضانة.
ياسين بقلق: ليه؟
الطبيب بهدوء: عندها صعوبة شوية في التنفس، متقلقش مش هتقعد كتير يومين، ثلاثة بالكتير، ليتأكدوا من كل شيء، وإن شاء الله هتخرج.
ياسين: وأنا، ماينفعش أشوفها؟
الطبيب: أيوه، حالاً هنجيبهالك، بس هما بيحموها وهيلبسوها.
وأثناء ذلك، اقترب كل من سليم وفايزة وفريدة، ووالد و والدة هبة.
سامية بقلق: خير يا ياسين، مش كان ميعادها كمان ٥ أيام؟
ياسين: تعبت فجأة نقلتها للمستشفى. الدكتور قال لازم نولدها حالاً لأن المية اللي حوالين الجنين نشفت.
زيدان: طب هي عاملة إيه دلوقت؟ ولدت والا لسه؟
ياسين بابتسامة: ولدت وجابت بنت، هبة لسه في غرفة العمليات بس بيخيطوا الجرح وبعدين هينقلوها الاوضة.
أثناء ذلك، اقتربت إحدى الممرضات وهي تحمل الطفلة، وقالت: فين باباها.
التفت لها ياسين: أنا.
أخذها ياسين منها، ضمها وقبلها
الممرضة: يا ريت تأذن لها في ودانها و تقرأ لها قرآن.
ضمها ياسين بين أحضانه بفرحة غمرت قلبه: نورتي حياة بابا يا روح قلب بابا.
بدأ ياسين في الأذان في أذن الطفلة اليمنى، ثم قرأ الفاتحة وآية الكرسي. بعد ذلك، حمل الجميع الطفلة للحظات، وقاموا بتقبيلها، إلا سليم الذي رفض.
سليم هز رأسه برفض: لما تبقى كويسة وتكبر شوية، هبقى أشيلها. أنا بخاف.
بالطبع، سليم لم يرفض حملها خوفًا عليها كما ادّعى، ولم يكن الأمر مجرد قلق على عمرها أو هشاشتها. الحقيقة كانت أعمق من ذلك بكثير. الحقيقة التي لم يستطع البوح بها هي أنه لم يقدر… لم يتمكن… فقد شعر بغصة أذابت قلبه. كان يفتقد هذا الشعور الأبوي، وربما لم يشعر به قط.
فكل ما يعيشه ياسين الآن كان يمكن أن يكون له. كان يمكن أن يحمل طفلته بين ذراعيه، أن يسمع صوتها يبكي للمرة الأولى، أن يشعر بوزنها الخفيف في حضنه… لكن كل ذلك انتهى قبل أن يبدأ. حلمه تبخّر في لحظة، سُلب منه قبل أن يعيشه، وتُرك مع قلب مثقل بمرارة الفقدان… قبل أن يكتمل بأيام قليلة.
قطعًا، لم يحمل سليم في قلبه ذرة غيرة. لم يكن يحسد ياسين، لكنه شعر وكأن الزمن يسخر منه، وكأنه يضع أمامه صورة لما كان يمكن أن يكون له. لم تكن غيرة، بل وجع دفين، كأن قلبه يُعاد فتحه من جديد على جرح لم يلتئم قط.
حياته توقفت، وحلمه تبخّر في لحظة. يتمنى لو أُتيحت له الفرصة ليشعر بالأبوة الحقيقية، ليمسك بيد ابنته ولو للحظة، لكن تلك اللحظة فاتته… وربما لن تأتي أبدًا.
بينما ياسين كان يختبر الأبوة لأول مرة، كان سليم يغرق في مرارة الفقد. قلبه المثقل بالألم يحاول استيعاب هذه اللحظات التي تذكره بشيء لم يعرفه قط كان حزينًا على نفسه، على حلمه الذي سُلب منه قبل أن يبدأ.
أخذت الممرضة الطفلة إلى الحضانة، وظلوا جميعًا واقفين في انتظار خروج هبة.
كان سليم يربت على ذراع ياسين وهو يقول له:
إن شاء الله هتبقى كويسة، ماتقلقش.
بعد مرور بعض الوقت، خرجت هبة من غرفة العمليات، فذهب ياسين ليجلس بجانبها حتى تفوق وتستعيد وعيها.
نرى هبة نائمة على الفراش، ويبدو أنها لم تستيقظ بعد بسبب تأثير البنج. كان ياسين جالسًا بجانبها، عينيه مليئتان بالقلق والحزن. دخل سليم الغرفة ممسكًا بعصير، ووضع يده على كتف ياسين باهتمام.
سليم بصوت مطمئن: ياسين، إنت كويس؟
رفع ياسين رأسه وأومأ بالإيجاب بصمت.
ناوله سليم العصير: خد العصير ده… إن شاء الله هتبقى كويسة.
أخذ ياسين العصير، لكن عينيه ما زالتا معلقتين على وجه هبة.
سليم: اطمّن على البنت. هي في الحضانة، يومين وتخرج، ايه مش هتشوفها؟
ياسين همس: نفسي أشوفها، بس مش عايز أسيبها عشان لما تفتح عنيها، لازم تلاقيني جنبها.
ابتسم سليم محاولا تهدئته.
سليم: الدكتور قال مش هتفوق قبل ساعة. شوف بنتك، وبعدين تعال أقعد معاها.
أومأ ياسين برأسه، ثم نهض مترددًا وتوجه مع سليم نحو حضانة الأطفال. عند الزجاج المطل على
الحضانة، وقف الاثنان ينظران إلى الأطفال.
سليم مشيرًا بيده: دي بنتك.
ياسين نظر إلى الطفلة بحب وقلق، ثم التفت لسليم.
ياسين: أنا ممكن أشوفها؟ ممكن أشيلها؟
سليم مبتسمًا: الدكتور قال هتقعد يومين أو ثلاثة. مش أكتر، هتشيلها وتحضنها براحتك، ألف مبروك، يا حبيبي. ربنا يخليها لك.
ابتسم ياسين بخفوت بينما واصل النظر إلى ابنته من خلال الزجاج، بداخله مشاعر مختلطة
سليم: مش ناوي تسميها بقى.
ياسين وعينه معلقه على بنت: مامتها هتسميها لما تفتح عينيها.
سليم هو يمسح على ظهره: إن شاء الله.
نرى ياسين و زيدان وساميّة، وعزت، وفايزة، وسليم، وفريدة يجلسون في الغرفة. كانت هبة قد استيقظت من تأثير البنج، لكن بدا عليها التعب.
بينما ياسين يمسك بيدها قائلاً: حبيبيتي، الحمد لله على سلامتك.
هبة بتعب: الله يسلمك، البنت فين؟ عايزة أشوفك.
ياسين بتطمين: هي بس دخلت الحضانة يومين كده، وإن شاء الله هتبقى كويسة.
هبة بقلق: ليه؟ ليه بس؟ الدكتور كانت قايلة لي آخر مرة في المتابعة إن حالتها كويسة.
ساميّة: ياحبيبتي، ماتقلقيش، ده طبيعي، إنتِ أصلاً ضعيفة شوية.
هبة: أنا عايزة أشوفها.
ياسين: الدكتور بس عايز يطمن عليك، وإن شاء الله هتشوفيها.
سليم: حمد لله على سلامتك يا هبة.
هبة بلطف: الله يسلمك، أمال فين ماسة؟ اعمل لها استثناء عشاني طيب.
سليم تبسم: إن شاء الله هتقومي بالسلامة، ومش هتحتاج تيجي، بكرة بإذن الله هتبقي في بيتك وتقعدوا سوا.
فايزة: حمد لله على السلامة.
هبة: الله يسلمك.
دخل الطبيب وبدأ بفحص هبة، كان يبدو عليه القلق. بدأ يقيس حرارتها، وطلب من الممرضة: أن تاتي له بخافض للحرارة.ثم قام بحقنها.
ياسين بقلق: خير يا دكتور؟ في حاجة؟
الطبيب: لا، بس المدام حرارتها مرتفعة شوية. إن شاء الله هتبقى كويسة، لكن اللي خايف منه إننا نكون بداية…
قاطعته سامية بقلق: تقصد إيه يا دكتور؟ خايف من إيه؟ انها تكون داخلة في حمى نفاس.
الطبيب: المدام تعبت معانا في العمليات، وهي ضعيفة جداً. إن شاء الله تكون مجرد أعراض بسيطة وهتروح، مش هتوصل لحمي النفاس.
سامية: وأمتى هتحددوا؟
الطبيب: التحديد بيكون مع الأعراض. لو الحرارة استمرت وارتفعت مع شعور بالتعب الشديد، هنكون متأكدين من كل حاجة. الأهم من ده كله، مافيش حركة، مش هينفع تتحركي دلوقتي.
هبة بصوت ضعيف: بس أنا عايزة أشوف بنتي.
الطبيب بحزم: مش هينفع دلوقتي خالص يا مدام هبة. يعني حضرتك عايزة تنتقل لها العدوى؟ إنتِ حرارتك مرتفعة، ٣٧ ونص درجة. الطفلة في الحضانة، وأي حركة منك ممكن تؤثر عليكِ بشكل سلبي. انتظري شوية، مجرد ساعات. ولو لقيتك بقيتي أحسن، هاخدك بنفسي وأوديك تشوفيها، مفيش أكل خالص دلوقتي، هنكتفي بالمحاليل إن شاء الله معافية.
خرج الطبيب مع الممرضة نظر ياسين الى فايزة متسائلا: يعني ايه حمي النفاس دي؟!
سامية: يعني درجة حرارتها بترتفع، تحس إنها تعبانة ومش مش دارية بالدنيا، هي شبه الحمى كده يا ياسين.
نظر ياسين لهبة بقلق هو يمسح على شعرها: إن شاء الله مش هيحصل حاجة اسمعي الكلام بقى.
فريدة: خير إن شاء الله، مش هيحصل حاجة.
فايزة بقلق: طب احنا كده ملناش لازمة هنا، أنا همشي بقى. حمد لله على سلامتك يا هبة.
وجهه فايزة وجهها إلى عزت: إيه يا عزت جاي معايا والا قاعد.
عزت: أنا هقعد شوية.
فايزة: طب يلا، إنتي يا فريدة، سليم، أنت طبعاً قاعد.
سليم بهدوء: أممم، هاجي مع بابا.
خرجت فايزة مع فريدة وتوجهتا إلى القصر، بينما جلس عزت وسليم مع ياسين ليواسيانه في هذه اللحظات الصعبة.

قصر الراوي العاشرة مساءً
جناح سليم – ماسة
نرى ماسة تجلس على الأريكة، والهاتف في يدها، والتوتر يظهر عليها بعد قليل، دخل سليم الجناح وكان يبدو عليه التعب، فور أن رأته ماسة توقفت و ركضت نحوه.
ماسة بقلق: سليم، طمني، هبة عاملة إيه؟
سليم وهو يأخذ نفسه: استني بس أقعد، تعبت جداً.
تحرك سليم، وماسة قامت بمساعدته حتى جلس على الأريكة. أخذت منه العكاز ووضعته على الجنب. جلست بجانبه وهي تمسح على قدمه بحنان.
ماسة: شكلك وقفت كتير.
سليم هو يمد وجهه: مش أوي، بعدين لازم أعود رجلي، الدكتور قال لي كده.
وضعت ماسة قبلة على فخذه وهي تمسح عليه بحنان: سلامتك ياروحي. طب، إيه هبة عاملة إيه؟ طمني، مافهمتش حاجة منك في التليفون.
سليم: الدكتور شاكك إن عندها حمي النفاس، بس في البداية.
ماسة بخضه: يانهار أبيض، ياروحي! إن شاء الله مايحصلهاش حاجة.
سليم: بإذن الله.
ماسة: طب البيبي عاملة إيه؟ وسموها إيه؟
سليم: دخلت الحضّانة، لسه ماسموهاش. مستنيين هبة تبقى كويسة عشان يسموها.
ماسة زمت شفتيها بحزن: ياروح قلبي، طب دخلت هي كمان الحضّانة ليه؟
سليم: تنفسها مش منتظم، إنتِ عارفة، هبه ضعيفة، وكانت تعبانة في حملها.
ماسة بتعاطف: يا رب تقوم بالسلامة إن شاء الله.. سليم أنا لازم أروح أشوفها.
سليم بحزم: بس إحنا اتكلمنا في الموضوع ده ونهيناه.
ماسة بضجر: لا، مش هننهيه. مش هينفع، هبة دي مش مجرد مرات أخوك، هي صديقتي وأختي، وأنا بحبها زي مابحب سلوى.
سليم بضيق: ماسة من فضلك اهدي الموضوع مش محتاج عصبية.
ماسة باستهجان: أنا مش متعصبة، لكن هروح ياسليم شوف انت هتتصرف إزاي؟ هتمشي ورانا جاردات؟ هتخلي المستشفى ترسانة؟ ماليش دعوة، ده تعب، ده مش حاجة عادية.
سليم تنهد: إن شاء الله مايحصلهاش حاجة، وأعتقد إنها هتخرج بكرة.
ماسة بحزم: لو ماخرجتش بكرة والدكتور قال كده، أنا هروح.
سليم: ياماسة هي أكيد هتعذرك.
ماسة برفض: مفيش حاجة اسمها تعذرني، سليم ماتهزرش، ماليش دعوة.
سليم بيأس: طب سيبي بكرة لما ييجي.
ماسة: ماشي، هسكت، ومش هعمل حاجة، بس عايزة أفهمك، لو بكرة رفضت وعملت اللي بتعمله ده، هيحصل خناقة كبيرة بيننا.
رفع سليم أحد حاجبيه: أنتِي بتهدديني؟
ماسة: لا، أنا بقول لك اللي هيحصل لو رفضت، كفاية اوي. إنك النهاردة رفضت، وماخلتنيش أكون معاها في أكتر وقت المفروض أكون جنبها، لكن تطول في المستشفى وتدخل في تعب هي وبنتها، وماروحش أنا آسفة بجد.
نظر لها سليم بصمت دون رد.
وقفت ماسة وواصلت: أنا هروح أحضر لنا العشاء، عشان أنا ماتعشيتش ومستنياك تحب أساعدك، وإنتَ بتلبس.
هز سليم رأسه بلا بصمت.
تحركت ماسة بخطوات قليلة، ثم توقفت. استدارت ونظرت له تساءلت بابتسامة
ماسة: سليم شفتها؟
سليم رفع رأسه متعجباً: شفت مين؟
ماسة بإبتسامة: شفت البيبي، حلوة، شيلتها.
