رواية وريث آل نصران الجزء الثالث للكاتبة فاطمة عبد المنعم الفصل الرابع والخمسون

رواية وريث آل نصران الجزء الثالث للكاتبة فاطمة عبد المنعم الفصل الرابع والخمسون

تائه ولكني وجدت الطريق هنا
وبعد أن وجدته عادت الطرق لتأخذني بعيدا عنه من جديد، عادت روحي شريدة، ولكنها لم ولن تنسى أبدا ذلك الطريق الذي وجدت سكنها فيه يومًا ما، لن تنسى البقعة المضيئة في النفق المظلم، ربما تنسى كل شيء، ولكن لن تنساكي أبدا.
اتصالات هاتفية كثيرة لا يجيب عليها، حررها من الأسر بعد أن طالبت بفك قيودها، قال ما لم يرده كل إنش به: أنتِ طالق.

ثم صعد إلى الطابق الثاني مبتعدا عن الجميع، كل محاولات طاهر للتواصل معه سواء بالدق على بابه أو هاتفيا فشلت، ولم ينجح منها سوى محاولة الصغير الذي طالب وهو يدق على الباب: عيسى افتحلي.
انزل يا يزيد تحت.
كان هذا رد عيسى وأبدى يزيد تذمره قائلا: يوه أنا زهقت، بابا قالي تحت أطلع فوق.
وأنت بتقولي أنزل، شوفوا حل بقى.

فتح له عيسى الباب وما إن دخل حتى أغلقه مجددا، عاد للمكوث في إحدى الغرف، ظن أنه سيبكي حتى تبيض عيناه، ولكن تفاجأ أن ألمه هذه المرة أكبر من أي بكاء، تحققت مخاوفه أمام عينيه ولم يبق ما يخسره بعد، حزين وبشدة، تكونت العبرات في عينيه ووضع يديه على رأسه محاولا إخماد كل هذه الأصوات، لم يقطع خلوته هذه إلا دخول يزيد الذي سأل ببراءة: عيسى ممكن أنام معاك علشان خايف أنام لوحدي؟

وحين لم يرد هرول الصغير يجاوره في الفراش مرددا: أنت حبيبي، أنا كنت عارف إنك هتوافق علطول.
وضع الغطاء عليه وهو يتمدد أثناء سؤال عيسى: منمتش تحت جنب رفيدة ليه؟
تحدث يزيد بصدق وهو يطالعه: بابا قالي أطلع هنا، وأنا كمان عايز اقعد معاك.
علشان أنت وحشتني، لما أنت كنت عيان، كانت ملك بتصوت وتعيط كتير وكل شوية يدوها حقنة وتنام.

أغمض عيسى عينيه بوجع مجاهدا ألا يُظهر حزنه في حضرة يزيد الذي استرسل: أنا كنت بقعد جنبها مع شهد، وبطبطب عليها وأقولها إن ربنا هيخليك كويس.
ابتلع عيسى غصة مريرة في حلقه وهو يحتضنه ثم قال: أنت حبيبي يا يزيد.
أكتر من ملك؟

سأله يزيد بمشاكسة وهنا لم يحتمل أكثر، نزلت عبراته، تمدد على الفراش وهرب إلى النوم وهو يحتضن الصغير، كان أفضل ما فعله طاهر هو إرسال ابنه إلى هنا، حدث نفسه بأنه ربما هذا سبب في شعوره ولو بقليل من الأمان الآن.

لم تنتظر نصران كما طلب منها، أخذت ما يهمها من هنا وغادرت دون أن تخبر أحد، تعلم أن ذهابها لوالدتها في هذا التوقيت سيُحدث قلق عارم هناك، ولكن لا مفر، وصلت إلى منزلها ودقت على الباب وما إن فتحت لها والدتها ورأت الحزن المرسوم ببراعة على كل إنش في وجه ابنتها وحقيبتها التي حملتها على كتفها حتى هوى قلبها أرضًا وسألتها: إيه اللي حصل؟
اتطلقت.

