رواية غوى بعصيانه قلبي الجزء الثاني للكاتبة نهال مصطفى الفصل العشرون

رواية غوى بعصيانه قلبي الجزء الثاني للكاتبة نهال مصطفى الفصل العشرون

خُلق القلب عصيًا: – كان يلزمنا قلوبٌ أكبر كي تتّسع لكل هذا الحُب
قالتها ذات مرةٍ جدّتي ولم أفهم كلامها إلا بعد زمن طويل وبالأخص عندما ألتقيت بك.
رسيل المصري.

دبت أرجل تميم أعتاب القصر لأول مرة بعد مرور أثنى عشر عاما على دخوله من هذا الباب واقفًا، ركضت سيدة المستيقظة للتو نحوه مهللة بكلمات الترحيب حتى ابتلعت ما تبقى من حديثها بثغرٍ مزموم وأعين منفرجة عادت لتفركهم وهي تفحص تميم واقفًا، فانطلق لسانها بزغاريد متقطعة من هول الصدمة فاندفعت إليها شمس: -سيدة! انتِ اتجننتي؟ الساعة 6 الصبح!
ردت بذهول: -تميم بيه أنت خفيت! يا صلاة النبي، يالف نهار أبيض.

ثم ركضت إليه وضمته بين ذراعيها: -حمدلله على سلامتك، عشت وشفتك واقف على رجليك.
ما أن ابتعدت عنه انفجرت بزغرودة سدها تميم ضاحكًا: -اهدي يا سيدة. استنى يصحوا وزغردي براحتك.
ظلت تحسس على كتفيه ورأسه وتدور حوله بفرحة مبطنة بالدهشة: -والنبي ما حلم. ياالف بركة، يا ما أنت كريم يارب.
تقدمت شمس إليها: -طيب ممكن بقا تحضري الفطار عشان تميم يأخد أدويته.
قفزت بحماس: -فُوريرة…

ثم ركضت نحو المطبخ وهي تلهث بفرحة: -فينك يا ست مديحة تشوفي اليوم ده! يا فرحة قلبي…
أشارت له شمس بملامحها الجادة وهي تتقدم إليه لتسنده من ذراعه السليم: -يالا.
وصل الثنائي إلى غرفتهم قبل ان يراهم أحد، أجلسته على طرف السرير وأخرجت صندوق الإسعافات الأولية من الحقيبة الواسعة المُعلقة بكتفها وقالت برسمية: -لازم أغير على الجرح.

فتحت عُلبة الاسعافات وجلست أمامه وشرعت في فتح أزرار قميصه بيدها المهزوزة وعينيها التي تتحاشى النظر إليه عكسه تمامًا. أحست بالاختناق من الحجاب الذي يغطى رأسها وطرفه الطويل الذي يتابع حركتها فنزعته بتلقائية وحررت شعرها من تحت الحجاب مما أحس ثورة جديدة بقلبه.
حررته من قميصه بحرصٍ فتأوه متألمًا إثر حركة يديه الخفيفة فاعتذرت بلهفة: -أنا أسفة.

تلاقت أعينهم للحظة فأربكتها نظراته المشتاقه حيث عادت مرة أخرى لكتفه وشرعت في رفع الشريط اللاصق من عليه بحرصٍ شديد وهي تُراقب تقلص ملامحه المتألمة وتقول:
-معلش هو بس عشان لسه طري هيوجعك، هحاول أخفف أيدي.
رد معاتبًا: -مش الجرح بس بيوجعني يا شمس.
طالعته بعدم فهم حتى أكمل بحنو: -زعلك مني أقوى من ألف رصاصة!
-هاااه؟
أحمرت وجنتيها بخجل ثم غيرت مجرى الحديث: -الظابط متكلمش تاني عشان يعرفوا مين اللي عمل كده.

-بصراحة أنا هتجنن وأعرفه، عشان أشكره أنه ضربني عشان أجمل دكتورة في الدنيا تراعيني بنفسها.
انتفضت يدها التي تطهر جرحه فصاح متأوهًا، رفعت كفها معتذرة: -يووه، أنا أسفه. مش قصدي، ممكن تسيبني أركز!

و كأن قلبيَّ تخلى عني و أصبحَ ملكاً له.
أول ما فعلته عندما فتحت عيونها فتشت عنه بجوارها فلم تجده، اعتدلت من نومتها وطافت عينيها حائرة تبحث عن طيفه ولكن بدون جدوى. تناولت سترتها المُلقاه لترتديها ثم اتجهت نحو المرحاض ودقت الباب بخفوت: -عاصي، أنت جوه؟
لم تعثر على ردٍ فتحت الباب وامتدت أنظارها للداخل فكان فارغًا تمامًا. مدت شفتيها بشك: -مش معقولة نزل الشُغل بدري كده!

تراجعت عائدة إلى الغرفة ثم إلى النافذة التي أزاحت الستار من عليها ثم تفقدت المكان حولها فوجدته يعوم بداخل حوض المياه الخاص بالقصر، حدجته بعتب: -والله بيهرج؟ حد ينزل البول في السقعة دي؟
قفلت الشُرفة ثم اتجهت نحو الخزانة وأخرجت منها منشفة كبيرة. كادت أن تتحرك نحو الباب ولكنها تراجعت ووضعت على كتفيها شالًا للتدفئة ثم غادرت حاملة على ذراعها منشفته الخاصة.

هبطت لأسفل وجرت أحد المقاعد وجلست بجوار الحوض تُراقبه ولم يخل فمها من كلمات اللوم:
-أنت مش خايف تاخد برد!
وقف بمحاذاتها ساندًا ذراعيه ذي العضلات البارزة على سطح الحوض: -متعود على كده. تحبي تيجي!
أشاحت بنظرها سريعًا في أركان المكان حولهم وقالت: -مش هينفع. وبعدين فعلًا الجو برد، يلا أخرج كفاية كده.
-بس لسه مخلصتش.
أصرت بعيونها التي لا تختلف عن لون السماء فوقهم: -عاصي!