نظر لها سليم لوهلة بوجع أذاب قلبه، لا يعرف لماذا شعر بذلك الألم داخل قلبه وعينيه فجأة سكنتها الدموع، لكن لم تهبط على خديه قال بنبرة يخنقها الوجع: كانت جميلة زي باباها ومامتها، بس ماشيلتهاش.
ماسة ببراءة: ليه؟ ده شعور. حلو أوي، الإحساس حلو أوي، أنا بحب أصلاً الاطفال في العمر ده إنت عارف.
نظر سليم وقال بنبرة متألمة: افتكرت حور…مقدرتش أشيلها.
نظرت ماسة بصمت، عاجزة عن العثور على كلمات تُعبّر بها. شعرت بالوجع ذاته الذي اعتصر قلب سليم، وبرودة اجتاحت جسدها كأنها أصابتها حالة من التجمد. اكتفت بهز رأسها بصمت قبل أن تتحرك نحو الخارج.
أحيانًا، لا تُجد من الكلمات نفعًا في لحظات معينة.
خرجت وأغلقت الباب خلفها، وحينها فقط سمحت لدموعها بالانسياب. وضعت يديها على قلبها وربتت عليه برفق. يبدو أن هذا الألم وهذا العذاب، لن يبرأ بسهولة، حتى مع مرور شهور طويلة.

المشفي العاشرة مساءً
الممر الموصل الى الحضانة
نرى ياسين يسير بجانب هبة، التي تتحرك بصعوبة وهي مُعلقة بالمحاليل. تبدو متعبة بينما تتجه نحو النافذة الزجاجية المطلة على الحضانة. توقفت أمامها بوجع، وعيناها تملؤهما المشاعر المختلطة.
هبة بابتسامة ممزوجة بحزن، تنظر إلى الطفلة: روحي نفسي… أحضنها.
ياسين يحاول تهدئتها: هتحضنيها، بس إنتي دلوقتي محتاجة ترتاحي.
هبة بصوت مبحوح: أنا خايفة يحصل لي حاجة..
قاطعها ياسين بصوت حاسم: بعيد الشر عليكي… ماتقوليش كده.
هبة وهي تضع يديها على رأسها بصوت متعب: أنا تعبانة أوي.
ياسين وهو يسحبها بلطف من كتفها: طب تعالي نرجع الأوضة.
هزت هبة راسها برفض: لا، سيبني شوية، عايزة أشوفها واشبع منها.
لاحظ ياسين تعبها: حبيبتي، إنتِ مش قادرة تقفي.
هبة بابتسامة جميلة مليئة بالشوق: خمس دقائق بس وحياتي يا ياسين.
هز ياسين رأسه بحزن… بينما ظلت هبة واقفة في مكانها، متسمرة، تنظر إلى ابنتها بعينين يغمرهما الشوق والحنين. قلبها يفيض برغبة عارمة لاحتضان صغيرتها، لكنها كانت مقيدة بضعفها ومرضها. همست لنفسها بأمل: متى أتعافى لأضمك بين ذراعي وأروي عطش حبي لكِ؟

في إحدى صالات السينما الرابعة مساءً
نرى سلوى وصالح يقفان أمام بائع التذاكر لشراء تذاكر لأحد الأفلام. نظر صالح إليها متسائلًا:
صالح: تحبي تقعدي فين؟
سلوى وهي ترفع كتفها: أي مكان.
صالح: تمام، أشار للبائع ممكن نقعد هنا؟
قطعوا التذاكر وتحركوا، بينما كان مكي يقف على بُعد، يراقبهم بصمت. وأثناء سيرهما في الممر، توقفا عند بائع الفشار.
صالح بلطف: تحبي أجيب لك فشار ولا بيبسي؟ أو إيه تاني تحبي؟
سلوى: ماشي، هات فشار.
اشترى صالح الفشار وتوجها مع العامل إلى صالة السينما، حيث ساعدهم في الجلوس. بعد قليل من جلوسهم، نرى مكي يجلس في مقعد خلفهم بصف.
صالح: الفيلم هيعجبك اوي، كوميدي زي مابتحبي.
سلوى: بس مش عايزة أتأخر.
صالح: مش هانتأخر، هنخلص الفيلم نتغدى وتروحي، وبعدين مش أنتِي أستأذنتي مامتك؟ خلاص بقى.
هزت رأسها بإيجاب، بدأت الأضواء تنطفئ، واشتغل الفيلم بدأت سلوى تركز في المشاهدة، وهي تضحك، وصالح أيضًا كان يضحك. بينما مكي يراقبهم عن كثب.
أثناء تركيز سلوى في الفيلم، وهي تضحك وتتناول الفشار، حاول صالح أن يضع ذراعه حول ظهرها، لكن بتردد. وعندما لاحظ مكي ذلك، سيطر عليه الشعور بالغيرة، فقام بدفع الشاب الذي يجلس أمامه برفق، مما تسبب في سقوط شرائح الشيبسي التي كان يتناولها على صالح. استمر مكي في الضحك والتحدث مع الشخص الذي بجانبه، وكأن شيئًا لم يحدث.
صالح بضجر نظر خلفه: مش تاخد بالك؟
الشاب: أنا آسف، بس الشخص اللي ورايا هو اللي زقني. مش عارف ليه.
نظر صالح خلفه، لكن مكي اختفى في لمح البصر.
سلوى بهدوء: معلش يا صالح حصل خير، أقعد كمل الفيلم.
هزَّ صالح رأسه وأكمل مشاهدة الفيلم، بينما عاد مكي إلى مكانه، وما زال يراقبهم.
وبعد الانتهاء، توجه صالح وسلوى إلى أحد المطاعم للوجبات السريعة بالقرب من السينما لتناول الطعام.
في أحد المطاعم السابعةمساء
نرى سلوى وصالح يجلسان أمام بعضهما على إحدى الطاولات، يتناولان الطعام ويتبادلان الأحاديث.
سلوى بسعادة: الفيلم كان تحفة بجد! هخلي ماسة تتفرج عليه.
صالح متعجباً: هتخلي ماسة تتفرج عليه إزاي؟ وهو مانعها من الخروج زي مابتقولي؟
سلوى بتوضيح: هو صحيح منعها من الخروج، بس ممكن يجيب لها الفيلم لحد عندها.
صالح: طبعًا، هو أي حد !! ده سليم الراوي بيعمل اللي هو عايزه. قولي لي بقى، إحساسك وإحساس ماسة والعيلة كلها بعد ما اتجوزت اختك سليم الراوي؟
سلوى بإبتسامة: أكيد شعور جميل، لما حياتك كلها تتقلب فجأة، من مجرد خدام محتاج وحزين متهان، آخر حاجة ممكن عينك تشوفها او عقلك يتمناه، ان يجيلك لبس جديد بتاعك مايكونش حد لبسه قبلك، أو إنك تتجوز وتترحم من الخدمة أو يجي لك يوم إجازة أو يعدي أسبوع على بعضه من غير ماتتضرب وتتهان، لكن فجأة حياتك تتحول لحاجة تانية، تبقى زيك زي إللي كنت بتخدم عندهم وكل حاجه بقت مسموحة، كل حاجة ممكن تتمناها هتبقى تحت ايدك، ف أكيد إحساس حلو. بس على فكرة، في الوقت ده، أنا وماسة مكناش فاهمين يعني إيه تتجوز سليم الراوي.. اللي كنا فاهمينه إنه سليم بيه، ابن عزت باشا والهانم فايزة، وإننا ربنا تاب علينا من الخدمة، وعشنا حياة حلوة، ده اللي كان مفرح قلبنا. لكن بعد ماكبرنا، فهمنا أكتر وفهمنا إن ربنا بيحبنا يعني ما كناش فاهمين مين هو فعلا سليم الراوي.
صالح، وهو يمد وجهه بتساؤل: بس أكيد مع مرور السنين، في الحياة اللي عشتوها، واللي واضح جدًا إنكم كنتم محرومين فيها من حاجات كتير، بقيتم سعداء، صح؟
سلوى: طبعًا، حقيقي، سليم عمل حاجات كتير عشاننا، ولولاه مستحيل كنا نوصل لحاجة بسيطة من اللي احنا فيها من غيره. بس أنا بحاول أوضح لك إن اللي كان بيفرحنا حاجات معينة، مش جواز أختي من سليم بيه، فاهمني؟
صالح بتفهم: أيوه، فاهمك كويس. أي حد كان هيوفر لكم اللي سليم وفره، الرحمة من الخدمة، المعاملة باحترام، وحياة كريمة، بالنسبة لكم كان هيكون حاجة كبيرة. لكن لما عرفتم سليم، والامتيازات اللي قدمها لكم، أكيد الموضوع فرق، صح؟
سلوى بتوضيح: والله حتى بعد كده، مافرقش. إحنا بنحب سليم كشخص، مش عشان هو راجل غني أو صاحب سلطة
سلوى بعد لحظة صمت، تنظر لصالح بفضول: بالمناسبة، كنت عايزة أسألك شوية أسئلة…
صالح وهو يتناول الطعام: أسألي اللي عايزاه.
صالح، وهو يبتسم بخفة وينظر بعيدًا كأنه يتخيل المستقبل: بصراحة، نفسي يكون عندي مشروعي الخاص، شركة توظيف أموال. حاجة أقدر أديرها بنفسي، وأكون مسؤول عن نجاحها، بدل ما أشتغل عند حد طول عمري.
سلوى، وهي تميل برأسها باهتمام: يعني مش شايف نفسك تفضل في شغلك في البنك؟
صالح، وهو يهز رأسه بثقة: الشغل في البنك كويس، بس في الآخر، أنا مجرد موظف، مهما اجتهدت هافضل محكوم بسقف معين. لكن لو عندي شركتي الخاصة، ساعتها النجاح أو الفشل هيكون بإيدي أنا، وده إحساس مختلف تمامًا.
سلوى، وهي تبتسم: واضح إنك مخطط لحاجات كبيرة… وإنك مش عايز تفضل مجرد موظف.
صالح، بابتسامة جانبية: بالضبط، نفسي أبني حاجة تبقى باسمي، حاجة أفتخر بيها.
سلوى، وهي تنظر لصالح بجدية: طب لو أنا، مثلًا، عملت حاجة زعلتك بعد الجواز، ممكن تعمل إيه؟
صالح، وهو يهز كتفه: على حسب.
سلوى، بتردد: مش عارفة… يعني لو غلطت ورديت عليك بطريقة زيادة، ماسمعتش كلامك، عاندتك كلمتك بصوت عالي مثلاً.
صالح، بنبرة نصف جادة ونصف ساخرة: بصي، الأفضل إنك ماترديش عليَّا أصلاً ولا تزعليني، لأن إيدي طويلة حبتين.
صمتت سلوى وأخذت تحدق فيه للحظة، وهي تُعيد شعرها للوراء.
صالح، مسترسلًا: يعني، مثلًا، لما أخواتي البنات يضايقوني أو مايسمعوش الكلام، أو أفضل أنادي عليهم ومابيردوش، مش بمد إيدي جامد، لكن ممكن أزقهم، أمسكها من كتفها، أو أديها خبطة خفيفة.
سلوى، بتركيز: يعني الضرب عندك حاجة عادية؟
صالح، ببساطة: طبعًا. وأكيد ده بالنسبة لك مش حاجة غريبة. أنتِي جاية من بيت الضرب فيه عادي، ماعتقدش إنكم بتتعاملوا هناك بالمنطق والكلام الفارغ ده.
سلوى، بضيق: ملكش دعوة باللي أنا شفته في بيتي.
صالح، مستنكرًا: إزاي يعني؟
سلوى، بحزم: يعني علاقتنا بعد الجواز ملهاش علاقة بتربيتي أو بتعاملي مع أهلي.
صالح، بابتسامة جانبية: إزاي بقى؟ شوفي، اللي اتعودتِي عليه في بيتك هو اللي هتستنيه مني، لكن لو كنتي جاية من بيت مافيهوش ضرب ولا زعيق، والراجل بيشارك مراته في كل حاجة، ممكن يبقى الوضع مختلف. إنما إحنا زي بعض، أبويا وأمي زي أبوك وأمك، والراجل عندكم بيحط رجل على رجل، وإخواته بيخدموا عليه.
سكت لحظة، ثم أكمل بنبرة صريحة: بعدين، أنا طبعي صعب، مش مرن. لازم تكوني عارفة ده من الأول. لو حصل وضربتك مرة، مش هتقعدي بقى تعيطي وتنكدي وتتأثري وتعملي دراما. هتتحملي وتعديها. لكن لو جاية من بيت مختلف، وقتها هتفهم ليه زعلتي وعيطتي. أما موضوع المشاركة في كل حاجة، أكيد ماسة مش هتسيبك كده.
سلوى، متعجبه: يعني إيه ماسة مش هتسيبني كده؟
صالح، وهو يبتسم بثقة: يعني أكيد هتساعدك بعد الجواز، وممكن تجيب لك خدامة. كده مش هنحتاج نتشارك في أي حاجة، ولا هيبقى فيه الكلام ده أصلاً.
سلوى، بجدية: أنا مش هخلي سليم ولا ماسة يصرفوا عليا بعد الجواز. كفاية اللي عملوه معانا لحد ماوصلنا للي إحنا فيه. أنا قاعدة معاك دلوقتي كزوجة مستقبلية، لكن ماسة مراته، وهي ملزمة منه، إحنا لأ.
صالح: هو بعايركم بحاجة.
سلوى، مستنكرة: يا نهار أبيض، هو في زي سليم؟! عمره ماعملها! بس الواحد لازم يكون عنده دم.
سلوى: أنا عايزة أسألك، هو انت قلت لأهلك إني كنت خدامة، وإن أهلي كانوا خدامين؟ لأني حاسة إنهم مش عارفين.
صالح بتردد: لا… هم مايعرفوش حاجة. قلت لهم إنكم ناس على قد حالكم، علشان لما عرفوا إني هتقدم لك، قالوا إزاي؟! دي مرات سليم الراوي. بس… حذفت جزء إنكم كنتوا خدامين، وإنكم مش متعلمين، وكنتم… جهلة.
سلوى بحزم وملامحها يكسوها الضيق: بس إحنا مش جاهلين، إحنا تعلمنا. كان ممكن أدخل الجامعة السنة دي، لكن استنيت أختي. أنا بتكلم أكتر من لغة، ولو قعدت مع أي حد، مستحيل يفتكر إنني كنت في يوم خدامة. أهلك بقى، إيه مشكلتهم؟ هيقبلوني ولا هيرفضوني عشان حقيقتي زمان؟ الحقيقة اللي مستحيل أهرب منها أو أنكرها؟
صالح مشيحًا بنظره عنها: مش هيرفضوكي ولا حاجة، انتي عارفة المواضيع دي فيها شوية كلام كده، وأنا مش عايز أعمل حوارات دلوقتي. خلاص يا سلوى، مافرقتش، الناس على قد حالهم، كله هيمشي.