قالت ملك هذا ثم انهارت من جديد ولم تجد مأوى سوى شقيقتيها وقد وقفا خلف والدتها، بينما هادية حل عليها صدمة لم تقدر معها على النطق بأي شيء، أجلست شهد شقيقتها وطالبت مريم أن تحضر لها المياه مسرعة، ثم سألت بخوف: يعني إيه اتطلقتي يا ملك، أنتوا متخانقين طيب؟
عملك حاجة فطلبتي الطلاق؟
ردت من بين شهقاتها: لا.
وهذا جعل والدتها تستدير لها وتستفسر بانكار لحديث ابنتها الأول: يعني إيه لا؟، يعني ما طلقكيش؟

تناولت ملك الماء من مريم وبعد أن شربت أردفت: اتطلقنا، أنا اللي طلبت، هو معمليش حاجة بس أنا مش مرتاحة.
أمر كهذا بالنسبة لوالدتها وعادات المكان بأكمله غير مفهوم لذلك ظهرت الحدة في نبرة هادية وهي تميل لتصبح في مستوى ابنتها وتسألها: لما هو معملكيش حاجة بتطلبي ليه؟
بان وجعها وهي تجاوب بقهر طالبة من والدتها أن ترأف بحالتها: مش مرتاحة يا ماما.

ولكن لم تحصل على ما تمنت حيث طعنتها عبارات هادية والتي قالت: هو مش عيسى ده اللي أنا قولت عليه لا من الأول، وأنتِ قولتي إنك عايزاه، دلوقتي بعد ما قولت الحمد لله إنك هديتي وفي بيتك جاية تقولي مش مرتاحة، بتعملي فيا كده ليه يا ملك؟
كل هذا جعلها تصرخ بانهيار مرددة: يا ماما حرام عليكي بقى، حرام عليكم كلكم، سيبوني في حالي، محدش ليه دعوة بيا، لو مش عايزاني هقوم امشي حتى لو هقعد في الشارع.

وأمام محاولات شقيقتيها في تهدئتها وقول مريم: ملك اهدي
ونظرات والدتها الغير مصدقة أكملت صراخها قائلة: يارب اموت يا ماما علشان ترتاحوا كلكم
انكمشت على نفسها وهي تتابع وقد وصل انهيارها لأقصاه: يارب ريحني بقى يارب.
احتضنتها شهد وأخذت مريم والدتها بعيد عنهما، كان كل شيء مثل كابوس ظنت هادية أنها ستستيقظ منه ولكن هذا لم يحدث أبدا.

حتى مرور الأيام لم يقلل من قسوة ما تعانيه، ‏كل ما رسمته وظنت أن تحقيقه قريب انهار أمام عينيها، الأحلام والوعود التي وعدها بها راحت كلها هباءا بعد ما حدث لمن أحبته وبشدة، بعدما فقدت شاكر، ‏ لا تعلم هل هذا حقيقة أم خيال، كل ما تذكره فقط أن والدها أتاه استدعاء من القسم، وحين عاد أخبرها بما وصله، تذكر انهيارها والذي لم يقل عن انهيار كوثر و علا، لم يصدقوا الأمر، ولم تصدق حتى بعد أن رأت كاميرات المراقبة ومرور زوجها من هذا الطريق، حتى بعد أن ثبت ببرهان التحاليل الطبية أنه هو، كان برهان التحليل هو القشة التي قصمت ظهر البعير، منذ ذلك اليوم ووالدته تحيا على المهدئات وتنكر باستماتة حقيقة أنها فقدت ابنها، حتى في اللحظات القليلة التي أدركت بها، طالبت ألا يُدفن في بلده، حتى لا ترى الشماتة في عيون من عاداهم، وبالفعل دُفِن في المقابر الخاصة بعائلة ثروت.

أما علا فتائهة، حزينة، لا تعلم أين الطريق.
دخلت علا إلى غرفة بيريهان حين غادرت ندى، جلست جوارها على الفراش بصمت تام حتى قالت: هو احنا مش هنعمل عزا لشاكر؟
لم ترد بيريهان كانت تائهة تنظر في اللاشيء، ولم تنطق إلا بعبارة: كله بسببها.
نزلت دموع علا حين تذكرت كيف رحل شقيقها ثم ردت: اللي حصل ده قضاء ربنا يا بيريهان، يمكن كان شارب وهو سايق أو حصل حاجة غلط.