استسلم لطبلها وخرج في الحال فأسرعت بوضع المنشفة فوق كتفيه وشرعت في تجفيف قطرات الماء من فوق جسده وهي تعاتبه: -والله بجد، حرام عليك نفسك. يلا نطلع فوق عشان متاخدش برد.
جذبها إليها عنوة طابعًا قُبلة طويلة على جدار عنقها قائلًا: -صباح الخير.
تملصت من قبضته بخجل: -أنت بتعمل أيه. حد يشوفنا!
-أنا أعمل زي ما أنا عايز، مكان ما أحب.
-طيب يلا اتفضل خُد شاور وأنا هعملنا كابتشينو وأحصلك.

عارضها قائلًا: -سيدة صحيت، قوليلها تعملنا.
أجابته بدلال: -حابة أعمله بنفسي. يلا بقا اطلع فوق وبطل غلبة.
تعمد العزف على أوتارها: -طيب متتأخريش عشان عايزك في موضوع مهم جدًا.
سار الثنائي معًا حتى افترقا عند بداية الدرج، صعد عاصي لأعلى بينما حياة اتجهت إلى المطبخ فألقت التحية على سيدة التي كانت تخمر المخبوزات الصباحية، استقبلتها مهللة: -يا صباح العسل، وشك ولا وش البدر المنور، تعالى تعالى.

تقدمت حياة نحوها: -أنا عايزة أعمل كابتشينو، قوليلي بس مكان الحاجات.
-ارتاحي انتِ بس وأنا هعملك كل حاجة.
-لا معلش، مش هتعبك. حابة اعمله بنفسي.
أحضرت لها سيدة كل ما طلبته وشرعت حياة في إعداد القهوة المميزة التي تحضرها وفي تلك الاثناء أخرجت سيدة بعض الفطائر من الفرن فشهقت بإعجاب: -الله يا سيدة ريحتها تجنن. حاسة إني عايزة أكل الصينية كلها.

-يألف هنا وشفا على قلبك يا ست الستات. أيوة كده ارجعي بيتك ونوري القصر وبلاها بعد وفرقة.
جلبت حياة طبقًا وشرعت في وضع بعض الفطائر بداخله حتى سخن الحليب وسكبته بالمج . في هذه اللحظة جاءت شمس وفوجئت بوجود حياة. اقتربت منها بوجه مبتسم:
-أيه المفاجأة الحلوة دي؟
حضن الفتاتان بعضهم بحب وتبادلن كلمات الترحيب حتى تدخلت سيدة بينهم: -فطار سي تميم جهز باقي بس البيض هجهزوا حالًا.

شكرتها شمس بعرفان: -تسلم أيدك يا سيدة.
ثم وجهت حديثها لحياة: -بجد مبسوطة أوي أنك رجعتي القصر.
-مرسي بجد يا شمس، وقت ما تكون فاضية أبقى تعالى الأوضة عندي ندردش سوا.
-إن شاء الله.
جاءت حياة تحمل الصنية فأصابتها رائحة السمن الفلاحي والبيض المقلي فتركت ما بيدها بعجل واتجهت نحو الحوض لتفرغ ما بأحشائها. ركضت شمس إليها بلهفة: -أنتِ كويسة؟

في تلك اللحظة أطلقت سيدة صوت زغاريد وهللت: -يالف نهار أبيض، يالف مبروك يا ست حياة.
حدجته شمس بحدة كي تصمت: -سيدة!
غسلت حياة شدقها ووجهها وتناولت المناديل الورقية من يد شمس وجففت الماء من عليها وهي تتنفس بصعوبة، مدت لها شمس كوب الماء بالليمون: -اشربي ده هيهدي معاكي لو واخدة برد.
تدخلت سيدة معلنة: -برد أيه يا ست الدكتورة، دي حامل.
سألتها شمس: -دي حقيقي يا حياة؟
-حقيقي أيه بس، سيدة بتقول أي كلام!

تدخلت سيدة باعتراض: -اي كلام أيه بس. طيب ست الدكتورة أهي وتكشف عليها ولو ما طلعتي حامل أبقى قولي سيدة دي ما تفهمش حاجة!
ردت حياة ساخرة: -الله يهديكي يا سيدة بلاش تقولي الكلام ده، عشان أنا مش حامل ولا حاجة.
-ليه بقا؟ وشك باهت ومخطوف وكل ما تشمي حاجة حرشة ترجعي! دي كلها أعراض حمل اسمعي مني!
تدخلت شمس مقترحة: -طيب ما تعملي اختبار يا حياة مش هتخسري حاجة! ولو حابة أنا ممكن اكشف عليكي.
-حتى أنتِ يا شمس!

ثم تقدمت نحو مائدة القهوة: -انا هاخد القهوة لعاصي قبل ما تبرد.
غادرت حياة من المطبخ فاقتربت سيدة من شمس ووشوشت لها بفرحة وهي تمسك شعرها: -وحياة دول هتطلع حامل وابقي قولي سيدة كلمتها ما تنزلش الأرض أبدا…
صدرت شمس الوجه الخشب وقالت بحدة: -خليكي في شغلك يا سيدة وهاتي يلا الفطار عشان تميم ياخد علاجه…
هللت بفرحة: -دانتِ دخلتك عليا وسي تميم كده واقف على رجله ردت فيا الروح. انت ليه مخلتنيش أزغرد!

شرعت شمس في وضع الأطباق على الصينية الخشبية بسبب نفاذ صبرها من ثرثرة سيدة الغير مجدية وقالت: -هنعيده تاني يا سيدة؟

-يا خبر! أنا أزاي نمت هنا؟
تفوهت عالية بجملتها الأخيرة عندما نهضت وجدت نفسها بمكتبه نائمة طول الليل ووجدته جالسًا على مكتبه ينهي بقية تصاميمه الهندسية. ترك ما بيده وذهب إليها بابتسامة واسعة:
-صباح الخير.
مسحت على وجهها بكفيها وقالت بلوم: -خير أيه بس؟ أزاي متصحنيش يا مراد! أنا نمت من غير ما أحس والله…
جلس على المقعد المجاور لها و قال ممازحًا: -وأنا ادبست في البيتزا لوحدي.

ظلت تبحث عن حذائها بإحراج: -أنا دربكت الدنيا بجد أنا أسفة. لازم أمشي
-أهدي بس وروقي، لسه الموظفين بيجوا الساعة 9، أعملك قهوة تفوقك وبعدين ننزل.
-بس…
-مفيش بس، اتفضلي الحمام هناك، اكون خلصت القهوة.