سلوى هزت رأسها، ثم قالت: طب يلا نمشي علشان ما أتأخرش.
هز صالح رأسه بإيجاب، ثم تحرك مع سلوى التي كان شعور الاختناق والضيق يسيطران عليها من حديثه. كانت كلمات صالح تتسلل إلى قلبها وتثير شكوكًا لم تكن قد انتبهت لها من قبل. بدأت تفكر في نفسها، وشعرت بأنها تسرعت في قرار الارتباط به. كل كلمة قالها زادت من توترها وأثارت تساؤلاتها عن مدى جدوى هذا القرار، وعن مدى توافقه مع من كانت تأمل فيه من حياة مشتركة. كانت تدرك أنها ربما لم تفكر بما فيه الكفاية في ما يتناسب معها، وفي المستقبل الذي كانت تتخيله.
حاولت أن تلتزم الصمت، ولكن مشاعرها المتناقضة كانت تلاحقها. كانت تسير بجانبه، ولكنها لم تشعر بالاطمئنان، الذي كانت تتوقعه.
كل ذلك كان مكي جالسًا بالقرب منهم، دون أن يلفت انتباههم، يراقبهم عن كثب، يتابع كل حركة وكل نظرة، محاولًا التقاط أي إشارة قد تكشف عما يدور بينهم.

قصر الراوي – الحديقة السابعة مساء
تجلس ماسة في الحديقة مع سحر الخادمة، يتبادلن الحديث في جو من الألفة.
ماسة تضحك: والله ياسحر، إنتِي فظيعة!
سحر ترد بمرح: أعمل إيه يا هانم؟ أسيبهم ياكلوني؟
ما تعرفيش يا هانم اهل جوزي دول عايزين الذبح كل ده عشان جيتش عيال طب انا اعمل ايه ابنهم ما بيخلفش.
ماسة تحتسي النسكافيه وتجيب بابتسامة: لا، ابطحي رأسهم! والله يا سحر انا نفسي اعمل كده والله زيك بس مش هعرف.
أثناء حديثهما، يقترب سليم وياسين. تقف سحر احترامًا، بينما تنهض ماسة وتتوجه نحو سليم.
ماسة بحماس: حمد لله على السلامة ياقلبي.
تقبّله على خده بحنان.
سليم يلف ذراعه حولها: الله يسلمك.
وجهت ماسة نظراتها نحو ياسين وسألته بقلق: طمّني على هبة؟
ياسين بحزن: للأسف، دخلت في حُمّى النفاس… لسه في البداية.
ماسة بحزن: ياقلبي… متقلقش، هتبقى كويسة مدام في الأول.
ياسين بقلق متزايد: خايف أوي يا ماسة… قرأت عنها على النت وعرفت إنها ممكن تسبب الوفاة
سليم بهدوء: بعد الشر، يا بني! الدكتور طمّنك وقال لك إنها بسيطة لأنهم متابعين الحالة من الأول.
ماسة تؤكد: بالضبط، مدام لسه واعية وبتتكلم، يبقى الموضوع بسيط.
أضافت سحر: فعلاً يا بيه، أختي حصل لها كده. فضلت شهر ونص تعبانة وبقت فل، المهم تاخد دواها.
ياسين بصوت متضرع: يا رب ياسحر.
سألت سحر: تحبوا أعملكم حاجة؟
ماسة: حضّري العشاء.
ياسين برفض: لا، أنا هغير لبسي.
وجه سليم حديثه لياسين: اقعد يابني، اللي انت فيه ده مش هيصلح حاجة، بدل ما أتحول عليك سحر حضر يلا العشا هنا احنا التلاته.
هزت سحر راسها بإيجاب، تتوجه إلى الداخل لتحضير الطعام.
بينما تقترب ماسة من ياسين وتحاول طمأنته: بإذن الله هتكون بخير. والله بدعيلها وأنا بصلي، اجمد كده.
ياسين يرجوها: ادعي لها يا ماسة بالله عليكي، أنا هروح أبدل لبسي.
يغادر ياسين بخطوات مثقلة بالحزن.
ماسة تنظر له بأسى وتعلق بصوت منخفض: حرام، زعلان أوي.
سليم يجيب بنبرة خفيفة: طبعاً، مش مراته حبيبته.
ماسة تسأله: طيب، والبنت عاملة إيه؟
سليم: أحسن، احتمال تخرج من الحضانة بكرة.
ماسة بقلق: لازم حد ياخدها، مش هينفع مامتها تشوفها في الحالة دي، ممكن تتعدي.
سليم مؤكدا: أكيد واحدة من خالاتها هتستلمها.
ماسة بدعاء: ربنا يشفيها يا رب وتخرج بالسلامة لبنتها.
تلفتت نحو سليم وقالت بحزم: اعمل حسابك بكره أنا جاية معاك.
سليم محاولا تهدئتها: ماسة، إحنا اتكلمنا في الموضوع ده.
جلست ماسة بجانبه وردت بحسم: موضوع إيه؟ إنت وعدتني.
سليم بنفي: لا، أنا ماوعدتكش. قلت لك بكرة هنشوف.
ماسة بإصرار: طيب، واهي مخرجتش. وتأكدت إن جالها حمى نفاس. لازم أروح لها.
سليم منهيا النقاش: لا، مش لازم. ماسة، من فضلك، بلاش نتخانق. قدري الوضع اللي إحنا فيه، مش هفضل كل شوية أقولك نفس الكلام.
ماسة محاولة استعطافه: أنا مقدرة الوضع، والله العظيم. بس دي أختي. لازم استثناء، يا سليم. أنت ودتني خطوبة سلوى.
سليم بتوضيح: أنا كنت عارف إنك لو مارحتش هتطلبي الطلاق. بس دي كانت فيلا، أقدر أأمنها. لكن مستشفى؟ صعب.
أمسكت ماسة يده محاولة إقناعه: ياكراميل، ياحبيبي، ده تعب كبير وهي لسه في أوله. بعد كده مش هقدر أزورها لما تدخل في التعب الجامد ومش هتكون واعية لأي حاجة. ربنا يخرجها بالسلامة..
بس إزاي مشوفهاش ومكنتش جنبها؟ والله فاهمة خوفك ومقدرة. وقبلت قرارك لما منعتني من الخروج. هو انا طلبت منك أخرج بعد كده؟ بالعكس، تفهمت الوضع وتعايشت معاه. لكن في حاجات لازم يكون فيها استثناء، زي تعب أختي.
سليم بحزم: ماسة، المستشفى أأمنها إزاي؟
ماسة اقترحت: زي ما مكي كان بيأمن المستشفى وانت تعبان. كلم مكي وإسماعيل. وحياتي، ساعة واحدة بس. والله ماهطلب منك حاجة تاني.
سليم بتنهد: طيب، سبيني أشوف هعمل إيه.
ماسة تبتسم وتطبع قبلة على خده: روحي إنت ياكراميلتي.
سليم بشدة: بس مش بكرة. لازم أحط خطة مع الرجالة.
ماسة بتحذير: بس ماتطولش عن كده.
سليم بإيجاب: طيب.
ماسة تضمه بحب: انت أحلى سليم في العالم.
نبهها سليم محذرا: بس دي آخر مرة. والله مش هتحصل تاني، مهما كان الوضع. أنا مش هجازف بيكي.
ماسة بهدوء: حاضر، بس انت لازم تشيل الفكرة دي، مافيش حد. دي مجرد أوهام.
سليم نظر لها بجدية: احترمي أوهامي الفترة دي، ممكن؟
أجابته ماسة بخضوع: حاضر.
ابتسم سليم قليلاً: تعالي، أوريكِ حاجة.
توقف ثم تحرك بدون العكاز، مشى بضع خطوات، لكن ظهر عليه قليل من عدم الاتزان.
تابعت ماسة خطواته بعينيها بابتسامة عريضة، ثم توقفت قائلة: الله! حلو أوي، مبروك يا سليم!
سليم وقف أمامها: بس لسه رجلي مش متزنة وفيه شوية وجع.
لاحظت ماسة: فعلاً، لاحظت ده. بس أكيد ده طبيعي عشان لسه في الأول. فترة بسيطة وكل ده هيعدي، بس لازم تبلغ الدكتور.
طمأنها سليم: بلغته، وهو جاي بكرة عشان هنغير التمارين.
ماسة بسعادة: أخيراً أخبار حلوة! الحمد لله يا حبيبي. لازم تصلي ركعتين شكر.
سليم يبتسم: أكيد، الحمد لله.
تدخل سحر: العشا جاهز.
سليم يسألها: بلغتي ياسين؟
أجابت سحر: أيوة، وحطيت الاكل على السفرة.
شكرتها ماسة: شكراً يا سحر، روحي إنتِ.
توجهت ماسة وسليم نحو السفرة، لكن سليم أمسك العكاز مرة أخرى ليستعين به.
فيلا عائلة ماسة
الحديقة الثامنةمساء
نرى سلوى جالسة في الحديقة على مقعد، تفكر بعمق فيما قاله صالح. تشعر أن الأفكار تتصادم في رأسها، فقد مر على خطبتهما شهر فقط، لكن كلماته كانت صادمة لها. طريقة تفكيره جعلتها تشعر بأنها وضعت نفسها في مأزق عندما وافقت على خطبته، لكن كيف كان لها أن تعرف طريقة تفكيره هذه، فالخطبة كانت من أجل ذلك الشيء؟ أخذت تفكر وتفكر، ماذا تفعل؟ لكن دون إرادة منها، تذكرت مكي وحديثهم منذ سنوات، في مرة.
نرى سلوى تجلس في الشرفة، واضعة الهاتف على أذنها، تضحك بخفة بينما تتحدث مع مكي. على الجانب الآخر، يجلس مكي في غرفته، مستلقيًا على السرير، يبتسم وهو يرد عليها، صوته يحمل مزيجًا من المرح والدفء. الضحكات تتردد بينهما، كأنهما عادا للحظات إلى زمن لم يكن فيه شيء يعكر صفوهما.
سلوى وهي تضحك: بعد كل الخناقات دي، أكيد مراتك لازم تخاف منك.
مكي بتعجب: ليه؟
سلوى: لأن واضح إنك عصبي وبتمد إيدك.
مكي بعقلانية: ده شغل طبيعي أني أكون كده، لكن مراتي حاجة تانية.
سلوى تساءلت: يعني مستحيل تضربها مهما استفزتك؟
أجابها مكي بعقلانية وهدوء: طبعًا، بصي أنا عندي ثبات انفعالي، يعني مهما اللي قصادي عصبني بعرف أمسك نفسي، غير سليم، وكمان أمي علمتني وأنا صغير إنه مينفعش أمد إيدي على بنت، عيب ومش رجولة، عارفة يا سوسكا والله، حتى لو كان شاب وعارف إنه أضعف مني، مستحيل أضربه، مينفعش أستقوي على الضعيف، مش رجولة ازاي أضرب ست في العموم، تخيلي لو مراتي، حبيبتي! ازاي امد ايدى عليها وأهينها باباها ادهاني أمانة أخون امانته ليه؟! طبيعي نتخانق ونستفز بعض، لكن في طرق تانية غير الضرب والإهانة عشان أعبر عن انزعاجي منها. بعدين، أنا واخدها من بيت أهلها عشان أهينها؟
سألته سلوى: حتى لو في بيتها كانت بتضرب؟
مكي بهدوء: ماليش دعوة بأهلها، بيتعملوا معاها إزاي. أنا ليّا نفسي، يمكن لو عرفت إنها كانت بتتعرض له، هكون حذر أكتر معاها عشان أنسيها المرار ده وأكون الأمان اللي بتدور عليه عشان تبعد عن بهدلة اهلها ليها.: يا بنتي، الرسول صلى الله عليه وسلم…
سلوى مقاطعة:عليه الصلاة والسلام.
مكي: وصانا بيكم.
سلوى تبسمت: برافو عليك والله
نعود على سلوى، وهي تتذكر وتقارن مكي بصالح رغماً عنها.
اقتربت منها سعدية، وهي تمسك بكوب شاي، وجلست بجانبها، بعد وضعهم على الطاولة، تفحصت ملامحها.
سعدية: مالك يا بت؟ ده شكل واحدة راجعة من خروجة مع خطيبها.
ابتسمت سلوى ونظرت إليها بتفكير.
سعدية باستغراب: قالبة وشك ايه اتخانقتو !!
عدلت سعدية من جلستها قالت بجدية: طب بقولك ايه مافيش خروج تاني، انا وافقت المرتين دول عشان قولت تتعرفوا على بعض أكتر وتعرفوا تتكلموا
براحتكم، وعشان متعمليش حاجة من ورايا، لكن خروج لوحدكم تاني ونخبي على أبوكي واخواتك مش هيحصل، ولو عايزين تخرجوا أنا هاجي معاكم ..بعدين ماتقعدوا هنا الجنينة كبيرة.
سعدية بتوعية: مش عايزين ننسى أصلنا ياسلوي انتي عارفة إنه عيب وحرام.
سلوى: والله حاضر هقوله.
دقدقت سعدية النظر في ملامح وجهها التي يبدو عليها الضيق: مالك يابنتي مش عجباني،قوليلي أنا امك هنصحك.
سلوى بتوضيح: قالي ممكن يضربني لو عملت حاجة غلط.
سعدية بتعجب: ازاي؟!
سلوى عادت بشعرها للخلف قالت: سألته عشان أفهم شخصيته لو حصل بينا مشكلة واستفزيتك هتضربني قالي اه وإني يعني باتضرب منكم عادي لو هو كمان ضربني قولتله ملكش دعوة بأهلي كانوا ازاي قالي اوعي تفكري إني هديكي حاجة ماخدتهاش عند أهلك يعني من الآخر كدة انتي متعودة على الضرب متجيش تعملي عليا ملكة، ومستحيل يسمح آخد موقف منه لو اتضربت ولازم أحط جزمة في بوقي وأعيش.
سعدية: طب ما الراجل صريح أهو معاكي.
اتسعت عينا سلوى بتعجب: صريح؟!