طالعتها بيريهان باستنكار هاتفة: هو أنتِ ازاي بشعة كده؟، بتدافعي عنهم على حساب أخوكي؟، اللي أنتِ بتدافعي عنهم دول هما اللي اتفقوا مع محسن يعمل فيكي اللي كان هيعمله، ومحدش لحقك غير شاكر.
مسحت علا عبراتها وهي ترد: أنا مبدافعش عن حد، ومفيش انسان هيزعل على أخويا قدي، كل اللي قولته إنه كفاية دم ومشاكل لحد كده، أنا وأمي مبقاش لينا حد غير ربنا، ولو فعلا هما اللي سلطوا محسن مع إني أشك فأنا مسامحة.

صرخت بيريهان في وجهها بغضب: أنا بقى مش مسامحة يا علا، مش مسامحاها ولا مسامحاهم.
دافعت علا عن ابنة عمها قائلة: ملك اتظلمت يا بيريهان.
تابعت زوجة شقيقها انهيارها وهي تردد بضياع: متجبيليش سيرتها، وابعدي عني بقى.
ثم انتفضت وسحبت مفاتيح سيارتها قائلة: ولا أقولك أنا همشي من وشك خالص.

كان خروجها كبركان لم يلحق بها سوى ندى التي عادت للتو من الخارج، وأقنعتها بصعوبة أن تقود السيارة هي، وهي تدرك جيدًا أن خطوات ابنة عمها غير المحسوبة هذه لن يرضى عنها والدها أبدا.
استجابت أخيرا لمريم بعد انقطاع عن التواصل، نجحت شقيقتها في إحباطه أخيرا، وضعت أمامها طبق به بعض الشطائر قائلة بتحفيز: كلي بقى، أنا سايبة ورايا حاجات كتير ووقفت عملتهم علشانك.

ابتسمت ملك بحزن وربتت مريم على كتفها وناولتها واحدة، بدأت ملك في تناولها ولاحظت مريم هاتف شقيقتها المفتوح على صورها مع عيسى فجلست جوارها تسألها بحيرة: طب ليه يا ملك، طلبتي منه كده ليه؟
وأنتِ هتتوجعي أوي كده؟
تركت ملك ما بيدها وهي تقول: لو كنت اقدر اجاوب، كنت جاوبت على نفسي الأول.
عبارتها هذه جعلت شقيقتها تصمت متأثرة على هذه النهاية التي توقعت كل شيء ولم تتوقعها أبدا.

في نفس التوقيت كانت شهد مع طاهر في حديقة منزل نصران تستمع لقوله المتذمر: شهد أنتِ بتحلي ولا بتبوظي؟
فردت عليه بانزعاج: لا أنا ولا أنت هنحل يا طاهر، العيب على أخوك.
يعني إيه تقوله طلقني يطلقها
هيكتفها يعني يا شهد ولا هيعمل إيه؟، بابا قالي إنها كانت مصرة
استفزها رد طاهر فعلقت بانفعال: لا ميكتفهاش، بس ميسمعش كلامها في ساعتها، يسيبها تهدى حتى، إيه هو بايع خالص كده؟

ثم بان الحزن على وجهها وهي تسترسل: أنا زعلانة أوي على ملك، وزعلانة علينا، هنتجوز ازاي وأخوك طلق اختي؟
جاوب على سؤالها بغيظ: ملكيش دعوة بينا، طلعينا برا أي حسابات، ولو عندك كلمة كويسة تحل المشكلة قولي، معندكيش اسكتي.
أنا خايفة أوي يا طاهر.
صارحته بمخاوفها بكل صدق فمسح على خصلاتها مطمئنًا برفق: متخافيش، أنا معاكي وهنحلها إن شاء الله
سألته بقلق: طب لو متحلتش.