لبت طلبه على مضض وتحرك هو لإعداد القهوة حتى فرغ كل منهما من عمله وجاء إليها حاملًا الكأسين ووضعهم على الطاولة ثم اتجه نحو الثلاجة وأخرج منها مخبوزات الكوكيز التي تنتمى لأشهر المحلات وجلس بجوارها: -آكيد مش هعزم عليكي!
ظلت تراقبه بعيون محبة حتى ختمت جملته بابتسامة خفيفة: -بجد شُكرًا يا مراد. شكرا على كل حاجة.

رد ممازحًا لكسر سور الخجل بينهم: -بتشكريني على أيه بس! دانا في مقام أبو ابنك أو بنتك. أحنا متفقناش هنسمي أيه!
ضحكت بقلة حيلة: -يا ربي منك! أحنا هنكذب الكذبة ونصدقها كمان؟
-أومال؟ لازم نصدقها عشان كل اللي حولينا يصدقوها.
ارتشفت رشفة من القهوة ثم أبدت إعجابها بها: -لذيذة…
-أنتِ ولا القهوة!
انشغلت في فتح عُلبة الحلويات: -مش هرد عليك…

فانفجر ضاحكًا بصوت مسموع في تلك اللحظة جاءت بتول وفتحت المكتب بدون سابق إذن وكانت صدمتها ومفاجأتها بوجود عالية ومراد معًا وصوت ضحكاتهم يملأ المكان. تجمدت بمكانها:
-سوري، مكنتش أعرف أن في حد هنا.
رمقتها عالية بسيل من الغيرة ثم نظرت لمراد الذي سألها: -بتول! جاية بدري ليه؟
-أبدًا عندي شغل متأخر قلت أجي أخلصه، بس يظهر جيت في وقت مش مناسب.
فاندفعت عالية: -بصراحة آه.

طالعها مراد باستغراب فبررت: -قصدي لا. أنا أصلًا كُنت ماشية.
دنت منهم بتول تتمايل وتشاهد اللحاف المكوم وراء عالية: -ما لسه بدري، أنتِ لحقتي تقعدي! ولا كُنتِ أصلًا بايتة هنا؟
وقفت عالية معلنة الحرب عليها وقالت ببرود: -لا كُنت بايتة، بصراحة الكلام أخدنا أنا ومراد وأحنا بنختار اسم البيبي اللي جاي، فنمت محستش.

وثب مراد من مكانه واقفًا بين القطتين المشاكستين، فكل منهمن تستخدم أسلحتها للفوز به، طالعتها بتول بضيق معبأ بملامحها ثم نظرت لمراد وسألته: -مراتك؟
مالت عالية وأخذت حقيبتها بعد ما أعلنت صك ملكيتها له صراحة وقالت: -اسيبك بقا يا مراد تشوف شغلك. ابقى نكمل كلامنا بعدين.
-طيب استنى اوصلك.
-لا مفيش داعي، عربيتي تحت.

وصلت حياة إلى الغُرفة ويبدو عليها ملامح التعب والإرهاق، وضعت ما بيدها على الطاولة ثم اقتربت منه حيث كان واقفًا أمام المرآة يرتدي قميصه الأبيض، وضعت كوب القهوة على التسريحة ودنت منه وأخذت تقفل أزرار القميص بأناملها الناعمة. فرفعت عينيها إليه:
-الجو برد، ممكن تلبس حاجة تحت القميص.
بد شبح ابتسامة خفيفة على ثغره ولكنها سرعان ما ذابت في بحر لهفته: -مال وشك! أنتِ تعبانة؟

دنت منه خطوة سُلحفية وقالت بصوت خافت: -لما صحيت ومش لقيتك اتخضيت بس!
وضع كفه فوق خصرها بحب: -ليه؟
تدلت بأنظارها إلى قميصه وهي منغمسه في قفله: -أبدًا، كنت هزعل أوي لو نزلت الشغل من غير ما تصبح عليا.
جذبها إليه عنوة فارتطمت بعظام صدره القوية: -مقدرش أعمل كده.
بللت حلقها الذي جف من كثرة عطشها إليه: -قهوتك هتبرد!

جُر من قلبه إلى نواة ال قهوة التي تتوسط صحن وجهها، وما أن لُدغت بحرارة أنفاسه همست باسمه بتوجس: -عاصي!
-أيه!
-هتتأخر على شغلك.
ابتعد عنها متحمحمًا بكبرياء متذكرًا ألاعيبها، فبرر قُربه قائلًا: -كنت بطمن على ضهرك بس؟
-هااه! لا بقا كويس.
غمز بطرف عينه وهو يضع الكرافت حول عنقه في اللحظة التي همت بربطها: -طيب بقا بلاش الحركات المُخلة دي بالليل عشان أوضتي مينفعش يحصل فيها كده. دي أوضة شخص محترم يا هانم.

أحمر وجهها خجلًا فعاقبته بضغطها على رابطة عنقه: -الحركات المخلة دي بتاعت ناس تانيين هما عارفين نفسهم كويس.
استقبل توترها وخجلها بابتسامة عريضة زادت من اضطرابها فتركت ما بيدها وقالت بعناد طفولي: -أنا غلطانة أصلًا إني بساعدك، أقول لك ألبس لوحدك.

ثم ركضت من أمامه كالأرنب الخائف نجو جحره وأخذت قهوتها وتقوست فوق المقعد الكائن بأحد زوايا الغرفة، نظر للمرآة حتى فرغ من لبسه، فأمسك كوب القهوة وعاد إليها بهيئته ووسامته التي أحدثت فتنة جديدة بقلبها الذي رحب بإقامته عمرًا. حاولت تحاشي النظر إليه كي لا تقع ضحية رجولته القاتلة بمشاعرها. جلس بجوارها:
-أي البوز ده!
-مايخصكش.
أخذ رشفة من كوب القهوة ثم أبدى إعجابه قائلًا: -دي أحلى مرة اشرب فيها كابتشينو.

ردت بحماس أنساها غضبها منه: -بجد عجبك!
اتسعت ابتسامته ليترك الكوب من يده على الطاولة وينهض ويجذبها بإصرارٍ كي تقف بين يديه، فانكمشت ملامحها كالطفلة المدللة منتظرة أن يُراضيها، أمسك بذقنها وقال بعتب: -التكشيرة دي لو شوفتها تاني محدش هيزعل غيرك.