سعدية: اها صريح كان ممكن يقولك مقدرش، ايدي تنقطع ويعملك البحر طحينه زى الشباب مابياكلوا بعقل البنات حلاوة، الراجل صريح يابنتي
كل الرجالة بتضرب ستاتها، صعب لو لقيتي راجل كدة مابيضربش أبوكي نفسه بطل يضربني على كبر ما انتي عارفة.
سلوى باعتراض: لا الضرب ده غلط مافيش راجل محترم يضرب مراته عايزه تفهميني انتي مكنتيش بتزعلي؟!
سعديةبقل حيلة: كنت بزعل بس هعمل ايه يعني مافيش بأيدي غير اني أعيش لأن معظم الرجالة كدة زى ماقولتلك بتضرب وبتشتم.
سلوى: أكيد في ناس محترمة، أنا خوفت منه يا أمي بعدين قالي إنه مش بيشارك ومتعود ان أهله يخدمه عليه وكلام كدة حسيت إنه صعب أوي.
سعدية: بردو كلهم كدة وأوعي تبصي لسليم جوزك أختك هو غير أي حد ماشاء الله عليه
أكملت وهي تنصحها:
يابت هو كدة فاتح ورقه على الآخر، مش لئيم مش بيخبي، انتي بقى اتنصحي وبالكلمة الحلوة وحاضر ونعم وأمرك مش هتخليه يضربك، لو يوم تعبتي قولي له معلش ياحبيبي تعبانة ممكن تعمل إنت هيعمل وممكن يعمل من نفسه، ليه لأنك قبلها عاملة كل الحلو ومريحاه ، الرجل بيحب الست اللي تريحه وتقوله حاضر ونعم وعنيا ليك واللى تشوف ياحبيبي هتخليه زي الخاتم بصباعك شوفي أختك لما سمعت كلامي سليم بيموت فيها.
سلوى: بس سليم أصلاً بيحب ماسة
سعدية: بكره صالح يحبك انتم لسه في الأول.
سلوى بضيق؛ ياأمي صالح طلع مش معرف أهله إننا كنا خدامىن عند قرايب سليم، قالهم اننا على قد حالنا بس.
رفعت سعدية حاجبها: هو قالك؟؟
سلوى: سألته عن السبب قالي أصل الموضوع حساس ماقتنعتش.
سعدية باستهجان: ايه مستعر مننا ده ابن الباشاوت وقف قصاد الكل عشانا ..تصدقي أنا حسيت بس ممشتش ورا دماغي…بصي يابنتي انتي لسه في الأول عشان منظلمهوش اصبري عليه وشوفي أمه واخواته وأبوه بيعاملوكي ازاي حسيتى بأي تكبر ارميله دبلته في وشه اها كفاية أهل سليم.
سلوى: ماشي أنا قولت أديله فرصه وهصلي استخارة.
سعدية وهي تدعو بحنان وترفع رأسها لفوق: يارب يا سلوى يا بنت بطني يصلح أحوالك، ولو صالح ابن نجاة خير ليكي يقربه و لو شر يبعده هو وشره اسمعها مني يارب ويهديك يا سليم ويريح بالك ويرزقك يا ماسة الصبر.
سلوى: ادعيلها ده قافل عليها جامد.
سعدية: غصب عنه يابنتي الراجل حاسس انه بقى ناقص بعد الحادثة كمان انه ماوصلش للمجرمين ده مجننه محسسه إنه مالهوش لازمة ومش راجل.
سلوى: ربنا يصلح الحال.
سعدية: أنا يومين كده وهعزم أهله عندنا عشان نشوف الموضوع ده.
سلوى: طيب.

مرّت ثلاثة أيام على معاناة هبة بعد الولادة وبقائها في المستشفى، ولم تحظَ بزيارة من ماسة حتى الآن، كما نعلم. لكن هذه المرة، استطاعت ماسة إقناع سليم بالموافقة على أمرٍ، مما جعلها أقرب لتحقيق هدفها.
المستشفى (الثانية مساءً)
كان الطابق الذي تتواجد فيه هبة في المستشفى يعج بالحراس المسلحين. الحركة في المكان كانت شبه مقيدة، إذ انتشر الحراس في أرجاء عدة، بدءً من الطوابق المختلفة وحتى المصاعد، ومداخل ومخارج المستشفى، والباب الرئيسي. كأن رئيس الدولة سيزور المستشفى، وليست ماسة.
كان جميع أفراد العائلتين يقفون في الغرفة: والدها، والدتها، إخوات هبة، وخالتها، فايزة، عزت، سليم، وماسة فقط.
يبدو أن حالة هبة ليست مستقرة، كانت معلقة محاليل، ويبدو أنها على وشك الدخول في حمى النفاس بشكل شديد.
ماسة بحب: ألف سلامة عليكي يا روحي، إن شاء الله هتبقي كويسة.
هبة وهي تخرج الكلام بصعوبة الله يسلمك يا ماسة.
ماسة: عندي خبر حلو ليكي، يمكن يخليكي تتحسني بسرعة. الدكتور قال النهاردة هيطلعوا البيبي، وبعدين إنتوا إزاي لسه ما اخترتوش اسم؟
هبة: نسميها على الاسم اللي إنتي اخترتيه… نالا.
سامية: ده معناه إيه؟
ماسة: معناها نعمة أو الشجاعة، في الهند معناها القيادة وفي أفريقيا معناها ملكة.
ياسين بمزاح: يعني انت مش سارقاه مني فيلم سمبا يا ماسه.
ماسةوهي تضحك: الصراحه اه بس بحثت عنه وفهمت المعنى.
سليم: اسم جميل فعلاً.
ياسين: خلاص أنا من هنا ورايح أبو نالا.
فايزة معلقة: بلدي أوي يا ياسين.
وأثناء حديثهم دخل الطبيب.
الطبيب: مساء الخير.
الجميع: مساء النور.
الطبيب : المامي بتاعنا عاملة ايه النهارده.
هبة: تعبانة خالص حاسة إني مش مركزة نفسي تقيل وحرارتي عالية.
الطبيب: احنا هنشوف الكلام.
طلب الطبيب من هبة أن تفتح عينيها ليتم فحصها ويبدأ بقياس حرارتها،، بعد دقائق
ياسين: إيه يا دكتور؟ هي عاملة إيه دلوقتي؟ أنا حاسس إنها تعبانه أكتر.
الطبيب بعد أن فحص هبة: للأسف، المدام حرارتها بترتفع، والظاهر أنها داخلة في حمى النفاس زي ماقلت، لكن إن شاء الله الوضع هيكون مستقر. لأننا بدأنا نشتغل على كورس مضادات حيوية. بإذن الله هتبقى بخير، بس يا ريت الزيارة تبقى أقل من كده عشان ما تأثرش على المريضة.
هبةبتعب: طيب أنا عرفت انكم هتخرجوا البنت من الحضانة النهارده؟
الطبيب: أيوه،. هتخرج النهاردة، بس مش هينفع حضرتك ترضعيها أو تلمسيها غير لما نطمن عليكِ أولاً.
وضع الطبيب شيئًا في المحلول ألف سلامة عليكي، أنا هبعت لك دلوقتي وجبة طعام، لازم تاكليها كلها عشان المضاد الحيوي اللي حطتهولك في المحلول قوي جداً، يا ريت يا جماعة نخفف التواجد في الغرفة شوية بعد اذنكم.
ساميّة: ياسين، هتعمل إيه؟ هتسيب البنت معانا؟
ياسين: ماعنديش مشكلة، لأني مش هقدر أخد بالي منها لوحدي
هنا: بس إنتي مشغولة يامامي، وبتروحي الشغل هتعملي ايه؟ يا ريت كان ينفع أخدها بس أنا عندي ولادي الاتنين عندهم برد خايفة يعدوها، كمان بروح الشغل.
هايدي: طب ابعتها انا تقعد مع الولاد والداده بتاعتهم تاخد بالها منهم وانا هباشر معاهم في التليفون وحتى هبة تبقى تبص على البنت في التليفون
خالتها: هو انتي اللي هتباتي معاها.
هايدي: أنا اللي هبات معاها. أنا وهنا بنتبدل مع بعض
سامية: اذا كان انتي ولا أختك أولادكم أشقيا، لا تيجي عندي أحسن، تقعد مع الدادة بتاعتها وأنا لما أجي أطمئن عليها، هو أنا يعني هعمل حاجة أنا هباشر بس.
خالتها: بس البنت محتاجة رعاية معينة.
سامية: طب هنعمل ايه؟
كانت ماسة تراقب الموقف بحزن عميق وضيق بالغ من أجل الطفلة نالا، التي لم يمضِ على ولادتها سوى أيام معدودة، ورغم ذلك لم يكن لها مكان ثابت تشعر فيه بالاستقرار. شعرت بثقل الأمر على قلبها، غير قادرة على تقبل فكرة بُعد الطفلة عن والدتها، خاصة أن هبة ما زالت في المستشفى ولا أحد يهتم بها سوى المربية. كان المشهد قاسيًا، وكأن الصغيرة معلقة بين عالمين، لا تنتمي بالكامل لأي منهما.
تبسمت فجأة وكأن فكرة قد طرأت على بالها، ثم قالت بهدوء وطيبة: أنا ممكن أخدها، أنا قاعدة ومش بشتغل، وفاضية 24ساعة هعرف آخد بالي منها كويس، أوضتها وكل حاجتها موجودة في القصر، باباها كمان موجود. بلاش الدادا والكلام ده، أنا هاخد بالي منها لحد ما هبة تقوم بالسلامة وفي أي وقت حابين تشوفوها ممكن تشوفوها.
فور أن نطقت ماسة بتلك الكلمات، التفت سليم نحوها بنظرة حادة مليئة بالاستياء، لكنه لم يقل شيئًا. بدا وكأنه يحبس اعتراضه بداخله، مدركًا أن الموقف لا يسمح بأي تعليق.. صمت للحظة، ثم أشاح بنظره بعيدًا.
خالة هبة بنوع من الاستخفاف: بس انتي هتعرفي تاخدي بالك منها ازاي، يعني انتي تعرفي بالحاجات دي.
نظرت لها ماسة بابتسامة: أنا كان فاضل لي 10أيام بس وأكون أم، لكن الحمد لله على كل شيء. ماتقلقيش، يا هانم انا بعرف آخد بالي من الاطفال من وأنا صغيرة جداً، احنا متعودين انا كنت باخد بالي من يوسف أخويا من وأنا عندي سبع سنين وهو كان يا دوبك سنتين.
خالة هبة بإحراج: أنا ماقصدش بس انتي يعني مهما حصل في الأول في الآخر انتي مرات عمها فجدتها أولى بيها.
سليم بشدة: بس هي برده هتعيش في بيت جدتها وجدها هتعيش مع عيلتها والأهم من كل ده هتكون جنب باباها وبعدين يعني ايه مشكله يعني مرات عمها في مقام عمتها بالظبط.
هبة تبسمت: ماسة مش بالنسبالي مرات أخو جوزي، هي اختي وصديقتي. ومش هلاقي حد أأمن منها على بنتي. خليها معاكي ياماسة أنا عارفة إنك هتاخدي بالك منها كويس حتى تكون جنب ياسين.
ماسة بحنان: ورقه ثقتك يا حبيبتي، إن شاء الله هتبقي كويسة. ربنا يقومك بالسلامة. إن شاء الله هيفوت كم يوم، وبعد كده إنتي إللي هتيجي تاخدي بالك منها بنفسك.
هبة بتمني: إن شاء الله.
ياسين: إذن، أنا أروح أجيب البنت عشان أديها لك ياماسة، عشان تاخديها. الدكتور شبه، طردنا كلنا.
ماسة: خلاص، ماشي.
هبة: من فضلك، بس يا ماسة قبل ماتمشي خليني أبص عليها.
ماسة: طبعًا ياحبيبتي.
بدأ الجميع بالخروج من الغرفة، توقفت ماسة في الممر، بينما كان سليم يقف أمامها بانتظار ياسين ليجلب الطفلة. نظر إليها بضيق، لكنها لم تلتفت إلى ملامحه، كانت غارقة في سعادتها. ابتسامة مشرقة رسمت على ثغرها، غير منتبهة لعبوسه أو لصمته الطويل. كل ما يشغلها الآن هو أن الطفلة ستمكث معها لبعض الوقت
بعد ثواني اقترب ياسين وهو يحمل الطفلة
أعطاها لماسة. فور أن حملتها ماسة، شعرت بمشاعر غريبة اقتحمت قلبها. أخذتها بين أحضانها بسعادة.
قالت: يا روح قلبي، انتي عاملة إيه؟ حمد لله على سلامتك، إن شاء الله انتي وماما تبقوا كويسين. ايه القمر ده، انتي حلوه كدة لمين ها؟! يا ماشاء الله.
سليم نظر لياسين متسائلا: هتقعد شوية؟
ياسين برجاء: آه، هقعد شوية. خدي بالك منها يا
ماسة.
ماسة بلطف وهي تنظر للطفله: إنت بتوصيني على بنت أختي؟ دي بنتي بالظبط: يلا قولي باي باي لبابا.
توقفت ماسة على الزجاج لكي تراها هبة. كانت هبة تقف أيضًا، وهي تستند على ذراع شقيقتها هايدي.
هبة بدموع:يا عمري، حبيبتي، كان نفسي أخدك في حضني.
ماسة: هبة، ماتعمليش كده عشان ماتتعبيش. قولي لها يا مامي، خفي بسرعة عشان تاخديني في حضنك. خليكي قوية زي ماطول عمرك قوية.
هبة بدموع: هخف لك بسرعة ياحبيبتي. إنتِ مع مامي ماسة، أنا عارفة إنها هتأخذ بالها منك.
وضعت قبلة في الهواء، ثم أخذت ماسة الطفلة وتحركت بسرعة نحو السيارة.
كانت الحراسة تحيط بالمكان، صعدت ماسة السيارة، وجلس سليم بجانبها.
ماسة وهي تنظر لسليم: خليهم يقفلوا التكييف عشان البنت.
نظر سليم إلى السائق وقال: اقفل التكييف ده، وانزل إنت.
خرج السائق بعد ان أغلق التكيف
ثم نظر سليم إلى ماسة قائلاً: إيه اللي عملتيه ده؟
ماسة وهي تنظر للطفلة بابتسامة: عملت إيه؟
سليم بتهكم: خدتيها ليه؟ ماسبتهاش مع جدتها ليه؟
ماسة نظرت له بتعجب: إيه المشكلة؟، مامتها تعبانة، ودخلت في حمى النفاس. فاهم يعني حمى النفاس؟! انت عارف إن في ستات بتموت منها؟ ربنا يقومها بالسلامة.