وأتى جوابه مريحًا بعض الشيء: يبقى ده الخير ليهم يا شهد، المهم إني كنت عايز أبلغك بحاجة بس بلاش تجيبي سيرة قدام ملك دلوقتي
سألته وقد طالعته بفضول: حاجة إيه؟
هو أنتِ لون شعرك متغير؟
سأل باستغراب واتسعت ضحكتها وهي تجاوب: أنت راجل جدع على فكرة، أصل أنا دخلت على ويب سايت من فترة اسمه علامات الاهتمام العشرة، عشر علامات، بعشر اختبارات، بعشر درجات.

طالعها بذهول وهي تتابع بجدية: الاختبارات دي لو أنت نجحت فيهم هما العشرة تبقى نسبة التوافق في العلاقة 100 في ال 100
ثم أكملت بتحذير ونظرات متوعدة: لو فشلت بقى في أي واحد فيهم يبقى محتاجين نشوف المشكلة فين يا أستاذ ياللي مبقتش مهتم.

رد عليها بغير تصديق مستنكرًا: إيه الكلام الفاضي اللي أنتِ بتقوليه ده، ويب سايت إيه، واختبارات إيه، أنا الاختبارات الوحيدة اللي أعرفها هي اختبارات المدرسة والكلية ودول لولا إن فلوس أبويا حلال مكنتش نجحت فيهم.
حذرته مشيرة بسبباتها: لو سمحت ده مش كلام فاضي، ده كلام خبيرة العلاقات الدكتورة أسمهان شكري.
فرد عليها بضجر: ده كلام يودي في داهية.

ابتسمت بغيظ ثم قالت له: هو هيودي فعلا بس لما تفشل في اختبار منهم، لكن أنت يا حبيبي شاطر و نجحت في أول اختبار، خدت بالك من تفصيلة إني غيرت لون شعري، كده معاك 1 من 10.
والنجاح عند أستاذة أسمهان عادي من درجة النص ولا ظروفه إيه بالظبط؟
نبرته الساخرة هذه جعلتها تطالعه بغضب وهي تسأل: هو أنا شامة ريحة تريقة؟

فجاوبها بتذمر: تشمي بقى ولا متشميش، جاية لواحد مبيركزش أصلا هو بياكل إيه، تقوليله اختبارات وأسمهان شكري، عارفة لو تبطلي تمشي ورا أي ويب سايت يعكنن عليا، ربنا هيفتحها في وشك إن شاء الله
ثم ربت على كتفها مكملا بابتسامة صفراء: ربنا يهديكي.

لم تكد ترد عليه حتى قطع جلستهم هذه دخول حارس البوابة مصطحبًا بيريهان وابنة خالتها، استجابت ندى مرغمة لرغبة ابنة عمها في السفر من القاهرة إلى هنا، لم تفصح لها حتى عن نواياها رغم محاولات ندى خلال ساعات القيادة إلى هنا، قطعت بيريهان جلستهما حين قالت بتهكم: إيه يا طاهر مش هتعزيني ولا إيه؟، ولا تعزيني ازاي صحيح هو أنتوا هتقتلوا القتيل وتمشوا في جنازته.

ترك مكانه جوار شهد واستقام واقفًا يواجهها قائلا: والله الأخبار اللي جاتلنا، بتقول إن عربيته متفحمة بيه، وإنه الكاميرات جايباه وهو سايقها لوحده، مجابتناش ليه الكاميرات دي واحنا داخلين وراه؟
صُعِقت شهد من هول ما يقال والذي لا تعرف عنه أي شيء، من مات وكيف، ولا إراديًا سألت: هو شاكر مات؟
ردت عليها بيريهان بوجع: اه، اختك فين بقى، اطلعي اندهيها يلا علشان أنا عايزاها
أنتِ ومال اختي، لو حد ليه حق تبقى اختي.

هكذا ردت شهد مدافعة، وصرخت بيريهان: الحيوانة اختك دي أنا مشوفتش حد بجح قدها
اعترضت ندى وهي تمنعها: بيري، مينفعش كده.
لم تكد بيريهان تنطق بشيء آخر حتى نزل لها عيسى فهللت بسخرية: أهلا، أهلا، مبسوط أنت طبعا، الدنيا مش سايعاك دلوقتي، مبسوط بقهرتي دلوقتي أنت والحقيرة اللي متجوزها.