كادت أن تُعارضه بتمرد، فأخرسها بسد الهواء عن ثغرها بضم شفتها العلوية بين طبقتي شوقه، ظلت لثوانٍ محاولة استيعاب ما سرى بكيانها فجأة وعن مصدر تلك العاصفة التي هبت من تحت قدميها حتى سلبها من عالمها إلى عالمه بضمها إلى حضنه ونالت مطامعه تلتهم بوابة مشاعرها بدون رأفة بقلبها الواهن. رست كفوفها فوق لوحي كتفه حتى ذابت تحت منعطف حبه كعود الريحان الذي يراقصه الهواء. احتلها حبه كأنه يقبل قلبها بكل قواه.

كل شيء يتجمد في الشتاء إلا العطر والشوق، كل منهما ينتشر باحثًا عن مصدر للتدفئة، بينما يحاول إضرام النيران بحقل مشاعرها المتوهجة يدفأ قلبه أكثر فأكثر. ثمل من نهرها العذب وتحرر من كل همومه على ضفتي ثغرها.

افترق عنها كي يتنهد، كي يأخذ أنفاسه المنقطعة ولكنه لم يُفارق جسدها المنتفض بعد، ضم رأسها إلى صدره كي يهدأ قلبه المتراقص وتهدأ ثورة جسدها التي أسهم في اشعالها. استراحت على صوت ضربات قلبه مستسلمة لحركة كفه الحنونة على ظهرها.
طبع قُبلة أخيرة على شعرها ثم همس مداعبًا: -أنا كده أخدت قهوتي وزيادة.
رفعت عينيها المنهكة إليه فباغتها ممازحًا: -مش قولنا بلاش الحركات المُخلة دي في أوضتي!

اتسعت عينيها بذهول من وقاحته وكادت أن تنفجر بوجهه فابتعد ضاحكًا وأخذ سترته السوداء ورحل قبل أن تفيق من غيوبتها العاطفية التي ما زالت تحت ظلها. ثم صاحت متوعدة:
-ماشي بس ترجع لي…

-هتعرفهم أمتى؟
أردفت شمس سؤالها بعد ما أنهى تميم إفطاره. فنهض ليغسل يده ثم عاد إليها قائلًا: -نرتاح شوية يا شمس ويكون الكل اتجمع.
لملمت المائدة ووضعتها على الطاولة: -تميم زي ما تحب. هروح أصحى نوران.
أمسك برسغها: -الساعة لسه 8 ونوران آكيد سهرانة بتذاكر طول الليل، سيبيها لما تصحى براحتها.
ألقت نظرة سريعة على قبضة يده حول ذراعها وقالت بصوت خافت: -طيب.
-هتعملي أيه؟

ردت بعشوائية: -مش عارفة، هاخد شاور وافضي الشنط، نام انت عشان جرحك.
دنى منها خطوة: -شمس مش هينفع نقعد مع بعض تحت سقف واحد وأنتِ زعلانة، سيبيني على الأقل اشرح لك.
-الكذب مفيهوش شرح يا تميم!
-وأنا مكذبتش يا شمس، أنا خبيت حقيقة حاجة تخصني ولأسباب بردو تخصني.
انفجرت عن صمتها: -ولما رميت نفسي في المية عشان ألحقك وانا مش بعرف أعوم، وأنت كنت قادر تنقذ نفسك وتخرج، مصعبتش عليك.

تنهد تميم بنفاذ صبر: -أهي عبلة عملت كده مخصوص ووقعتني في المية عشان تثبت للكل اني بمشي. وكنت مجبر اسكت عشان متنتصرش عليا!
اتسعت عينيها بذهول: -هي عارفة أنك بتمشي!
-ااه يا ستي تعرف، وانا متأكد انها هي السبب في ضرب النار علينا عشان تخلص مني. وأنتِ سايبة كل المصايب دي ومركزة بس إني كذبت عليكِ.
تفوه ثغرها بدهشة: -يانهار أبيض! معقولة تكون هي ورا اللي حصل؟
-مين غيرها له مصلحة!

اقترب منها أكثر خافضًا نبرة صوته وهو يداعب خصلات شعرها بيمينه: -أنا اللي اتفقت مع نوران ترفض تيجي معانا عشان كنت ناوي اقول لك هناك، ونقضي وقت حلو في دهب ونخرج براحتنا، بس شكلو كده نوران بصت في السفرية واضربت.
رغم عنها خرجت عن عبوس وجهها بضحكة هادئة وقالت معاتبة: -عشان تتفقوا عليا تاني.
-هو هيحصل، خليكي جاهزة لأي مفاجئات بعد كده.

ثم انحنى إلى وجنتها وطبع قُبلة طويلة شفت عليل قلبه ومحت آثار غضبها منه. ابتعدت عنه كالملدوغة خشية من تطور أمر لم تستعد له وقالت متحججة: -تمام، أنا هروح أشوف ورايا أيه عشان أعمله.

انتصف النهار بعد ساعات طويلة قضتها حياة بملل في غُرفتها، تنام تارة وتتطوف بأرجاء الغرفة طورًا، حتى نهضت وتحممت ثم ارتدت فستانًا باللون الأسود يخالطه اللون الأحمر يصل إلى ركبتها وحذاءً برقبة طويلة بوت باللون الأسود يغطى نصف عضلة الساق. رافعة شعرها على صورة ذيل حصان ووضعت شالًا شتويا باللون الأحمر على كتفيها والقليل من اللمسات التجميلية التي برزت جمالها أكثر. مع نفث القليل من العطر الذي قدمه لها في باريس.

فارقت التسريحة بعد ما دققت النظر في هيئتها واتجهت نحو هاتفها وكلمته بضيق:
-على فكرة أنا هموت من الزهق، أنت فين؟
أجابها بهدوء: -طيب انزلي استنيني في المكتب، 10 دقايق بالظبط وهوصل.
فسألتها مقترحة: -هنزل اطمن على البنات عشان وحشوني ولما تيجي عرفني، تمام!
فسألها ممداعبًا بحذرٍ إثر تواجد السائق والحارس معه بالسيارة: -البنات بس؟
-ااه البنات بس!
تحمحم بجدية: -جاي أشوف الموضوع ده حالًا.