سليم بضجر: أنا ماقلتش حاجة بس تاخدي بالك منها انتي ليه؟ عندها خالاتها عندها الداده وانتي مالك.
ماسة بغضب: وطي صوتك عشان البنت!
جز سليم على اسنانه حاول لجم غضبه: عموماً، ده مش مكانه ولا وقته عشان نتناقش، واسمعي، زي ماقلت لك، أول وآخر مرة ياماسة هتخرجي من باب القصر، فاهمة؟ مهما حصل ومهما حاولتي لو السما انطبقت على الأرض مش هتتعاد تاني.
ماسة بغضب: إنت مش شايف؟ أنت عمال تهددني كل شوية، وقلتلك وطي صوتك عشان البنت..
نظر لها سليم وهو يتنفس بعمق بصمت، أكملت ماسة: بقولك خلينا نعدي على الصيدلية عشان نجيب اللبن والسكاتات للبنت وبامبرز وشوية حاجات.
سليم بضجر: أنا هدي الروشتة، لمكي يجيب كل حاجة. خلاص، هنروح القصر على طول.
ماسة نظرت لنالا بصوت خافت، محاولة تهدئة الوضع: نالا قولي لعمو… يا عمو، بالراحة شويه، يا عمو وطي صوتك، أنا بخاف، أنا لسه نونو، عندي خمس أيام بس صوتك بيخوفني.
ثم أضافت: هاتي بوسة اموووواه ايه السكر ده روحي أنا.
نظر لها سليم ييأس وهو يحرك رأسه ثم أشار للحراس ليصعدوا السيارة، ثم تحركت السيارة نحو القصر.
قصر الراوي – جناح سليم وماسة
نشاهد ماسة وسليم وهما يدخلان جناحهما، كانت تحمل ماسة الصغيرة نالا بين ذراعيها بحنان وابتسامة مشرقة تملأ وجهها. تقدمت بخفة حتى وصلت للداخل، حيث تضع الطفلة برفق على الفراش وبدأت في مداعبتها بنبرة طفولية محببة، وهي منحنية عليها.
ماسة بفرح وحنان: يا روحي على الجمال، إيه العسل ده! أنتِ قمر خالص يا نالا يا حلوة.
فجأة، ارتفعت صرخة ماسة، رفعت ظهرها ونظرت إلى سليم بحدة: سليم! ماتولعش التكييف
سليم مندهش من نبرتها: في إيه ياماسة؟
ماسة: قلت ماتولعش التكييف.
سليم مستنكرا: يعني إيه مشغلش التكييف؟ الجو حر!
ماسة باستهجان: هو حر عليك لوحدك؟ أنا كمان قاعدة معاك في نفس الأوضة. يعني أنت بتحس وأنا مابحسش؟
سليم تعجب: فيه إيه بالضبط؟
ماسة: في إن التكييف غلط على البنت. إحنا لسه جايين من بره، ودرجة الحرارة مختلفة. اصبر شوية نص ساعه كدة وافتحه تدريجياً.
سليم بتأفف: وأنا أعمل إيه في الحر ده دلوقت؟
ماسة: انزل أقعد تحت أو اتصرف بأي طريقة.
تنفخ سليم وهو يتقدم نحوها حتى توقف أمامها مباشرة: أنا محتاج أتكلم معاكي في موضوع مهم.
ماسة: بعدين ياسليم، بعدين.
سليم بإصرار: ليه بعدين؟
التفتت ماسة للطفلة وابتسمت وهي تداعبها:
عشان القمر بتاعنا لازم تاخد الرضعة بتاعتها… استنى شوية.
التقطت هاتفها واتصلت بـسحر:
ماسة عبر الهاتف: ألو، سحر، بعد إذنك، ممكن تطلعي؟ عايزاكي تحضري الرضعة لنالا… وكمان تجيبي لي شوية حاجات. لا، من فضلك، دلوقتي. أوكي.
كان سليم ينظر إليها بانزعاج واضح، لكنها لم تنتبه أو لم تبالِ. استمرت في مداعبة الطفلة حتى جاءت سحر وأخذت الزجاجة لتحضير الرضعة.
ماسة بابتسامة: من فضلك ياسحر، ماتتأخريش ودفّي اللبن.
سحر: حاضر يا ست هانم متخافيش ربنا ما كرمنيش اه بس عيال اختي كانوا زي اولادي بالظبط، الست هبة عاملة إيه؟
ماسة بحزن: ادعي لها… تعبانة جدًا.
سحر بتعاطف: ربنا يقومها بالسلامة ويخليها لبنتها.
خرجت سحر لتحضير الرضعة، بينما جلس سليم على المقعد يهزّ قدميه بانزعاج واضح.
ماسة من ناحيتها، استمرت في تقبيل الطفلة ومداعبتها:
ماسة بحنان: نالا يا حلوة، انتي هتنوري حياتي الحبة دول والله … انتي بتتاوبي عايزة تنامي؟ إيه الجمال ده! بموت فيكِي… تعالَ يا سليم، شوف القمر ده. قولي له تعالى يا عمو، شوف أنا حلوة إزاي ياعمو تعالى
نظرت له ماسة وقالت : تعال يا كراميل شوف نالا.
سليم بإصرار وجمود: ماسة، ممكن نتكلم شوية؟
ماسة بهمس: سليم، وطي صوتك. البنت بتنام.
تنهد سليم وحاول التماسك: لو سمحتي، خلينا نتكلم.
ماسة: حاضر. دقيقة بس.
تربت على الطفلة برفق حتى تنام، ثم وضعت بحذر وسادة بجانبها. نهضت وجلست على الأريكة مقابلة لسليم.
ماسة: اتفضل، أنا معاك. بس لو سمحت، اتكلم بهدوء عشان البنت نايمة.
سليم بتوتر: ليه عملتِ كده يا ماسة؟
ماسة باستغراب: عملت إيه؟
سليم: جبتي بنت هبة هنا ليه؟
ماسة بتعجب: تاني يا سليم؟ قلت لك، صعبت عليّ. تفتكر تقعد فين؟ مع خالاتها؟ اللي مشغولين و ولا جدتها إللي مش هتقدر عليها؟ شفت اللي، حصل..ماقدرتش أسيبها مع الدادة.
سليم: عمتها رفضت تتحمل مسؤوليتها، وأنتِي مرات أخو جوزها تعرضي؟
ماسة بحزم: أنا ما حسبتهاش كده، إني مرات أخو جوزها. حسبتها إن نالا بنت أختي وصديقتي.. وياسين في محنة، ولازم نكون جنبهم في لحظات دي؟!
(يتأثر) كنت عايزني أعمل إيه وأنا شايفاهم بيرموا البنت على بعض؟ جدتها مشغولة، والدادة مش حل. صعبت عليّ، فهمني ايه مشكلتك ليه رافض كدة ومتعصب، ده انت اللي مفروض تعرض عليهم لأنك عمها، وبعدين ماقعدش بيها ليه؟! ما أنا فاضية وإنت مانعني من الخروج وبدل ماقعد أكلم الحيطان أكلمها هي ..
أكملت متعجبه وهي تمرر عينيها عليه:
بعدين أنا والا الدادا فهمني مالك؟ إنت ماكنتش كده يا سليم أنا مستغرباك ده أنت قلبك حنين يعني حقيقي موقفك غريب.
سليم بتأثر: أنا خايف عليكِي… خايف تتعودي عليها.
ماسة بتعجب: أتعود عليها؟
سليم بهدوء وتأثر: أيوة.. أنا عارف إنك شايفة فيها “حور”، وبتحاولي تعوضي اللي اتحرمتي منه مع نالا، تعوضي المشاعر اللي كان نفسك تعشيها مع حور..
اقرب وجهه من وجهها بنبره حزينه بعين تملاها الدموع ترفض انت تهبط قال: بس انت واضح انك ناسيه، أن هبة هتخرج من المستشفى قريب، وهتاخدها منك تاني، خايف يومها تتوجعي لأنك هتبقي اتعودتي عليها.
نظر إليه ماسة بدموع تغمر عينيها قالت بوجع:
مش مهم يا سليم، سبني أعيش الحرمان ده، سيبني، أعيش اللي مقدرتش اعيشة مع حور، سبني أعيش إللي نحرمت منه … أنا عايزة ده ماتقلقش عليا مش هتعلق بها، بس أنا عايزة أعيش اللحظات دي، ماتحرمنيش من اللحظات دي يا سليم… حتى لو كانت لحظات مؤقتة، أنا محتاجة أعيشها. محتاجة أحس إن في حضني طفلة زي نالا، حتى لو لأيام أو ساعات، متخافش مش هتوجع… أو على الأقل، وجعي هيكون أقل من الحرمان اللي أنا عايشاه.
ضمها سليم بحنان وبصوت منخفض: أنا مش عايز أشوفك بتتعذبي يا ماسة.
عانقته ماسة بابتسامة حزينة: ماتخافش عليا. أنا قوية. وصدقني، حتى لو كانت لحظات بسيطة، هتكون كفاية. يمكن بعدها أقدر أكمل ارجوك يا سليم ما تحرمنيش من اللحظات دي ارجوك.
ابتعدت قليلاً و نظرت له بصمت بوجع عصف قلبها برجاء، بينا صمت سليم، وكأنه يبحث عن كلمات يقولها، لكنه عجز عن التعبير كان قلبه مشوشًا تنهد.
سليم بتردد: طيب… بس خلي بالك من نفسك. وأنا هحاول أتأقلم… بس مش هوعدك إني هقدر أتعامل مع وجودها بنفس طريقتك.
ماسة بتفهم: فاهمة، وأنا مش بلومك بس يعني إنت ممكن
قاطعها سليم وهو يشير بيديه: أنا لا، ماكيش دعوة بيا، أنا مش هقدر إنتي يمكن عندك القدرة إنك تتعودي لكن أنا لا، أنا هخاف اتعود عليها وياخدوها مني كفاية اتحرمت من بنتي، فخلينا من بعيد لبعيد
ماسة بحزن: بس إنت حتى ماشلتهاش ولا مرة.
أشاح سليم بوجهه باتجاه آخر وقال بجمود: ماسة من فضلك أنا خلاص تفهمت شعورك ووافقت، أنا بقي لا، ماتتغطيش عليا.
طرق الباب وتدخل سحر في هذه اللحظة ومعها الرضعة بعد أن أذنت لها ماسة بالدخول بعد أن مسحت دموعها.
سحر بابتسامة: اتفضلي يا ست هانم، اللبن جاهز.
ماسة: شكرًا، يا سحر.
تأخذ ماسة الرضعة، تختبر حرارة اللبن على معصمها، توجهت وحملت الطفلة وعادت وجلست بجانب
سليم،ثم ضمت الطفلة إلى صدرها وهي تطعمها بحنان. نظرت إلى سليم وهي تهدهد نالا.
ماسة بابتسامة هادئة: شوف ياسليم…مفيش حاجة في الدنيا أغلى من اللحظة دي.
نظر سليم إليهما بصمت. شيء ما في داخله يتحرك، لكنه يخفي مشاعره، وقف متجهًا نحو النافذة.
سليم بصوت منخفض وهو ينظر من النافذة بعينين ترقرقت بالدموع: بس بلاش تعلقي قلبك بيها أكتر من اللازم مش هقول لك تاني، نالا مش حور نالا بعد أسبوع ولا اثنين هياخدوها منك عشان مش من حقك أي حاجة تخصها .. أسرقي اللحظات واكدبي الكذبه بس اوعي تصدقيها يا ماسة.
ماسة بهمس و وجع يخنق صوتها: مفهوم، وأنا هحاول… بس ما تلومنيش لو كان صعب.
استمر الصمت في الغرفة الذي كان يعبر عن عمق المشاعر والقلق الذي يسيطر على كليهما، بينما تهدهد ماسة الطفلة، مستمتعة بلحظة حُلم، قد لا تستمر طويلًا.

باقي الحلقة ٥٩
نرى رشدي جالسًا في غرفته بملل، ممسكًا بهاتفه يتصفح invention للسباق الذي تحدثت عنه نيللي. مرر أصابعه على الشاشة، عيناه تتحركان بين التفاصيل، بينما أصابعه تداعب ذقنه بتفكير.
مرر يده على رقبته، أغمض عينيه للحظة ثم هز رأسه بإيجاب كمن حسم أمره. نهض متوجهًا إلى الدريسنج روم، اختار ملابس مناسبة وبدّل ثيابه بسرعة، ثم التقط مفاتيحه وغادر متجهًا نحو السباق.
في ساحة السباقات
ركن رشدي عربيته في أحد الأماكن الواسعة المخصصة للسباق، ثم ترجل منها وألقى نظرة سريعة على السيارات والمشاركين قبل أن يتجه إلى الداخل.
بمجرد دخوله، بدأ في إلقاء التحية على الأشخاص الذين يعرفهم، يتبادل معهم بعض المجاملات السريعة، حتى سأله أحدهم:
ياسين فين؟ مش متعودين عليه يغيب عن سباق زي ده!
ابتسم رشدي وهو يضع يديه في جيب بنطاله قائلاً بنبرة عادية: مراته تعبانة، وخلف ومشغول معاها.
أومأ الشخص بتفهم، بينما أكمل رشدي طريقه حتى لمح نيللي. كانت تقف عند إحدى الطاولات، تراقبه بابتسامة جانبية، وعندما اقترب، رفعت حاجبيها قائلة: يعني جيت؟
ضحك رشدي بخفة، أخرج هاتفه وفتح إشعاراته، ثم مد يده ليعرض لها إشعارات أخرى أرسلها له بعض أصدقائه عن السباق..
قال: جيت، لأن في ناس صحابي برضه دعوني.
نظرت نيللي إلى الهاتف ثم أعادته إليه قائلة بابتسامة: المهم إنك جيت.
في هذه اللحظة، اقترب فيصل صديقه وربت على كتفه رشدي قائلاً بحماس: إيه، مستعد؟ هتشارك؟
رد رشدي بثقة: هشارك. إيه ماشفتش عربيتي وهي منوّرة تحت؟
ألقى فيصل نظرة سريعة نحو موقف السيارات، ثم عاد ببسمة جانبية: شفناها… نقدر نقول كده، مبروك.
نيللي نظرت إلى فيصل ثم إلى رشدي، قبل أن تقول بنبرة مزيج من الدهشة والاستفزاز: للدرجة دي واثقين إنه هيكسب؟
ضحك فيصل ورد عليها وكأنه أمر بديهي: آه طبعاً، أي سباق فيه رشدي الراوي بيكتسحه!