ضحك عيسى ساخرًا ثم طالعها يرد عليها بهدوء: الحقيرة دي هي اللي معندهاش كرامة، وراحت اتجوزت واحد عرف يلعبها صح عليها، ويوهمها يا حرام إنه بيحبها علشان عارف إن عقلها صغير وهتصدقه، هي دي اللي تستحق فعلا إننا نقول عنها كده يا بيريهان.
أثار استفزازها وأخرجت هي طاقة غضبها في كلماتها: لا حقيرة وبتلعب على كل الحبال، بتشوف مين مصلحتها معاه وبتخلي كفته تطب، بسببها راح اتنين، أخوك وجوزي.

سألها متهكمًا: جوزك؟، هو أنتِ هتحسبي شاكر ده علينا واحد؟
أحسن منك ومن مليون زيك.
ردت عليه مهاجمة وحاولت ندى منعها ولكنها لم تقدر وجاهد عيسى لكي لا يغضب وهو يقول: مغفلة، وأنا بعذر المغفلين وبقدر ظروفهم فمش هرد عليكي وعموما اللي أنتِ جاية تسألي عليها مش هنا، ولو فكرتي تتعرضيلها بخير أو بشر هتضايقي جامد، ويلا امشي من هنا بقى.

اتهمته بغضب: كل اللي أنت بتقوله ده ميفرقش معايا، وبكرا تشوف مصلحتها مع غيرك لما الأحسن يجي.
فجاوبها بابتسامة: لا أنا الحمد لله أحسن واحد، مفيش حد أحسن مني.
ثم طلب من ابنة عمها: خديها يا ندى واطلعوا بالذوق من هنا، بدل ما تطلعوا بطريقة تانية، وابقي سلميلي على ثروت باشا وقوليله البقاء لله.

طالعته ندى بغير رضا، ثم حاولت مرة اخرى مع ابنة عمها وأخيرا استجابت وخرجت معها ولكن تضاعف غضبها وألمها بعد هذه المقابلة حتى أوشكت على الانفجار.
بمجرد ذهاب بيريهان ذهب هو الاخر إلى حيث الوجهة التي حددها قبل مجيئها، وصل إلى المحل وما إن رأته هادية حتى احتدت نظراتها وسألت بوجوم: خير؟
عايز أشوف ملك
هكذا جاوب عيسى بهدوء وردت هي عليه: ابقى شوفها بكرا ان شاء الله، حاج نصران قال إنه جاي بكرا علشان نتكلم.

فابتسم وهو يخبرها: مفيش حاجة نتكلم فيها لو ملك مش عايزة
لم يأت لشجار وبان هذا في نبرته وهو يكرر طلبه: خمس دقايق ومش هطول، بس عايز اديها حاجة.
وافقت هادية على مضض، صعدت معه وأخبرت ابنتها ثم ذهبت إلى المطبخ تُعِد له الشاي، خرجت ملك مرغمة، خشى كل منهما النظر للآخر فقط جلست بصمت ووضع هو ما بيده على الطاولة قائلا: نسيتي دول.

نظرت لما وضعه، وسريعا ما علمت ماهيته، هذه الأشياء التي تركتها عن عمد، مصوغتها الذهبية التي أهداها لها نصران بعد زواجها، وأكمل عيسى: دهبك.
أنا مش عايزة حاجة.
قالت ذلك بهدوء رد هو عليه: ده حقك، عايزاه بقى أو مش عايزاه ده مش هيغير حاجة، وعموما أي كلام عندك ابقى قوليه للحاج.
ارتفعت تطالعه وللمرة الأولى منذ أن أتى إلى هنا وسألته: أنت جاي ليه يا عيسى؟

ابتسم بمرارة قبل أن يرد على سؤالها: جاي أشوفك، جاي اسألك لأخر مرة أنتِ عايزة إيه؟
استفسرت بتخوف: يعني إيه أخر مرة؟
ولم يأبه هو بل كرر سؤاله: عايزة إيه يا ملك؟
طال صمتها قبل أن تقول وهي تنظر للأرضية: اللي أنا عايزاه هو اللي حصل.
رفع وجهها لتنظر إليه سائلا: بجد؟
عيناه الصافيتان حملا عتابًا لم تعهده من قبل فيهما، كل الأشياء تقول أن جوابها هو الرفض وقلبه فقط ينكر هذا الجواب.