قفلت بوجهه بدون أي انذار فاشعل روح الانتقام المحبب لقلبه منها راسمًا ابتسامة واسعة انكمشت على الفور عندما لاحظ تركيز السائق معه فقال بجدية: -شد شوية يا عم محمد…
وصلت حياة إلى غرفة البنات اللاتي استقبلوها بشوق وفرحة. وبعد تقبيلهم وعناقهم سألتهم: -هااا بتعملو أيه يا حلوين!
ردت تاليا: -الهوم ورك.
-طيب تحبوا اساعدكم!
-أحنا قربنا نخلص.
فسألتها داليا: -حياة. هنخرج تاني أمتى مع بابي.
-أنتوا عايزين تخرجوا؟

-yes.
أخفضت نبرة صوتها وقالت بوشوشة: -طيب سيبوني كده اقنع بابي واشوفه فاضي أمتى ونخرج كلنا. اتفقنا؟
هلل البنات بفرحة فجاءها في الحال صوت رنين هاتفها يعلن اتصاله. فقالت بخفوت: -أهو بابي جيه، هنزل اقنعه واجي أقولكم، اتفقنا!

ركضت حياة بعجل حتى تصل لعنده وتروي قلبها العطش من سويعات غيابه، لا تعلم السبب وراء لهفتها الطفولية وحماسها الشديد في رؤيتها ولكنها كانت تشعر بأنها فتاة في السادسة عشر من عمرها وستلتقي بحبيبها لأول مرة سرًا. طرقت باب مكتبه بهدوء ثم دخلت وقفلت الباب ورائها.

وجدته ينزع سترته السوداء ويعلقها على الشماعة الخشبية اقتربت منه بشغف مشتعل محاولة السيطرة على إخفائه ولكن المحب تفضحه عيناه مهما أخفى ذلك، لملمت شتات قلبها المبعثر وقالت: -على فكرة مينفعش كده.
دار إليها: -هو أيه؟
-أنا بزهق من القعدة لوحدي ووو.

خطفها بين ذرعيها على غفلة دافنًا أنفاسه لينطفئ شوفه بجدار عنقها بقبلات كثيرة وببطء جعلها تئن ضعفًا وهزيمة بين يديه، ‏ثم إنك تعانق أحدهم فتتمنى لو أنه لا ينتهي لا ينتهي هذا الشعور أبدًا. ‏لف ذراعيهِ حول خصرها ‏فانثَنيتُ نحوه مثل شجرةٍ فيَ مهبّ الريح وهي ترجوه: -عاصي!
-وحشتيني الكام ساعه دول.

‏ هل الحبُّ هوَ هذا الاحتياجُ المُضلِّلُ لأن يكونا المحبين ب جِوار بعضهم معظمَ الوقت بل أغلبه ويزيد!
ظلت تعبث بأناملها برابطة عنقه: -كنت ناوية اتخانق معاك، بس أنت صالحتني خلاص.
-منا شميت ريحة خناقة قلت ألحق نفسي. هاا نيجي للمهم!
-أيه؟
-وحشتك؟
تدللت بين يديه: -ريحة البرفيوم بتاعك بس اللي وحشتني.
-بس كده!
-ااه بس كده، وبعدين أنت جيت هنا ليه، تعالى فوق!
-عندي شُغل متراكم وحاجات لازم اراجعها بنفسي.

-أممم، أنا ممكن أساعدك لو حابب يعني!
-أحب جدًا.
قال كلمته الأخيرة وهو يهم بتقبيل الجهة الأخرى من جدار رقبتها فاطلقت ضحكة عالية بين يديه مختومة باسمه، في تلك اللحظة دخلت عبلة بدون إذن لتشاهدهم في اسمى لحظاتهم الخاصة، انتفضت حياة مبتعدة عنه أما هو فلم يكترث للأمر وجذبها لقربه مرة ثانية ويوبخ عبلة قائلًا:
-بعد كده نخبط قبل ندخل.
ردت عبلة غاضبة: -مكنتش أعرف أن اوضة المكتب اتقلبت كازينو!

رد ببرود: -وأديكي عرفتي.
زفر بضيق: -عالية اختك من امبارح مرجعتش البيت وموبايلها مقفول ومش عند سوزان ومش عارفة اوصلها؟
رد بعصبية: -ازاي يعني؟ هتكون راحت فين؟
-أنا جيت لك عشان تشوف أنت بقا.
خرجت عبلة ثم تابعها عاصي فحياة من باب المكتب، فجهر عاصي مناديًا: -كريم رجع من الجامعة ولا لسه؟
جاءت هدير من الخارج وهي تمقت حياة بنظرات حاقدة: -هما بيظهروا أمتى؟
دار نحوها آمرًا: -شوفي كريم أخوكي فين؟

ربتت على ذراعه بهدوء: -ممكن تهدى. العصبية مش حل، ممكن تكون عند حد من صُحابها.
رد بنفاذ صبر: -عالية عمرها ما عملتها وباتت برة البيت.
هنا جاءت عالية من الباب وهي تراقب الحشد المريب حولها فسألتهم: -في أيه!
ركضت عبلة إليها: -انطقي كنتِ فين من امبارح!
ابعد عاصي عبلة عنها وصرخ بوجهها ممسكًا بمعصمها بقوة: -أنت أزاي تباتي بره البيت؟ كُنت فين من امبارح!

تدخلت حياة بينهم وترجته: -عاصي شيل أيدك من عليها ماينفعش كده!
ردت عالية بجمود: -كنت عند طنط سوزان ووو
تدخلت عبلة: -انتي بتكذبي، أنا لسه قافلة مع سوزان.
تحولت ملامح عاصي لذئب مفترس وهو يبعد حياة عن طريقه ويشد عالية بقوة إليه: -كنت فين يا عالية؟
انخرطت دموعها وقالت: -في ايه يا عاصي أنا عمري مااعمل حاجة غلط لاسلوبك ده!
-وعايزة اسلوبي يكون عامل ازاي واختي بايتة برة بيتها ومعرفش طريقها؟

تدخلت عبلة لتزيد الأمر سوءًا: -انتِ كنتِ عند مُراد؟
-وهي هتروح لمراد ليه؟
ضحكت عبلة بسخرية: -ااه البيه مش دريان بحاجة، أختك حامل يا عاصي بيه!
فك قبضته من عليها بصدمة ويسألها: -حامل ازاي؟ يعني ايه حامل!
ردت عبلة: -حامل من جوزها والهانم عايزة ترجع له.