استعداد السباق
قالت رشدي: أنا هروح أجهّز نفسي.
وبالفعل، بدّل رشدي ملابسه استعدادًا للسباق، ثم هبط إلى الساحة حيث اصطفت السيارات عند نقطة البداية. صعد إلى سيارته، شدّ قبضته على المقود، ثم نظر عبر النافذة للسائقين على جانبيه، ابتسم لهم وأشار بإصبعه بحركة واثقة قبل أن يركز نظره للأمام.
تقدمت إحدى الفتيات إلى مقدمة الحلبة، رفعت علم البداية، وبدأت العد التنازلي، ثم صرخت : !!go
انطلقت السيارات بسرعة جنونية، محركاتها تزأر وسط أصوات الإطارات التي تحتك بالطريق. كان رشدي في المقدمة، ولكن أحد السائقين كان يقترب منه بقوة، يتحداه في السرعة. تلاعب رشدي بالمقود بمهارة، يتجاوز المنعطفات بسلاسة، مستغلًا كل فرصة للتقدم. استمر السباق بحماس، حتى تجاوز رشدي خط النهاية أولًا، وسط هتافات الجماهير.
في ساحة السباق
هبط من سيارته، وبدأ الجميع في تهنئته. اقتربت منه نيللي بابتسامة:
اقتربت نيللي من رشدي بخطوات ثابتة، ابتسامة جانبية تعلو وجهها وهي تقول: مبروك.
نظر إليها رشدي ببرود ورد باقتضاب: الله يبارك فيك.
توقفت أمام سيارته، بينما كان هو يمسح عينيه عليها بتقييم سريع قبل أن يرفع بصره نحوها قائلاً بنبرة ساخرة: قولي لي، بُرده عايزة إيه؟
وضعت يديها على خصرها وهي تميل برأسها قليلاً:
إنت ليه مش مصدق إنك عاجبني؟ وإن أنا عايزة أبقى مِن حريم الراوي… ولا أنت حصري لزيزي وبس؟
ضحك رشدي بسخرية خفيفة، هز رأسه قبل أن يرد:
مركزة انتي مع زيزي قوي.
نيللي بتوضيح: عشان دي أكتر واحدة بتظهر معاها.
..طب، إيه؟ مش هنخرج؟
رفع رشدي كتفه بلا مبالاة: لا، مش فاضي.
نيللي: طب تعالَ نشرب حاجة سوا.
قبل أن يرد، أمسكت بيده وسحبته معها، لم يقاوم كثيرًا، فقط زفر أنفاسه وتركها تقوده نحو المطعم القريب.
جلسا أمام بعضهما، أخرج رشدي سيجارته وأشعلها بهدوء، أخذ نفسًا عميقًا قبل أن ينفث الدخان بعيدًا، ثم قال: قولي لي بقى يا نيللي، إنتِ مين؟ مالحقناش نتعرف المرة اللي فاتت خالص.
ابتسمت بثقة وردت: عادي، اسمي نيللي سالم، 25 سنة، طولي 170، عيوني عسلية، شعري أصفر.
رفع رشدي حاجبًا ساخرًا وهو يقول: أممم… أنا عايز أعرف المعلومات اللي غير أنك 170 وبيضه وشعرك أصفر… الحاجات التانية اللي أنا ماعرفتهاش.
أخذت رشفة من مشروبها قبل أن ترد: مفيش حاجة تانية ممكن تعرفها، عايشة لوحدي، أهلي مسافرين بره… بس، وبعدين، إنت ممكن تعمل عليَّا تحريات وتعرف.
ضحك رشدي بخفة وقال بنبرة باردة: أعمل عليكِ تحريات؟ تحرياتي مابتتعملش غير للناس اللي شغلاني، لكن إنتِ مجرد واحدة أنا قعدت معاها وقت وخلاص.. زيك زي أي واحدة تانية.
انعقد حاجباها بانزعاج: هو إنت ليه بتكلمني كده؟
رشدي متعجباً وهو يخرج دخان سيجارته: المفروض أكلمِك إزاي؟
نيللي: تكلمني عادي، إحنا بنتعرف… قلت لك، إنت شخص عاجبني.
رشدي سحب نفسًا طويلاً من سيجارته، نفث الدخان ببطء وهو يراقب نيللي بنظرة متكاسلة. ارتسمت على شفتيه ابتسامة جانبية قبل أن يقول بنبرة مسترخية: ماشي يا سِتِّي، أدِّينا هنتعرف.
نيللي ضحكت وهي تميل نحوه قليلًا، عيناها تلمعان بمكر، ثم قالت بنغمة لعوب: طب تعال نروح عندي… نحتفل بطريقتنا.
في شقه نيللي الثامنة مساءً…
الأضواء خافتة، والموسيقى الصاخبة تهز الجدران بإيقاعها المجنون. الغرفة تمتلئ بدخان السجائر، ورائحة الكحول تمتزج مع العطر النفّاذ الذي يحيط بها.
نيللي تحررت من حذائها العالي فور دخولها، ألقت حقيبتها على الطاولة، ثم رفعت صوت الموسيقى أكثر حتى اهتزت الأرضية تحت أقدامها. تحركت بجنون وسط الغرفة، خصرها يتمايل بانسيابية، رأسها يهتز مع النغمات، ويدها تحمل كأسها الذي لم يكن يفارقها. ضحكتها العالية تملأ المكان، وكأنها تهرب من شيء ما، أو ربما تطارده.
رشدي جلس على الأريكة، يراقبها بعينين نصف مغلقتين، الكحول يسري في عروقه ببطء، يمنحه إحساسًا بالخفة. رفع كأسه ورشف منه جرعة طويلة، قبل أن يسحب نفسًا عميقًا من سيجارته. كانت الأجواء أقوى من أي تفكير، أقوى من أي مقاومة، دفعه شيء ماللنهوض، للحاق بها وسط الغرفة، للانجراف مع التيار.
ضحكاتهما كانت تتعالى مع الموسيقى، خطواتهما متعثرة، الكحول جعل كل شيء أسهل، جعل الحدود غير واضحة.
نيللي اقتربت أكثر، التصقت به، أنفاسها الساخنة تلامس بشرته، عطرها يغلفه. رفعت يدها إلى عنقه، أصابعها انزلقت ببطء على بشرته، ثم اقتربت أكثر حتى تلامست شفتيها مع شفتيه في قبلة ناعمة، خفيفة في البداية… قبل أن تتحول إلى شيء أعمق، أكثر جرأة.
رشدي لم يتراجع، ترك نفسه للاندفاع، يديه امتدتا إليها، يلامس خصرها، يسحبها نحوه أكثر، والقبلة تزداد حرارة مع كل ثانية تمر.
لحظات ضبابية… نظرات متشابكة… موسيقى لا تُسمع لكنها تخترق الأجواء.
خطوات متعثرة نحو الأريكة هما علك تلك الحاله الجنونيه… ثم نحو الفراش ليزداد جنونهم أكثر وأكثر…
بعد وقت، جلست على طرف الفراش، بوجه شاحب يحمل اثر تلك المعركه الحميمه، التقطت ورقة من فئة المائة دولار وبدأت تشكل بها خطًا أبيض ناعمًا على سطح الطاولة. نظرت إليه من تحت رموشها وهي تمسك بطاقة الائتمان، ثم استنشقت المادة بسرعة، أغمضت عينيها للحظة قبل أن تسترخي برأسها للخلف، متنهدة بمتعة.
على الجانب الآخر، كان رشدي مستلقيًا، يراقبها بصمت وهو يسحب نفسًا من سيجارته المحشوة. رفع حاجبه وسأل بنبرة ساخرة: إنتِ على طول كده؟
ابتسمت نيللي بخبث، مالت نحوه قليلًا وقالت بصوت منخفض: لما تجرّب، هتعرف إن ليّا حق… ده اللي بيخلي الدنيا فوق فوق… ينسيك كل حاجة، ويخلّي كل حاجة أحلى وأحلى مش ناوي تجرب؟
هزّ رأسه بلا مبالاة، ثم قال بهدوء: قلت لكِ… ماليَّش فيه.
ضحكت نيللي، عضّت شفتها وهي تمرر أصابعها على صدره، ثم اقتربت منه ببطء وهمست: بعد تلات مرات… بتدمن.
نظر إليها بعينين نصف مغلقتين دون أن يرد. لم تنتظر ردّه، فقط مررت القليل من المادة على شفتيها واقتربت أكثر، أصابعها تلامس بشرته برفق، عيناها تشتعلان إغراءً وهي تهمس: جرِّب… مرة واحدة بس.
ثم وضعت شفتيها على شفتيه، قبل أن تتعمق القبلة بينهما.
عندما تراجعت قليلًا، نظر إليها رشدي بابتسامة جانبية وقال بصوت هادئ: إنتِ عنيدة.
ثم أضاف، وهو يمرر أصابعه على وجنتها: وأنا بحب البنات العنيدة.
نيللي مالت عليه أكتر، عيناها تتفحصان ملامحه بإعجاب واضح، ثم قالت بصوت ناعم وهي تمرر أصابعها على يده: على فكرة… أنا قريت عن مشروعك الجديد.
رشدي رفع حاجبه قليلًا، نفث الدخان بكسل وسألها: مشروع إيه؟
ضحكت بخفة وهي تهز رأسها وكأنها لا تصدق:
بلاش تتواضع معايا يا رشدي… مشروعك اللي داخل فيه الفترة دي… ده شغل ناس تقيلة، وناس دماغها كبيرة. بصراحة، منبهرة بيك!
ابتسم رشدي ابتسامة صغيرة، لكنه لم يعلّق، فقط استمر في تأملها بصمت.
نيللي لم تتوقف، اقتربت منه أكثر وهمست:
إنت فعلًا راجل ذكي… مش أي حد يقدر يدخل في حاجة بالحجم ده ويعرف يتحرك فيها بثقة زيّك. إنت مش زي أي حد، وده أكتر حاجة بحبها فيك.
مررت أصابعها برفق على عنقه، قبل أن تتابع بصوت منخفض: عارفة إن الناس مستنيين يشوفوا هتعمل إيه… بس أنا متأكدة إنك هتبهر الكل.
رشدي أخد نفسًا عميقًا من سيجارته، قبل ما يبتسم أخيرًا وهو يقول بهدوء: شكلك عارفة حاجات أكتر من اللازم.
نيللي ابتسمت بمكر، ثم مررت إصبعها ببطء على شفتيه قبل أن تهمس: أنا بس بعرف أقدّر الرجالة اللي يستاهلوا.
رشدي اكتفى بالنظر إليها بصمت، عيناه تتابعان حركتها دون أن ينطق بكلمة.
في قصر الراوي التاسعة مساءً
جناح سليم وماسة.
نرى سليم يرتدي ملابسه في غرفة الملابس. كانت ماسة جالسة على الأريكة، تحمل نالا بين أحضانها، تربت عليها وتغني لها بنبرة هادئة ولطيفة:
ماسة (تغني):
نامي يا حلوة نامي
وأذبح لك جوزين حمامي
نامي يا حلوة نامي
يا وردة في البستاني
ريحتك أحلى من الياسمين والريحاني.
يا غنوة في كل صباح، يا أحلى من التفاح.
اقترب سليم منها وهو يرتدي بدلته.
رفعت ماسة عينيها: انت نازل:
سليم: عشان معاد الدكتور.
ماسة: آه، صح! معلش نسيت خالص. استنى، هكلم سحر تيجي تقعد معاها وهجي معاك.
سليم: لا مش هينفع يا ماسة إحنا اتفقنا خروج تاني مش هيحصل أنا هاخد مكي.
ماسة برجاء اقتربت منه وهي تحمل نالا: ليه بس ياسليم انا عايزه ابقى جنبك اللحظه دي وحياتي.
سليم: فضلك يا ماسة مش هنفضل نتكلم في نفس الموضوع بعدين عشان تاخدي بالك كمان منها نالا
ماسة برجاء: أنا عايزة أكون معاك.
سليم: لا، خليكي مكي معايا.
وضع قبلة على جبينها وكاد أن يتحرك.
ماسة بدلع وهي تهز نالا: إيه يا عمو، مش هتديني أنا كمان بوسة؟
نظر لها سليم بصمت، فتبادلت معه ماسة النظرة بابتسامة. وضع سليم قبلة سريعة على رأس الطفلة، ثم أخذ العكاز وتحرك مسرعًا..
بعد أن خرج سليم إلى الخارج، كانت ماسة تنظر إلى أثره بحزن. نظرت إلى نالا وقالت بحنان:
معلش يا نونا، عمو طيب أوي وحنين خالص، بس هو غصب عنه بيعمل كدة، بس أنا متأكدة إنه بيحبك.
تبسمت إبتسامة مشرقة: تحبي نعمل إيه دلوقتي؟ نجيب السرير بتاع نالا ونحطه هنا؟عشان تنامي جنبنا، أنا مبسوطة إنك هتنامي معانا النهاردة. استني، هكلمهم.
(تلتقط الهاتف.)
ماسة: ألو، مين معايا؟
ماسة: طب عفاف،لو سمحتي كلمي أي حد من الحراس، واطلعي معاهم، وخليهم يدخلوا يجيبوا سرير نالا من أوضة ياسين بيه ويجيبوه هنا. تمام؟
عيادة الطبيب الجراحي العاشرة مساءً
نشاهد سليم يجلس أمام مكتب الطبيب، وبجانبه مكي، جلس طبيب الجراحة على كرسي مكتبه، وطبيب العلاج الطبيعي يقف إلى جواره.
طبيب الجراحة بابتسامة: ماشاء الله، حالتك في تحسُّن هايل.
سليم: الحمد لله.
طبيب العلاج الطبيعي: الحقيقة، سليم بيه كان عنده إصرار كبير الفترة اللي فاتت، وده ساهم بشكل كبير في تحسن حالته. وخبر إن حضرتك بدأت تستغنى عن العكاز، حتى لو لدقائق، ده إنجاز رائع. إن شاء الله من بُكره هنبدأ نشتغل على تمارين جديدة لتقوية العضلات، وفي خلال أسبوعين هنستغنى بشكل كامل عن العكاز.
سليم بتردد: كنت عايز أسأل سؤال… دلوقتي موضوع الإنجاب… والرصاصة اللي في ظهري… والعلاقة الزوجية… الوضع إيه؟
طبيب الجراحة: أولًا، بالنسبة للعلاقة الزوجية، مافيش أي مشكلة من الناحية الطبية. حضرتك تقدر تعيش حياتك الزوجية بشكل طبيعي، إحنا بس كنا بنأجلها بسبب آلام رجلك، لكن دلوقتي ممكن ترجع لها بشكل تدريجي. أما بالنسبة لموضوع الإنجاب، دكتور أمراض الذكورة هو الأنسب للإجابة على الجزئية دي. حضرتك لازم تبدأ تتابع معاه عشان يوصف لك الأدوية المناسبة.