لم تنطق بحرف، هزت رأسها موافقة بأن هذا ما أرادت، ولم تتوقع أن يكون رده: ماشي يا ملك، عموما كده أحسن برضو.
رد أخفى به خذلانه وقتلها به وخاصة حين تابع: وأنا جيت اسألك علشان…
ولكن بتر عبارته قائلا بسخرية: ولا خلاص مبقاش ليه لزوم الكلام ده.

لمعت العبرات في مقلتيها حين رأته يقوم ليغادر، أرادت لو تمسكت به، منعته من الرحيل وأخبرته أنها تريد العودة ولكن أبى عقلها، وتمكن فؤادها وجعلها تقول: هو أنا ممكن اطلب منك طلب؟
توقف مكانه، أراد أن يسمعها، وأرادت هي أن تقول له: ابق بجواري.
ولكن وجدها تقول: ابقى طمني عليك.

ضحك، حملت ضحكته ألمه وسخريته من كل شيء، حملت تهكمه من قولها، وحملت ملك الألم من أنها رأت في عينيه ذلك البريق، رأت الصغير الذي أتى إلى أعتابها بحجج غير مقنعة يخفي خلفها طلبه بألا ترحل، لم يكن هين عليها أبدا أن تخذله، وانتظرت رده على قولها ولكنه لم يعطها رد، بل غادر مباشرة بعد ضحكته الساخرة هذه، غادر ولم يخف عليها النظرة التي طالعها بها، النظرة التي نجحت في أسرها من جديد ككل مرة، ولكن هذه المرة كانت لا تُنسى أبدا.

هم من أتوا إليه ليس هو، لا ينسى ما أخبره به حسن عما عرفه نصران عن نوايا غريمه تجاه ابنه، نوايا منصور بالتخلص منه، أتى منصور مصطحبًا جابر بادعاء زيارة عيسى، كان قد عاد للتو من الخارج ولكن بمجرد أن سمع بتواجدهم نزل لهم، ما إن لمحه منصور على الدرج حتى قال: نزلت ليه بس وتعبت نفسك.

لم يرد عيسى، تحرك بهدوء ليجلس بين والده و طاهر، استمع إلى باقي حديث ضيفه المنافق: احنا والله كنا عايزين نيجي من ساعة ما طلعت، بس الحاج بقى قالوا إنه مانع الزيارة، أول ما عرفت إنه سمح بيها جيت أهو.
رد عليه عيسى بابتسامة: واجبك واصل.
تحدث جابر أخيرًا بعد أن نبهه والده: ألف سلامة عليك.
الله يسلمك يا جابر، بس مقولتش يا حاج منصور، كنت هتيجي تزورني بنفسك ولا زي عادتك هتبعت اللي يخلص أوام أوام.

قال عيسى هذا باستهتار رد عليه منصور بتصنع الجهل: يخلص إيه؟
ثم استدار منصور يسأل جابر: أنت فاهم حاجة من كلامه يا بني.
استوقفه عيسى سائلا باستنكار مصطتنع: ابني؟
سأل هذا السؤال؟، ثم علت ضحكاته الرنانة في المكان، ضحكات قابلها نظرات خائفة من منصور، نظرات مذهولة من السؤال الذي يحمل أكثر من معنى ولكن المعنى الأكثر خطورة بينهم هو أنه يعلم شيء سيتسبب في افتضاح أمره وأوحى عيسى بهذا أكثر حين سأل: إيه ابنك دي؟

حينها فقط طالعهما جابر بريبة، سؤال عيسى هذا نجح وبجدارة في أن يتسبب في توتر الأجواء، نجح في أن يمكن صاحبه من أن يضع بصمته مرة ثانية ليثبت من جديد أنه ملك المفاجأة.