اندفعت الدموع من مقلتيها بغزارة: -عايز تعرف أنا كنت فين؟ كنت بلف طول الليل بالعربية مش قادرة ارجع واشم ريحة راجل غريب في البيت بعد بابي الله يرحمه. وأول ما طلع النهار روحت كملت اليوم في الجامعة، ولسه راجعة عشان للاسف معنديش مكان تاني أروحه.
قالت جملتها واندفعت لأعلى بسرعة البرق وهي تلعن وحدتها وقسوة الأيام حولها. وقّفت حياة أمام عاصي بنظرات عتاب وقالت بترجي: -لو سمحت روح صالحها.

ثم قربت منه: -عاصي عشان خاطري دي حامل وباين عليها التعب، وأنت كنت قاسي أوي معاها.
تلاقت أعينهم للحظات حتى اقنعته بتفيذ طلبها: -يالا، وأنا هروح اعملكم اتنين لمون.
نفذ ما ترجته لأجله بهدوء واتبع خطاوي أخته وهو يلوم نفسه عن انفعاله، اقتربت عبلة من حياة بنظرات الغل: -شكلك مش سهلة. بس ليكي صِرفة معايا، ووعد مني في اسرع وقت هتختفي من حياة عاصي…

تجنبت حياة شرها وتجاهلت الرد على سفهها وركضت ناحية المطبخ لتعد عصيرًا لعاصي وعالية. زفرت عبلة بتوعد: -هتشوفي يا بنت المصري…

وقفت نوران أمام عاصي معاتبة بجراءة: -وكمان ليك عين تيجي لهنا! عاجبك الحالة اللي وصلت لها دي؟ دلوقت لو حصل حاجة للي في بطنها هتشيل ذنبه العمر كله! انت هتروح من ربنا فين. دانا يابني آدم كنت ابتديت أغير وجهة نظري عنك لما مأذتش حياة، تقوم تعامل اختك كده! على فكرة تميم أول ما يصحى انا هقوله وهو هيتصرف معاك، اممممم خليك ساكت كده طبعا هتقول أيه؟ مش لاقي حاجة تبرر اللي عملته.

ربت على كتفها بإعجاب لقوتها: -روحي شوفيلك حاجة العبي فيها يا شاطرة.
ثم تركها وجلس بجوار عالية المنهارة من شدة البكاء. اقتربت منه نوران: -شاطرة دي تقولها لبناتك، انا عندي 18 سنة.
-انتِ بترغي كتير ليه، عكس شمس خالص!
ثم نظر لعالية ممازحًا: -مستحملة رغيها ازاي البنت دي! دي صداع!

ابتسمت عالية ببراءة فشدها عاصي إلى حضنه وقبل رأسها وقال معتذرًا: -حقك عليا، انا بس كنت خايف عليكي. انت بنتي الأولى يا عالية مش اختى، وقسوتي عليكِ خوف والله.
أجهشت بالبكاء في حضنه: -انت اكتر حد عارف يا عاصي إني معملش حاجة غلط. ومكنتش متوقعة منك تكلمني كده.
-خلاص بقا قولتلك حقك عليا ويا ستي شوفي أيه يراضيكي وانا هعمله. امسحي دموعك دي وبطلي هبل.
جففت عالية دموعها وقالت بصوت باكي: -خلاص مش زعلانة.

تدخلت نوران معارضة: -هو ضحك عليكي بكلمتين! لا طبعا متسكتيش وخلي عندك شخصية كده وعرفيه غلطه.
فاض صبر عاصي منها ف جاكرها قائلًا: -واحد واخته انتِ مزعلة نفسك ليه يا حقنة أنتِ؟
-عشان اللي يزعل صحبتي أكسر دماغه.
-معنى كده عايزة تكسري دماغي؟
تراجعت نوران للوراء بتردد ثم قالت: -مش قصدي بس يوووه، عالية على فكرة انا استاهل اني بدافع عنك وانت تتصالحي كده بكلمتين وبوسة.

جاءت حياة حاملة العصير وقدمته لهم وهي تقول: -عارفة لو مكنش صالحك، كنت هقيم الحد على أخوكي.
عاصي باستنكار: -انتوا اتفقتوا عليا ولا ايه؟ ابسطي يا ست عالية كل دول أعلنوا الحرب عليا عشانك.
حياة بمزاح: -هاا يا عالية، سامحتيه ولا اتعامل أنا؟
تدخل عاصي: -ياستي انتِ بتتلككي عشان تتخانقي، اهي بتضحك وبتشرب العصير كمان!
احتوتها حياة بحب: -حقك عليا أنا، أخوكي يعني لازم تكوني اتعودتي.

ثم جففت اثار الدموع من فوق وجنتيها وهمست: -استغلي الفرصة يلا واطلبي منه أي حاجة عايزاها بسرعة، خليكي استغلالية.
تدخلت نوران: -اهو تطلعي أي مصلحة وخلاص.
وبخها عاصي ضاحكًا: -انتِ لسه هنا بتعملي ايه!
أخذت كوب العصير الثالت وقالت متحججة: -بشرب العصير أهو…
تجمهر صوت ضحكاتهم فجاءت شمس في تلك اللحظة وهي تراقبهم بنظرات استفهامية حتى قالت: -عالية. تميم عايزك أنتِ وعاصي بيه تحت.
عالية بتعجب: -في حاجة يا شمس.

-هتعرفي لما تنزلي. يالا.
ساعد عاصي اخته في القيام وضمها لحضنه كإعتذار جديد منه عما فعله وتحركوا جميعًا إلى أسفل في انتظار ما سيخبرهم به تميم.
احتشد الجميع بالأسفل حتى طل عليهم تميم يهبض درجات السلم برفقة شمس فتحولت نظراتهم إلى اسهم ثاقبة من شدة الدهشة، صرخت عالية فارحة باسمهم فلم تنتظر قدومه إليهم فاندفعت نحوه بفرحة عارمة: -تَميم، انت واقف. انت انت خفيت امتى! حمد لله على سلامتك يا حبيب قلبي.

ثم ابتعدت عنه وأخذت تفحصه: -حمدلله على سلامتك ياحبيبي انا مش مصدقة! بجد حاسة إني بحلم؟ ياااه يا تميم اخيرًا رجعت وسطينا يا حبيبي! بس دراعك ماله!
رد بهدوء: -عادي حادثة خفيفة كده.
ما خطت قدميه نهاية السُلم فاستقبله عاصي بحضنٍ طويل وهو يربت على كتفيه بتشجيع: -حمدلله على سلامتك يا بطل. والله زمان!