سليم بقلق: والرصاصة؟
طبيب الجراحة: بالنسبة للرصاصة، ممكن نفكر في إجراء عملية لإزالتها بعد سنة، لكن العملية فيها مخاطرة.
مكي: تقصد نفس المخاطرة اللي حضرتك قلت عليها قبل كده؟ وقت حادثة سليم.
طبيب الجراحة: طبعًا. العملية ممكن تنجح بدون أي مضاعفات، لكن المخاطر مازالت قائمة، حضرتك ممكن لا قدر الله تفقد حياتك أو تتعرض للشلل.
سليم بهدوء: يعني النسبة ماتغيرتش بعد مابقيت كويس وحالتي اتحسنت.
طبيب الجراحة وهو يزم شفتيه: للأسف النسبة نفسها ماتغيرتش, الرصاصة موجودة في مكان حساس جدًا، وعشان كده أجَّلنا العملية حفاظًا على حياتك وللتأكد إنك صحيًا مستعد لإجراء عملية بالدقة دي, لانك وقتها للأسف الشديد كنت ضعيف جداً وحالتك خطيرة مش حمل أي عمليات تانية.
هز سليم رأسه بإيجاب دون تعليق وهو يزم وجهه بأسف
أكمل الطبيب الجراحة بتأكيد: زي ماقلت لحضرتك، العلاقة الزوجية ممكن تكون طبيعية جدًا، بس مع الحفاظ على الوضعيات اللي اتفقنا عليها قبل كده لتجنب الضغط على رجلك. لو حسيت بأي ألم، لازم توقف فورًا.
سليم: شكراً يادكتور.
أنهى سليم الحديث مع الطبيب الجراح وتوجه بالكلام لطبيب العلاج الطبيعي.
نظر لطبيب العلاج الطبيعي مستنيك بُكرة يادكتور. يلا يامكي.
نهض الاثنان من مقعديهما، كاد سليم أن يتحرك، لكنه توقف فجأة والتفت نحو الطبيب الجراح.
سليم: طب قولي.. لسه في خطورة علي حياتي؟ يعني ممكن أموت في أي وقت بسبب الرصاصة دي؟
نظر الطبيب إليه بنظرة أسف، وعيناه تحملان مزيجًا من الحزن والواقعية. ثم هز رأسه بالإيجاب دون كلام.
مكي بقلق واضح: طب يادكتور، مافيش أي حاجة ممكن نعملها؟ يعني… مايعملش أي مجهود أي حاجة عشان نقلل الخطورة؟
الطبيب الجراح: للأسف الشديد، الموضوع مش مرتبط بالمجهود. الخطورة قائمة إلا لو الرصاصة تحركت من مكانها. لو حصل ده، حياتك ياسليم هتكون في خطر كبير.
مكي بلهجة مليئة بالأمل: بس يادكتور، الطب بيتقدم كل يوم. يمكن بعد فترة يبقى فيه حل… صح؟
الطبيب الجراح يبتسم بخفة: إن شاء الله.
هز سليم رأسه، وظهر على وجهه ملامح من التفكير والقلق. وضع يده على كتف مكي وأشار له بالخروج.

سيارة سليم الحادية عشر مساًء
نرى سليم يجلس في المقعد الخلفي بينما كان مكي يجلس بجانب السائق. كان سليم شاردًا، ينظر من النافذة بحزن يغم على وجهه، بينما كان مكي يراقبه جيدًا.
بعد فترة، طلب مكي التوقف بالسيارة بجانب الطريق. نزل من السيارة وفتح الباب.
نظر له سليم بتعجب، فأجابه مكي:تعال نتكلم شوية مع بعض.
هز سليم رأسه بالإيجاب ونزل من السيارة، وبدأآ معًا بالسير على كورنيش النيل في أجواء صيفية لطيفة.
وكانت الحراس خلفهم وسياره اخرى تمشي بالقرب منهم.
مكي بعقلانية: أنا عايزك ماتضيقش من كلام الدكتور. كل فترة الطب بيتقدم، وإن شاء الله هنلاقي حل للمشكلة اللي عندك.، ممكن نسافر بره، وأنت بتتحسن، رعشة إيدك مابقتش موجودة، بقيت بتتكلم كويس جدًا، بتقدر تتحرك دلوقتي، هتستغنى عن العكاز، دي كلها تقدمات كبيرة وأمل.
نظر له سليم بيأس: أمل كذاب! حلينا مشكلة، ولسه في كتير. موضوع الإنجاب، الرصاصة اللي في ظهري، العصابة لسه ماوصلنلهاش. في حاجات أهم من العكاز.
توقف مكي أمامه، مبتسمًا ومد وجهه بتعجب وقال: الإنسان ده غريب أوي ..من فترة، أول مافقت من الغيبوبة، كانت مشكلتك ثلاث حاجات: إنك إزاي تبقى تتكلم بطريقة مفيهاش ثقل، وإيدك تترعش، وازاي سليم هيقعد على كرسي بعجل، وبعدها عكاز. دلوقتي الحمد لله حلينا مشاكلك دي، بس دلوقتي بقى عندك حاجات تانية مشاكل تانية وكأن اللي كنت بتتمناه ما حصلش
ركز النظر في ملامحه أضاف بعقلانية:
سليم، اهدأ وريح عقلك، هنفضل لحد إمتى نقول لك اهدأ وريح عقلك؟ سيبها تتحل لوحدها زي ما قالك الظابط حسني، وكلنا قلنا لك سيبها. مهما مرّت السنين، هتتحل.
سليم وهو يتنهد: والله يامكي، هو ده اللي أنا بقيت بفكر فيه، بس غصب عني. بحاول، بس مش قادر مش عارف، (بغيظ)ساعات ببقى نفسي أضرب دماغي في الحيطة. بس حتى لو ضربتها، إيه الحل مافيش؟
تبسم مكي ووضع يده على كتفه بدعم: هتتحل ياصاحبي هتتحل، وهنحتفل وانت بتنتصر على اللي حول حياتك لجحيم بس هدي أعصابك، وركز في شغلك، ركز مع ماسة حاول بقى تعوضها الفترة اللي فاتت دي، أنتم الاتنين محتاجين لبعض.
سليم: حاضر .. قولي إنت لسه بتراقب إخواتي؟
أجاب مكي: أيوه، طبعًا. بس صدقني، مفيش حاجة تخلينا نشك فيهم. عادي، هم بيحاولوا يكسبوا الباشا عشان ياخدوا مكانك، نفس الحرب بتاعتهم.
تنهد سليم: حاولت تكلم سلوى تاني؟
مكي مد وجهه: لا، ماحاولتش، بس لسه بأراقبها. بفكر أكلمها بعد يومين. يمكن.
سليم: حاول ماتيأسش، بعد ماقعدت معاها اتأكدت إنها لسه بتحبك بس الطريقة اللي إنت سبتها بيها مزعلاها والصراحة أنا معاها وقلتلك زمان بس يلا خلاص.
مكي: واديني أهو بحاول أصلح غلطتي، بس برافو عليك إنك أخدت بنت ياسين معاك.
سليم بوجع خنق نبرة صوته: والله، ماسة اللي عملت كده. أنا مكنتش عايز. أول ماشفتها، افتكرت بنتي. اللي ماشفتهاش، بنتي اللى فضلت أتمنى وجودها ٦سنين، ولما كان خلاص فاضل 10 أيام على وجودها، اتحرمت منها. مش أنانية ولا غيرة لرفضي لنالا، أقسم بالله أبدًا، بس اتوجعت هنا.
(وضع يده على قلبه،) كمان خايف، ماسة، تتعود على البنت.
مكي بعقلانية: حتى لو اتعودت، إنتم كلكم عايشين في قصر واحد مع بعض، مش هتبقى بعيد عنكم. هي لازم تبقى معاكم، الصراحة. يعني عمها وعمتها يكونوا موجودين وتقعد مع الدادا ماينفعش ومتقلقش مش هتتعود عليها.
سليم تبسم: طب خلينا نمشي. عشان ما تأخرش على ماسة.
قصر الراوي الثانية عشر صباحاً
جناح سليم وماسة
تظهر ماسة داخل المرحاض، منشغلة بتغيير حفاضات نالا الصغيرة التي تستلقي بين يديها. من الخارج، يُسمع صوت سليم ينادي بصوت عالٍ.
سليم: ماسة، ياقطعة السكر، إنتِ فين؟
ماسة، بصوت مرتفع: أنا هنا يا كراميل، بغير البامبرز لنالا.
يدخل سليم إلى المرحاض، وما أن يشم الرائحة حتى يضع يده على أنفه متراجعًا بخطوة.
ماسة، وهي تنظر إليه برفع حاجبها: بالراحة شوية على نفسك، أمال أنا أعمل إيه؟
سليم وهو يضع يده على انفه: ماتعمليش حاجة، أنا هستناكي بره.
ماسة رفعت حاجب: تستناني؟ تعالى ساعدني، كلهم نايمين تحت.
سليم، وهو يحاول التراجع: لا، بصي، أنا ممكن أعمل أي حاجة إلا دي. أنا مش قادر أستحمل، الريحة هتموتني! إنتِ ماكلها إيه؟
ماسة: بطل دلع، هات لي مناديل مبللة.
يأخذ سليم المناديل، ويلقيها من بعيد متجنبًا الاقتراب.
ماسة بتذمر: لا حول ولا قوة إلا بالله.
تابعت ماسة عملها بهدوء، نظفت نالا بعناية، وألبستها ملابس جديدة. بعد أن انتهت، حملت الصغيرة وخرجت من المرحاض لتجد سليم منتظرًا في الخارج.
ماسة: ها يا حبيبي، الدكتور قالك إيه؟
سليم، بابتسامة عريضة: قال لي خبر حلو. الحمد لله، هقدر بعد أسبوعين أمشي من غير عكاز.
ماسة، بابتسامة مشرقة: ده خبر حلو! شوفت بقى؟ وش نالا حلو عليك ازاي. طيب مافيش بوسة ليا انا ونالا؟
تبسم سليم وضع قبله على خدها ثم نظرت له ماسة وقالت: ونالا !!
تنهد سليم وضع قبله على جبينها سريعه.
نظر سليم الى الفراش تسأل: هو إنتِ جبتِ السرير هنا ليه؟
ماسة: عشان نالا تنام معانا.
سليم بابتسامة وهو يركز النظر في ملامحها: بس النهارده مش هينفع.
ماسة تعجبت: ليه بقى؟
سليم، بنظرة شوق: عشان الدكتور قال لي خلاص افراج، وأنا مش هعدّي الليلة دي بصراحة، مشتاق ليكِ جدًا وماصدقت.
رفعت ماسة حاجبيها بابتسامة خبيثة يبدو انها تفهمت مايريد: وأنا بقول بقى راجع مبتسم ومبسوط ليه؟ طيب ماشي، نكلم سحر تيجي تنام مع نالا في أوضتها.
سليم: بقول كدة.. غمزة لها.
ماسة: على أي حال، أنا رضّعتها وغيّرت لها، وهتنام دلوقتي. أروح أنيمها وأكلم سحر.
خرجت ماسة خارج الغرفة بينما سليم يتجه إلى الحمام ليأخذ حمامًا سريعًا، ثم يقرر إعداد مفاجأة رومانسية لماسة. يخرج من الحمام مرتديًا ملابس مريحة، ويبدأ في البحث عن الشموع. يشعل بعضها ويوزعها حول الغرفة لتضفي جوًا دافئًا. ثم أخذ المزهرية الموضوعة على الطاولة ونثر أوراق الورد برفق على السرير بطريقة مرتبة.
في هذه الأثناء، كانت ماسة في غرفة نالا، تتأكد من نوم الصغيرة بهدوء. تقبلها على جبينها وتغطيها بعناية،
ماسة بتنبيه: خدي بالك منها يا سحر لو حصل اي حاجه اتصلي بيا على طول.
سحر: ماتخافيش ياهانم.
همّت بالخروج بعد أن اطمئنت عليها.
جناح سليم وماسة
عادت ماسة إلى غرفة النوم لتتفاجأ عند دخولها الغرفة بالأجواء الرومانسية، نظرت إلى الشموع وأوراق الورد على الفراش، ثم ابتسمت بخجل.
ماسة: يا سلام! إيه ده كله؟ إنت ناوي على إيه؟
سليم، بابتسامة ماكرة: أنا ناوي أعوضك عن كل اللي فات.
ماسة، وهي تضع يديها على خصرها: آه، عشان كده ماكنتش عايز نالا تنام معانا؟
سليم: بالضبط. الليلة دي بتاعتي أنا وأنتي وبس.
ماسة بدلال: طب وأنا ماليش رأي؟
اقترب سليم منها وأمسك بيديها بلطف: ليكِ كل الرأي… بس أوعدك إنك هتستمتعي أكتر مما تتخيلي.
ابتسمت ماسة بخجل واضح، لكنها حاولت التظاهر بالجدية: طيب، لو الليلة مش على قد التوقعات، هخليك تغير البامبرز لنالا لمدة أسبوع كامل.
ضحك سليم يضحك بملء صوته: اتفقنا !
ماسة، وهي تتراجع للخلف وهي تتمايل بغواء، تضحك بخفة: هو أنت فاكر إنك هتاخدني بالسهولة دي؟ اتحايل عليا شويه، وريني بقى سليم اللي بيعرف ياخد اللي هو عايزه!
رفع سليم حاجبه بمكر، ثم تقدم نحوها بخطوات بطيئة، بينما هي تدور حول الغرفة، تحاول التملص منه وكأنها طفلة تلعب معه. مدّ يده ليقبض عليها، لكنها أفلتت وضحكت بخبث: لأ كده مش هينفع، لازم تثبت جدارتك الأول .
سليم، وهو يغمز لها بمكر: جدارة؟ طب تعالي هنا بقى وأنا أوريكي الجدارة على أصولها!
أخذت تركض وهو يتحرك خلفها، وضحكتهما تتعالى في الغرفة.
سليم، وهو يحاول الإمساك بها: هنفضل نلف ورا بعض كده؟ مش إنتِ اللي قلتي لو الليلة مش قد التوقعات هتخليني أغيّر لنالا أسبوع؟ تعالي بقى وخليني أثبتلك الجدارة، ولا إنتِ اللي شكلك مش عايزة تشوفيها؟
ماسة، وهي تنظر لأعلى وكأنها تفكر بجدية: مممم، مش عارفة الصراحة…ثم أخرجت لسانها له وضحكت.