ثم قبل جبينه معبرا عن فرحته: -وحشتنا كلنا يا حبيبي. يلا بقا عشان نرجع نلعب كورة زي زمان، انا ليا 12 سنة ملعبتش بسببك.
ربت تميم على كتف أخيه: -تسلم يا عاصي.
ضمت عالية اخوتها بكل حب وهي تقول: -انا النهاردة مش عايزة حاجة من الدنيا.
أقدمت عبلة وهي تقول بجمود: -مفاجاة حلو يا تميم.
فتدخلت حياة بفرحة: -حمدلله على السلامة يا تميم. مبروك يا شمس.
-تسلمي يا حياة.

تدخلت نوران ممازحة: -انا سترت عليك أهو ومعرفش مسكت لساني ازاي.
نظرت لها شمس بتوعد: -انتِ استنى عليا بس.
جاء كريم من الخارج فقز بحضن تميم بهمجية جعله يتأوه قائلًا بصوت جمهوري:
-تميم! والله زمان ياابني وحشتنا والله…
رد تميم بصوت مختنق: -يابني أنا كده هوحشك للابد.
انضمت لهم سيدة وهي تستشير شمس: -ازغرد يا دكتورة!
-زغردي يا سيدة…
تعالت ضحكات الجميع حتى مال كريم على آذان نوران معاتبًا: -فاتني كتير!
-متعدش!

-ماقولتيش ليه؟
-لا بقا شوف لك مخبر غيري انا مابقتش لاحقة اشاهد ولا اخبرك…
-ايه يابنتي الندالة دي.
نادت شمس على اختها بحدة وهي تنظر لكريم بضيق: -نوران، تعالى معايا نساعد سيدة في الشربات…
-الصلاة ع الصلاة، متجمعين عند النبي يا حضرات؟
في تلك الاثناء جاء فريد من أعلى مرتديا ملابس تنتمي للبحر، طالعه تميم بدهشة متسائلًا: -مين فُرقع لوز؟
وقفت عبلة لاستقبال فريد وقالت بتباهٍ: -فريد، جوزي.

مالت هدير على أمها وقالت بهمس قبل أن تغادر: -أختك طارت منها على الأخر.
فزع عاصي من مجلسها وبيده حياة قائلًا بحزم: -تعالى.
مالت شمس على نوران بتسائل: -ده طلع منين؟
شرعت نوران ان تقص عليها بثرثرة ولكنها ألجمتها: -اييه افصلي، اطلعي فوق دلوقتِ.
ثم سارت نحو تميم وأخبرته: -ميعاد علاجك يلا.
أخذ فريد يُراقب تسلل الجميع من حوله، فقال معترضًا: -أيه هو إذا حضرت الشياطين انصرفت الملايكة؟

وصل عاصي إلى غرفته التي قفل بابها بقوة جعلتها تنتفض بجواره. جلس على أقرب أريكة وتناول سيجارة رماها بفمه واشعلها بغضب يتبخر في دخان تبغه. جلست حياة بجواره وربتت على ساقه قائلة:
-عاصي وبعدين فين، خلاص اتقبل وجوده وانا واثقة ان الجوازة دي مش هتكمل يومين كمان.
-قفلنا اليوم ابن ال.
-خلاص بقا مش هنقضي اليوم كله نتكلم عليه، ولا كأنه موجود.

ساد الصمت بينهم للحظات حتى قطعته بقبلة كانت من نصيب وجنته وقالت: -دي عشان سمعت كلامي وصالحت عالية.
-عالية طيبة اوي يا حياة وبتصدق أي حد.
-مش مبرر إنك تكلمها بالطريقة دي، بس موضوع وخلص المهم فك كده. اعمل لك أيه عشان تفك، ارقص لك؟
رفع حاجبه وكأن الفكرة راقت له: -بتعرفي!
ضحكت بصوت عالٍ: -ياربي منك. ااه بعرف بس آكيد مش هرقص يعني.

ضاقت عينيه بتخابث: -اصلا مكنتش هوافق ترقصي دي حركات مُخلة، ميصحش تحصل في أوضتي.
-عاصي على فكرة أنت رخم، أنا بحاول اخرجك من المود مش أكتر.
تصنع الغضب: -وانا لسه مخرجتش. اتصرفي!
-الله اعمل أيه تاني!
قال بمكر: -شوفي بقا يا بتاعت الروايات والخيال،!
فكرت بصوت مسموع حتى قالت بتفاخر: -على فكرة أنا لو شغلت خيالي عليك هجننك، ده رأفة بيك بس بتعامل عادي.

نفث دخان تبغه متحسرًا على الحالة التي وصل اليها في حضرة عشقها ومازالت لم تستخدم اسلحتها الانثوية الجبارة، فماذا ستفعل بعقله إن فعلت؟
وثبت من مكانها وجلست على فخذه ثم شدت لفافة التبغ من يده وثنتها بقلب المطفأة، عقد حاجبيه متعجبًا: -أيه!
-أنا عُمري ما كنت اتخيل إني هعمل مع حد اللي بعمله معاك، انا معرفش ليه قلبي مسلم ليك أوي كده وبيتصرف بجنان. بقا يتشد ليك وبس، أنت عملت فيه أيه؟
-عشقته!

باردت بتقبيله تلك المرة كمحاولة إرضاء لغضبه ولشوقها الثائر إليه. غرقت معه بعالم الخيال والحب، استلذ بقربها كبستان تساقط عليه وردًا نديًا. اغرقته بذكائها كأنها تريد أن تثبت له نصًا قديمًا دونته في أحد كُتبها أنا الحورية التَي جاءت من قاع البحر وسرقتَ عقل الأمير حتى بات ‌يَنطق اسمها في الليلِ الباردِ او في الدَروب ويفتش عنها بين الشعوب، احتلت عقلهُ وبتفكيرهِ بها الدائم غيرتِ المَكتوبُ وجَاء اليهَا وقَسم انهُ سوف يتوبَ.