سليم، وهو يضيّق عينيه بمكر: كده؟ طب تعالي بقى!
قفزت ماسة على الأريكة محاولة الابتعاد، لكنها فقدت توازنها للحظة، فانقض عليها سليم سريعًا وأمسك بمعصمها، شدها نحوه بقوة حتى وجدت نفسها محاصرة بين ذراعيه، وهو ينظر إليها بنظرات ممتلئة بالمكر والدفء في آن واحد.
سليم، بصوت منخفض وهو يقرب شفتيه من أذنها: قوليلي بقى، هتسلّمي نفسك ولا نفضل نلعب طول الليل؟
ضحكت ماسة وهي تحاول التملص، لكن بلا فائدة، فاستسلمت أخيرًا وهي تتنفس بصعوبة: طيب طيب، هدخل الحمام عشر دقايق بس، بليز!
سليم، وهو يبتعد عنها قليلًا ويعقد ذراعيه بتظاهر بالجدية: خمس دقايق؟ مش عشر؟
ماسة، بابتسامة لعوبة وهي تضع يديها على قلبها بتمثيل درامي: وعد، عشر دقايق بس! ، امسك الستوب واتش واتأكد، بليز وحياتي!
سليم، وهو يرفع حاجبه: طيب، لو زادت ثانية، يبقى عقابك ضعف المدة!
ماسة، وهي تضحك: اتفقنا… بس لو لقيتك واقف قدام الباب هعتبرها خيانة!
سليم، وهو يبتسم بمكر: خيانة!! طب ما هو أنا متأكد إنك هتحاولي تهربي، فلازم أفضل مربوط هنا!
ماسة، وهي تهز رأسها بيأس مصطنع: يا نهار أبيض، طيب على الأقل ما تبصليش بالمنظر ده، محسسني إني هربانة من سجن مش داخلة الحمام!
سليم، وهو يضحك: وأنا سجانك، وأهو شفتي، المسجون ما بيدخلش الحمام من غير ما أراقبه!
ماسة، وهي تضحك بخفة: طيب، طيب، خليني أدخل قبل ما تزوّد التهم عليا!
ابتسمت ماسة ووضعت قبلة سريعة على خده، ثم اتجهت نحو خزانة الملابس. فتحتها وأخرجت منها قميص نوم حريري باللون الأسود، ثم أخذت بعض الأغراض من التسريحة وسارعت بالدخول إلى الحمام.، بينما سليم يتظاهر بأنه سيلاحقها، فتصرخ ضاحكة وهي تغلق الباب بسرعة، ثم من الداخل تقول: أنا خلاص دخلت، بلاش أفاجأ بيك واقف مستنيني أول ما أفتح الباب!
سليم، بصوت هادئ يحمل نبرة تهديد مزاح: مش هكون مستني… أنا هكون مجهّز لك مفاجأة!
ماسة، وهي تضحك من الداخل: هو أنا كنت محتاجة سبب إضافي عشان أقلق؟!
جلس سليم على الفراش منتظرًا، ينظر حوله، يبدو متحمسًا وفي الوقت نفسه يحاول ضبط أعصابه.
بعد دقائق قليلة، خرجت ماسة من الحمام قبل انتهاء العشر دقائق.
كان قلبها يخفق بخفة، وكأنها تشعر لأول مرة بتلك الرهبة اللذيذة التي تسبق لقاء العاشقين. قميص النوم الأسود الطويل انسدل على جسدها بانسيابية، يعكس أنوثتها الهادئة، بينما تركت شعرها منسدلًا بلا تكلف. لم تكن بحاجة لأي زينة، فبريق عينيها، ونعومة ملامحها، كانا كافيين ليجعلها تبدو أجمل من أي وقت مضى.
ما إن رآها سليم حتى وقف في مكانه كأن الزمن توقف، عيناه ثبتتا عليها بذهول، وكأنها لحظة تُعاش للمرة الأولى. شعر وكأنه لم يرها هكذا منذ دهر، بل ربما لم يرها من قبل بهذه الصورة التي تكاد تسرق أنفاسه. ابتسم ابتسامة صغيرة لكنها كانت مشحونة بكل الأشواق التي حبسهَا داخله طيلة الأشهر الماضية.
اقترب منها ببطء، وكأن كل خطوة تقربه أكثر من شيء كان يشتاقه بجنون. توقف أمامها، ناظرًا إليها بعينين لا ترمشان، عينين تحملان رجفة العاشق الذي انتظر كثيرًا.
بينما كانت ماسة تبتسم برقة، امتدت يده وأمسك بيديها، كانت يداها دافئتين بشكل غريب، وكأنهما تحملان حرارة مشاعرها التي لم تخفت رغم كل شيء. رفع إحدى يديها برفق، وقبّل ظهرها قبلة طويلة، هادئة، لكنها كانت كفيلة بإشعال الحنين بينهما.
سليم، بصوت خافت كأنما يخشى أن يوقظ شيئًا بينهما: وحشتيني… أوي. وحشني أشوفك كده. وحشني أوي الإحساس ده. تعرفي إحنا بقالنا قد إيه ماقربناش من بعض؟
ماسة، بصوت بالكاد يخرج من شفتيها: كتير… تقريبًا سنة.
هز سليم رأسه، وكأن الرقم وحده كان موجعًا: فعلاً، سنة، يمكن أكتر.
ماسة، تهمس وكأنها تحاول استعادة الذكريات: من وقت الحادثة، مش كده؟
رفع سليم حاجبه برفض، اقترب أكثر وهمس لها بصوته العميق الذي يحمل دفء ألف ذكرى: لأ، من الشهر الثامن… إنتِ ناسية إن الدكتورة ادتني إفراج آخر 10 أيام؟
تبسمت ماسة بخجل، فأكمل سليم بصوت أقل ما يقال عنه إنه كان محمّلًا بالحنين: ولو هنحسبها بدقة… من وقت ماعرفنا إنك حامل.
عادت ماسة بذاكرتها للحظة التي اكتشفت فيها حملها، الذكرى لم تكن مجرد صورة في عقلها، بل إحساس اجتاح قلبها كأنه يحدث الآن.
أمسك سليم بيدها بلطف، رفعها حتى لامست صدره، حيث كان قلبه يخفق بجنون، لم تكن مجرد نبضات، بل اعتراف صامت بما يشعر به.
سليم، بصوت عميق مليء بالشوق: حاسّة قلبي بيدق إزاي؟ كأنها أول مرة نقرب من بعض، كأنها أول ليلة تجمعنا سوا.
ماسة، بابتسامة خجولة، لكنها تحمل في عمقها ذات الشعور: أنا كنت فاكرة إني لوحدي اللي حاسة كده.
رفع يده ليضعها على خدها، يتحسس ملامحها بلطف، ثم جذبها إليه وضمها بشدة، وكأنه يخشى أن تضيع منه. بعد دقائق من الصمت، حملها بين ذراعيه ببطء، كأنها شيء ثمين يخشى أن ينكسر بين يديه. اتجه بها نحو الفراش بخطوات واثقة، ثم وضعها عليه بلطف، وكأنها أغلى ما يملك.
جلس بجانبها، نظر إليها طويلًا، ثم أمسك يدها ووضع عليها قبلة طويلة، يملؤها بكل ما يعتريه من مشاعر مكبوتة وشوق لا يوصف، وعيناه مسلطة عليها.
أمسك يديها بحب وشوق وهو ينظر داخل عينيها، بينما رموشها ترف بخفة تحت وطأة مشاعرها. قال بصوت دافئ:
“أنا مش مصدق إن اللحظة دي رجعت لنا… وحشتيني بكل تفاصيلك… ضحكتك، نظراتك، حتى عصبيتك.
ماسة بصوت مرتعش يغمره الشوق: إنت كمان وحشتني أوي يا سليم…
سكتت لحظة، ابتلعت ريقها وهي تحاول أن تخفي دمعة خائنة تسللت من عينيها، لكنها فشلت، فاستسلمت لمشاعرها وهمست بصوت مبحوح:
كنت حاسة إني فقدت جزء مني… بس وجودك، حتى لو بعيد، كان بيعوضني. أنا بحبك أوي، أكتر ما تتخيل…
سليم بصوت عميق مليء بالإحساس، وكأن كلماته تخرج من أعماق روحه:
وأنا بموت فيكي… أنا كنت بتعذب، شايفك قصاد عيني، بين إيدي، بس مش قادر آخدك في حضني ونبقى جسد واحد وروح واحدة زي زمان…
نظر لها بعينين يملؤهما الاحتياج، وكأنه تائه عاد أخيرًا إلى داره. لم يحتمل المسافة، لم يحتمل فكرة أنها بعيدة ولو لثانية، اقترب أكثر، احتضن وجهها بين يديه، أصابعه تلامس بشرتها كأنه يتأكد أنها حقيقية، أنها هنا، أنها له.
همس بصوت مبحوح، كأنه وعد: عُمرنا ما هنبعد عن بعض تاني كدة.
ولم ينتظر جذبها له وتلاقى شوقهما بقبلة مشتعلة، لم تكن مجرد لمسة، بل كانت استرجاعًا لكل لحظة من الحرمان، اعترافًا بكل كلمة لم تُقال، تأكيدًا أن الحب بينهما لا يزال متوهجًا، أقوى من أي وقت مضى كان شوقهما لبعضهما كبير.
تعمّقت القبلة، تلاشت الحدود، وأصبح جسد واحد، روح واحدة، امتزجا ببعضهما بطريقة لا يمكن فكّها، كأنهما ذابا في بعض، كأنهما عادا إلى أصلهما الحقيقي… معًا.
كان يشعر بها تتغلغل في كل جزء منه، يشعر بقلبها يدق داخل صدره، بشفتيها تُعيد إليه الحياة، بيديها التي تتشبث به كأنها لن تسمح له بالابتعاد مرة أخرى.
بعدما اكتملت لحظتهما الخاصة، خفتت أنفاسهما قليلًا، لكنه ظل محتضنًا إياها كأنهما لم يكتفيا بعد، وكأنهما لم يشبعا من دفء بعضهما البعض. استرخت ماسة بين ذراعيه، وضعت رأسها على صدره، بينما ضمّها إليه بحنان، يده تمسّد شعرها برفق، وكأنه لا يريد أن ينهي هذه اللحظة أبدًا.
سليم بصوت منخفض لكنه مليء بالشوق: لسه ماشبعتش منك… وحشتيني أوي أوي، وعارف إني مستحيل أشبع منك أبدًا.
ماسة، وهي تضغط عليه أكثر، كأنها تود أن تذوب بين ذراعيه: وأنا كمان… وحشتني بطريقة مش طبيعية، ومستحيل أشبع منك أبدًا.
رفعت رأسها قليلًا وحدّقت في وجهه، بدا متعبًا بطريقة غير معتادة. لمحت ظل الإرهاق في عينيه، ولم تستطع منع نفسها من القلق عليه.
ماسة بلهفة: مالك ياسليم؟
نظر إليها بعينين يغلب عليهما الإرهاق، ثم تمتم بصوت خافت: مش عارف… حاسس بتعب غريب، وكأني مجهد جدًا.
ماسة، بابتسامة خفيفة، وهي تحاول تخفيف الأجواء: طب ماهو طبيعي، كنت عامل مجهود كبير، وبعدين الليفل كان جديد المرة دي على فكرة أنا كنت حاسه اننا كنا في حرب.
ضحك سليم ضحكة خافتة، لكنه هزّ رأسه بحيرة، ثم قال بصوت يكسوه شيء من الإحباط: بس مش طبيعتي كده يا ماسة… أنا نفسي أقضي اللحظة دي تاني، بس مش قادر… حاسس إن جسمي مش متجاوب زي كل مرة.
ماسة، وهي تضع يدها على خده بحنان: يمكن عشان المسكنات اللي بتاخدها؟ الأدوية ممكن تخلي جسمك مسترخي شويه، تخليك مش بكامل طاقتك.
أخفضت عينيها قليلًا قبل أن تبتسم بمكر خفيف: وبعدين، الصراحة، أنا كمان مش قادرة… تعبتني خالص، برغم إني ماشبعتش منك ولسه واحشني، بس بجد تعبت، وعايزة أنام في حضنك كده وبس.
وضعت قبلة دافئة على خده، ثم همست: أجيب لك حاجة تاخدها؟ دواء أو أي حاجة تساعدك؟
سليم، وهو يضمها إليه بقوة كأنه لا يريدها أن تبتعد ولو للحظة: لا… بس قولي لي بجد، انبسطتي معايا؟
ماسة، بحمرة خفيفة في وجنتيها، نظرت له بعيون مليئة بالحب والراحة: أيوه، والله العظيم انبسطت أوي… وماحسيتش بالوقت حتى .. أنت محستش يعني وأنا في حضنك.
سليم، بابتسامة خبيثة، وهو يقبّل خدها بحب: حسيت؟ بس بحب أسمعها منك.
ضحكت ماسة بخجل، لكنه لم يترك لها فرصة للهروب من عينيه، شدّها إليه مجددًا، ضمّها بقوة، وتبادلا قبلة قوية، وكأنهما يعيشان داخل فقاعة خاصة بهما، لا مكان فيها لأي شيء سوى هما، وقلباهما النابضان عشقًا لا ينتهي
في منزل نيللي الوحده مساء
كانت نيللي مسترخية على الأريكة، عيناها مثبتة على التلفزيون، أصابعها تلعب بخصلات شعرها بشرود. الأضواء المنعكسة من الشاشة كانت تتراقص على ملامحها، بينما صوت الفيلم الدرامي يملأ المكان.
دقات خفيفة على الباب كسرت الهدوء.
لم تلتفت على الفور، وكأنها لم تتفاجأ. فقط أخذت نفسًا هادئًا، أغلقت التلفزيون بحركة بطيئة، ثم وقفت.
توجهت إلى الباب، قبضتها أمسكت بالمقبض، وابتسامة صغيرة ارتسمت على شفتيها قبل أن تفتحه.
لكن… في اللحظة التي التقت فيها عيناها بالشخص الواقف أمامها، تلاشت الابتسامة تدريجيًا.
عيناها اتسعت قليلًا، لمحة من الدهشة لمعت فيها، وكأنها رأت شيئا غير متوقع.
ثانية واحدة من الصمت المشحون… قبل ما تهمس بخفوت: “إنتِ…؟!”