أن تُحب أحدهم يعني أنك حصلت على فرصة جديدة للحياة. كانت يديه تتحرك على خصرها ذهابًا وأيابًا حتى اسكرته من شهد حبها، كلاهما غرقا ببحر الشوق فمن سينتشلهم! تحرر في فنائها واخترق قوانينها فهمست إليه: -كده 2: 2 يا عاصي بيه، متعادلين.
ما أن ألقت جمر كلمتها فرت من بين يديه لتحتمي بالحمام من ثأره الذي سينالها. أطلق تنهيدة عالية استرد بها وعيه وقوته وتحرك ناحية الحمام هاتفًا:.

-مسيرك يا بلح تقع من غير ما أهزك.

‏ إنَّ الحُبّ هو الإحساس الذي يشملُ كلّ شيء، ولأجلِ ذلكَ حينَ يعشقُ المرء ينتقلُ العالم إلى داخلِه، من أصغرِ الأشياء إلى أكبرها، دونَ أيّ فرق.
-بس حوار الحمل ده، ضربة معلم، جبتيها ازاي؟
قالت نوران جملتها بحماس لعالية فاجابتها: -حبيت اخلص من اللي اسمه وليد ده، كذبت والكذبة كبرت مني.
-اي الحظ ده! بس كده لازم الاخ التاني يتلحلح.
-اكيد مش هروح اقوله تعالى اتقدملي ده عاصي يولع فينا.

نوران بتفكير: -ده كان زمان، قبل حوار الحمل ده. انما دلوقت خال العيال هيرحب بيه ومش هيقدر يتكلم. لا واستنى كمان احنا ممكن نستغل حياة تاثر على عاصي وباين عليها اصلا مسيطرة على أخوكي. والله عاش يا نوران ياام الافكار.
ضحكت عالية على خفتها: -بصراحة فكرة حلوة.
ركضت نوران ناحية النافذة إثر سماعها لصوت سيارة، فقالت: -عاصي مشي. بصي هروح لحياة وانزلك.
-هتقوليلها ايه؟ استنى أما اتكلم مع مراد الاول.

-مش هقول متقلقيش.
ماكادت ان تخطو خطوتين فتراجعت: -لولا هو ليلة كاملة نايمة في مكتب الجدع ده محاولش مثلا يقول كلمة كده ولا يحاول يمسك ايدك مثلا، اي اونطة.
احمر وجه عالية خجلًا: -مراد محترم يا نوران مفيش الكلام ده.
غمغمت ساخرة: -دي امه جيهان واخته هدير العقربة! يالا اللي مصبرني عليه انك واقعة وبتحبيه.
ضحكت عالية: -طيب امشي…

انصرفت نوران وصعدت لأعلى لغُرفة حياة وما ان طرقت الباب دب الخوف في قلب حياة خشية من عودته، فركضت ناحية الباب وقالت:
-مين؟
-انا نوران.
فتحت الباب بسرعة وهي تقول: -تعالى يا نوران. تعالى.
قفلت نوران الباب وجاءت معتذرة من حياة معترفة بجريمتها السابقة بحقها وحقيقة إبلاغ عاصي عن محاولة هروبها من القصر حتى ختمت حديثها:
-انا كنت خايفة عليكِ اوي والله، ومتتصوريش فرحت ازاي لما شوفتك.

ضمتها حياة بامتنان: -لا يا نوران، انتِ عملتي أصح حاجة في حياتي، ياعالم لو كنت هربت كان هيحصل فيا ايه، انا اللي المفروض اشكرك.
هتفت نوران بفرح: -يعني مش زعلانة!
تقمصت حياة دور الصخب: -شوية بس أنتِ ممكن تصلحيها.
-ازاي.
مسكتها من كفّها وسحبتها خلفها وجلس الاثنان على الأريكة وقالت لها حياة مستغلة الأمر:.

-زي ما انتِ عارفة بكرة اخر يوم في السنة، وكنت حابة احتفل وأعمل مفاجأة لعاصي، وبحكم انك بتخرجي ممكن استغلك تجيبي لي حاجات من بره وكده. ده لو هينفع يعني.
-اممم استغلال!
ثم ارتسمت على ثغرها ضحكة عريضة: -انا مش عارفة من غيري كان مين هيظبط لكم حياتكم العاطفية. قولي قولي عايزة أيه.
تحمست حياة: -كتب لك ورقة عدي عليا الصبح خديها. معلش يا نوران هتعبك معايا، ومش عايزة اطلب أوردر القصر كله هيعرف.

-لا وعلى أيه نوران ستر وغطى، أي اوامر تانية!
ردت حياة بحماس: -بجد مرسي. بحبك اوي.
-طيب انا هنزل قبل ما يجي جوزك واتخانق معاه تاني.
ضحكت حياة على عفويتها وقالت: -ممكن تعدي على اوضة تاليا وداليا وتقوليلهم يجوا.
-حاضر يا ستي.

حل منتصف الليل حتى تفرغ عاصي من قضاء اشغاله بالشركة والتجهيز للحفل السنوي الخاص بالعلامة التجارية الجديدة حتى قرر أن يعود لينتقم من حوريته. وكانت صدمته عندما عاد وجدها نائمة بين بناته وكأنها تحتمي بهن من غدره كألا ينفرد بها بالليل. عض على شفته متوعدًا وهمس لنفسه سرا وهو يبدل ملابسه بضيق:
-ماشي، أما نشوف هترهبي لحد أمتى…

نام عاصي على الأريكة حتى اطمئن قلب حياة التي تمثل أنها تحت سطوة النوم فعلى ثغرها ضحكة انتصار وخلدت لنوم عميق…
حل الصباح فتعمدت حياة ألا تواجهه كي تنفذ مخططها الليلي بنجاح وانتظرت حتى فاق وارتدى ملابسه الرسمية وخرج لعمله. ذهب عاصي إلى الشركة وبعد ساعات من العمل المتواصل جاءت مديرة مكتبه وأخبرته:
-عاصي بيه، المهندس مراد المحلاوي عايز يقابلك.
ترك القلم من يده ونزع نظارته الطبيه: -مراد! ده أيه جايه؟

ثم رفع صوته: -دخليه.
دخل مراد مرتديًا بدلته السوداء وجلس على المقعد المُقابل لمكتب عاصي الذي سأله:
-خير ياابن خالتي؟
-تمام هدخل في الموضوع على طول.
-يا ريت؟
-عاصي انا جاي اطلب منك أيد عالية.